الثلاثاء، 27 يناير 2015

الخطأ في نسبة أبي بكر الإسماعيلي صاحب كتاب (اعتقاد أئمة الحديث) إلى الأشاعرة


إن نسبة الإمام الإسماعيلي للأشاعرة أقل ما يقال فيه أنه خطأ علمي ظاهر، وأنها نسبة لا علاقة لها بالحقيقة من قريب أو بعيد، ومع هذا نجد أحد الباحثين قد ادعى هذا الكلام وحاول أن يدلل عليه بإبراز بعض القرائن التي لم يجد غيرها فضخمها وبنى عليها مثل هذه الدعوى، وإن بناءه نسبة الإمام الإسماعيلي للأشعرية على:
- أن ابن عساكر ذكره فيهم
- وأن الإسماعيلي حث على تعلم الكلام في آخر عمره
- وأنه أول بعض الصفات
- وأنه ينفي العلم بالكيف
- وأنه ينفي بعض الألفاظ المجملة
يدلّ على أن الباحث إنما انطلق من فكرة مسبقة جمع لها مثل هذه القرائن، فهو يحاول الوصول إلى ما استقر في ذهنه ابتداءً بعيدًا عن التحقيق المجرد.
1-  فابن عساكر لا يسلّم له ما ادعاه كما ذكر ابن المبرد، بل متن اعتقاد أئمة الحديث للإسماعيلي الذي هو محل بحثنا هنا حجةٌ عليه وراد لادعائه.
2- وقصة حثه على تعلم الكلام لابد من إثباتها لا مجرد نقلها عن ابن العربي مع بعد ما بينهما من الزمان، ثم إن صحت؛ فلا شيء فيها وتحمل على تعلم المفيد منه مما لا يخالف الكتاب والسنة، أو تعلم مطلق الحجاج العقلي عن العقيدة لا أوضاع المتكلمين الخاصة، وإن خُطِّأ في هذا وقيل بأنه اجتهاد خاص؛ فأيضًا لا إشكال، ولا أدري كيف يصير أشعريًا بمثل ذلك إن سلمنا جدلًا أنه صح.
3-  وتأويل بعض الصفات لا يعني أن المؤول لهذا البعض صار -تلقائيًا- أشعري.
4- ونفي العلم بالكيف هو قولنا فلا أدري ما وجه المفاصلة في هذا المبحث!
5- ونفي الألفاظ المجملة لا نقره منهجًا لكونها صارت في العصور المتأخرة مجملة ومورد تلبيس، ولكننا ننفيها بلا تردد إن أريد بها معناها اللغوي التمثيلي الذي أراده بنفيها الإمام الإسماعيلي، وبالتالي لا نخالفه حتى في هذه النقطة إلا من جهة الأسلوب ومنهج البيان المناسب بعد تضخم مضامين هذه الألفاظ، فننفي الجسم بمعنى البدن المؤلف، وننفي التحديد بمعنى أن يحاط به، وننفي الأعضاء بمعنى الأجزاء والقطع، وننفي الجوارح بمعنى ما يجترح به ويفتقر إليه للاكتساب، لا نتردد في نفيها، ولم تكن مجملة سابقًا فكان ينفيها من ينفيها مريدًا معناها اللغوي، ولكن نبتت نابتة صارت تتكىء عليها في نفي معانٍ أخرى خلاف معانيها اللغوية المضافة للمخلوق، فعندها صارت مجملة ينبغي الاستفسار عن مراد المتكلم بنفيها.

إذن صار الخلاف بيننا وبين الإسماعيلي محصورًا في تأويله بعض الصفات، ولا إشكال في هذا على التحقيق، فإننا نفرق بين من ينكر جنس الصفات الخبرية وبين من أخطأ فتأول البعض بلا موجب، وقس عليه من خالف في الفقه وخرج باجتهاد خاطىء عن معتمد مذهبه أو حتى اتفاق الأربعة، أتصيّره موافقته لمذهب ما في حكم فقهي مخالف لمعتمد مذهبه من أتباع المذهب الآخر ضربة لازب؟ أم تصيّره مخالفة الأربعة منحرفًا عن فقه أهل السنة متبعًا لغير سبيلهم ومسلوب الإمامة لا عذر له؟
فقارن بين ما تمسك به الباحث من قرائن في محاولته إثبات أشعرية الإسماعيلي -والتي رددناها بجرة قلم وجمل بسيطة- وبين مضامين عقيدته المناقضة صراحةً للتقرير الأشعري والتي سنوردها مع التعليق:

1- قوله في اتصاف الله بيدين اثنتين مبسوطتين هما صفتين حقيقتين، فقال بعد حثه على إثبات الصفات: "خلق آدم بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء بلا اعتقاد كيف" وقال كذلك: "بلا اعتقاد (كيف يداه)، إذ لم ينطق كتاب الله تعالى فيه بكيف" اهـ
أما قوله بعد ذلك "ولا يعتقد فيه الأعضاء والجوارح، ولا الطول والعرض، والغلظ والدقة" فنوافقه على نفي هذه الأمور بمعناها اللغوي، والأصل أن الإمام يتكلم بلغة العرب، فالأعضاء من العضة أي القطعة والجزء، ومنه قول الرجل: عضيت المال، ومنه قوله تعالى }الذين جعلوا القرءان عضين{ فننفيها بلا مرية ولا تردد ولكن على معناها اللغوي، وكذلك الجوارح التي بمعنى ما يفتقر إليه في الاجتراح: أي الاكتساب، ولذا سميت بعض الحيوانات جوارحًا لاكتسابها الصيود، فننفي هذه أيضًا بلا تردد على ما بين من معناها، فإن قال معترض: لماذا إذن يتوقف كثير من متأخري أصحابكم نفيًا وإثباتًا ويدّعون أولوية ذلك؟ قلنا: لأن المتكلمين أقحموا في هذه الألفاظ أمورًا فوق معناها اللغوي، فوجب التوقف حتى نفهمهم المعنى اللغوي الإضافي الخاص بالمخلوق، ثم ننفيه، ولا نبدأهم بالنفي كي لا تلتبس الأمور كما هو واضح هاهنا حيث يظن القوم أنهم كلما وجدوا إمامًا ينفي الجارحة والعضو نسبوه إليهم وكأننا نحن نثبت هذا الذي نفوه في المقابل! وكأننا نقول: هذه الصفات التي نثبتها جوارح وأعضاء! بل ننفي كما نفوا مع التنبيه على أننا ننفي المعنى اللغوي المضاف للمخلوق، لا ما يلصقونه بهذه الألفاظ من معان أخرى يلزم منها نفي ما ثبت في الوحي من صفات، فإن قيل: لعله هنا يثبت اليد مفوضة المعنى؟ فنقول: مدعي ذلك مطالب بالدليل على أن الإسماعيلي يعد هذه الألفاظ طلاسمًا ونقوشًا لا يفهم منها شيء، أو أنه يعدها صفةً لا يفهم منها أكثر من كونها صفة، بل كيف يفهم أنها صفة دون أن يفهم معنى هذه الصفة، فإنه إنما يفهم المعنى ثم يعلم من المعنى أنه صفة، فتقول مثلًا: الاستواء هو العلو والارتفاع، والعلو والارتفاع وصفان للذات، إذن الاستواء صفة، ولا يقال: الاستواء وصف، ثم يبحث هل يثبت معنى الاستواء أم لا! فكيف عرفت أنه وصف لما قام بذات الإله أصلًا ما دمت لم تفهم معناه بعد؟  إذن لا يوجد في كلامه ما يدل على تفويض الإشاعرة، والأصل حمل كلامه على ظاهره من قصد الإثبات، ثم هو لم يثبت اليد فقط، بل أثبتهما يدان، بل نسب إليهما البسط كما في الآية، وما كان ليفعل ذلك إلا وهو يرى أن للبسط تعلقًا بما يفهم العاقل من لفظة (يد)، وأخيرًا؛ حين يحذر من التكييف ومن إثباتها جارحةً أو عضوًا يدلنا ذلك أنها مفهومة عنده، وأن المفهوم منها قد يلتبس على من لم يعرف حقيقة التنزيه فيكيفها أو يجعلها من الجوارح، فحذر من هذا، ولولا أنه يثبتها مفهومة لما لزم التحذير من لوازم المعنى المفهوم، فإنك لا تنفي اللوازم حتى تثبت شيئًا ما، ثم تخشى أن يفهم منك السامع إثبات اللوازم فوق ما تريد إثباته، فتنفي اللوازم الباطلة، وهذا ما جرى هنا، أثبت الصفة مفهومة، ونفى لوازمها الخاصة بالمخلوق.

2- قوله في الاستواء بلا الكيف: "فإن الله أنهى إلى أنه استوى على العرش، ولم يذكر كيف كان استواؤه" اهـ
ماهر: وقد استدل الباحث بما ينفيه الإمام من الكيف ليدلل على كونه أشعريًا، فهل من يثبت شيئًا وينفي علمه بالكيف لأنه لم يُذكر في وحي ولا يتوصل إليه بوهم؛ يكون رافعًا لأصل الكيف والمعنى المفهوم؟ ثم إن الإمام ذكر سبب قوله الذي قاله في الكيف بأنه "لم يذكر كيف كان استواؤه" أي أن سبب ما قاله التوقيف، لا أن ذلك ممتنع عقلًا أو يلزم منه تمثيل أو تشبيه أو ندية، ثم من قال أن هذه المسألة مما يثبت بها انتماء الشخص العقدي؟ فإن الكيف عندنا هو الحقيقة والكنه، فهل يخالف أحد بأن لصفاته سبحانه حقيقة وكنه لا علم لنا بها؟ وللباقلاني تحرير للمراد بالكيف بل كذلك لسعيد فودة -ألد أعداء الكيف- تفصيلٌ مآله تصحيح قولنا حيث قَبِلَ إثبات الكيف إن أريد به الحقيقة، فهل يصير بهذا من أصحابنا -على منطق الباحث- لأنه قبل إثبات الكيف بحيثية ما؟ 
والقاعدة في هذا المبحث: أن كل إمام نفى الكيف فمراده إما نفي العلم بالكيف عمومًا، أو منع إثبات كيف معين قد يخطر على بال المخلوق، الأول كما في أثر مالك، والثاني كما في بعض آثار السلف التي يقولون فيها (بلا كيف) أو (ولا كيف) والتي فهم منها القوم نفي مطلق الكيف منع إثبات كيف المعين ومرادهم: ولا تقل فيها أو تثبت كيفية معينة.
فإن قيل: الاستواء المثبت هنا مفوض، قلنا: نفي الكيف فرع إثبات المعنى، فلو كلمك رجل فقال لك: فلان فعل @#$% فسألته: كيف فعله؟ سيعلم كل سامع أنك فهمت معنى @#$% ، وكذلك إن قال لك: فلان فعل @#$% ولا أدري كيف فعله، وكذلك إن قال لك: فلان متصف ب@#$% ولا أدري كيف اتصف بهذه الصفة واستطاع أن يتحلى بها، فنفي العلم بالكيف لا يكون مفيدًا إلا بعد ثبوت مفهوم للصفة.
3-  قوله في إثبات صفة الوجه وتضليل نفاتها: "ويثبتون أن له وجهًا ... لا على ما يقول أهل الزيغ من المعتزلة وغيرهم" اهـ
ماهر: المفيد هنا أن الإمام يرى عدم إثبات الوجه= زيغًا من قول المعتزلة ومن شاكلهم، فهذا حكمه في نفاة صفة الوجه، فمن ينفيها اليوم ويؤولها ويخالف السلف في إثباتها -ولو فرضنا أنهم أثبتوها مفوضة المعنى- فهو زائغ عند الإمام، ثم إن الزعم بأن الإسماعيلي يفوضها يحتاج إلى دليل ولا يقبل فيه التأويل، فظاهر كلامه إثباتها مفهومة، والمخالف بين أمرين: أن يأتي بدليل واضح يدل على أنه يفوضها، أو يخطىء الإمام.

4-  قوله في صفة الكلام: حيث استدل بقوله تعالى }فأجره حتى يسمع كلام الله{ واستدل بقوله سبحانه }إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون{، فهل هذه أدلة من يثبت كلامًا نفسيًا ليس بصوت مسموع ولا حروف كــ (كن)؟ إن مجرد الاستدلال بهاتين الآيتين كاشف عن معتقد المستدل، فإنهما مشكلتان على مذهب الأشاعرة ومؤولتان بأن المراد بالأولى الكلام اللفظي وبالثانية أنها معبرة عن سرعة الإيجاد، فكيف يصير المشكل المؤول دليلًا عند الإمام الإسماعيلي لو كان قائلًا بمقالة الأشعرية ونافيًا للكلام اللفظي كصفة للإله؟ وكيف يستدل بهاتين الآيتين في إثبات الصفة؟ ثم إن هاهنا مشكلة أخرى فيما يخص الاستدلال بآية التكوين على صفة الكلام، وهو أن قول الله (كن) في الآية متعلق بالإرادة، والكلام المتعلق بالإرادة حادث! فهل يقول الأشعرية بأن الكلام متعلق بالإرادة؟ ثم لو تجاوزنا كل هذا؛ هل كان ليسكت الإمام عن إثبات الكلام النفسي في هذا المقام لو كان يقول به؟ لاسيما وأنه في موضع مفاصلة مع المعتزلة والجهمية، قاصد لبيان معتقد أهل الحديث والسنة وما يميزهم؟
ومع كفاية السابق إلا أنه يقول قاطعًا كل شبهة: "القرءان كلام الله غير مخلوق، وأنه كيفما تصرف بقرءة القارىء له، وبلفظه، ومحفظًا بالصدور، متلوًا بالألسن مكتوبًا في المصاحف، غير مخلوق، ومن قال بخلق اللفظ بالقرءان يريد به القرءان، فقد قال بخلق القرءان" اهـ
ماهر: فقل لي بالله عليك ماذا تريد منه أن يقول فوق ذلك ليتبين لك أنه مخالف لأهم أركان العقيدة الأشعرية، وهو قولهم في الكلام النفسي!


5- كلامه في إثبات النزول، وليس النزول كلفظ غير  مفهوم، بل معدى بـ إلى السماء الدنيا، فيقول:
"وأنه عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا على ما صح به الخبر على ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا اعتقاد كيف فيه" اهـ
ماهر: أي بلا اعتقاد كيف معين وبلا سؤال عن كيف، فليس فقط يثبت صفةً تسمى (نزول) أخذها من الحديث، بل نص بأن مأخذ الصفة في الحديث هو (النزول إلى السماء الدنيا) والأصل في هذا أنه لا تفويض فيه إلا أن يتأول كلامه، ولا نقبل تأويله فالأصل حمله على ظاهره لاسيما وأننا في مقام تحقيق عقيدة الإمام، ثم إن ادعى مدعٍ أنه أثبت النزول مفوضًا وطلسمًا لا معنى له؛ طالبناه ما طالبنا به مدعي التفويض في صفة اليد، فنقول: ما الدليل على أنه لا يثبت منها إلا حروفًا لا معنى لها ولا يفهم منها شيء كالرموز والطلاسم؟  أو ما الدليل على أنه يثبتها صفةً لا يعلم أكثر من أنها صفة؟ ثم لم جعل مأخذ إثبات الصفة في الحديث لا فقط لفظة (النزول) وإنما كونها معداة بــ (إلى) وكونه نزولًا (إلى السماء الدنيا) إذ هو ليس في مقام إيراد الحديث وإنما في مقام إثبات ما يقوم بذاته سبحانه، فلماذا لم يكتف بإثبات أنه ينزل كما صح في الخبر دون تقييده بأنه إلى السماء الدنيا؟ ثم كيف ينفي الكيف من لا يثبت مفهومًا للكلام أصلًا؟

6- قوله في الإيمان وأنه قول وعمل، فقال:
"وقال كثير منهم (أي أهل الحديث): إن الإيمان قول وعمل" اهـ
ماهر: فأين هو من إرجاء العمل عند الأشاعرة وسائر طوائف الإرجاء بدرجاته المختلفة؟ نعم قد يُتَأول مراده، ولكن لا يؤخذ في تحقيق الأقوال إلا الظاهر، وإلا صار ما ننسبه للأئمة من عقائد تبعًا لأهوائنا ومدى قدرتنا على تأويل كلامهم ليوافق ما نعتقده نحن، لا ما يعتقدونه هم، ثم إن التأويل لابد له من قرينة، كأن يصرح الإمام بإرادته غير المعنى الظاهر هنا من دخول العمل في مسمى الإيمان، ودون إيجاد القرينة خرط القتاد،بل كيف يقصد إلى الإلغاز في هذه المسألة التي هي محل نزاع مع المعتزلة والمرجئة بمختلف طوائفهم فيقول مثل هذا الكلام المؤول تأويلًا بعيدًا عن ظاهره البادي لكل قارىء؛ وهو في مقام بيان معتقد أهل الحديث ومميزات عقيدتهم عن عقائد مخالفيهم؟
والقوم وإن وجدوا مبررًا -بزعمهم- لتأويل نصوص الوحي الذي ينبغي أن لا يخالف العقل، والذي أنتج عندهم قانون تأويلٍ أجروه فيما اعتبروه ظنيًا في الأول -النقل- موافقةً لما اعتبروه قطعيًا في الثاني -العقل  الكلامي-، فإن هذا المبرر غير قائم في كلام الأئمة ونصوصهم، فإنه لا يمتنع أن يخالفوا قطعي العقل ويخطئوا، فتأويل كلامهم لمجرد أن يوافق المنتج الكلامي الذي يحسبونه عقلًا قطعيًا= لعب بكلامهم، ومن ينتسب إلى إمام بناءً على ظاهر كلامه= أولى بالإمام ممن يأول كلامه لينسبه إليه.
ختامًا: لابد من أن يتبصر كل طرف بمقالة الطرف الآخر، ويتجرد بعدها للحق قبل الكتابة والنقد والتحقيق، فإن كثيرًا من الخلافات كان يمكن أن تجتنب وتحل لو أبصر كل طرف مواطن النزاع مع الطرف الآخر، فأراح نفسه وأراح غيره، والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق