[وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله- أليعازر بن هركانوس]
.
.
قال سبحانه: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ...﴾ (التوبة: 30)، وقد جرت في هذه الآية أقلام المفسرين، وتشاغل بها طلاب الأديان قديماً وحديثاً، واتُّهِمَ لأجلها أصدق الصادقين، فقيل: من هذا الذي قالت فيه اليهود ما لم تقله في موسى كليمِ الله؟ وأي طائفة رمت بهذه الكلمة العظيمة؟
وذا بحثٌ يروم النظر من زاوية جديدة، وغايته أن يربط بين هذا الاسم القرءاني "عُزير" وحَبرٍ من أعلام اليهود في عصر التلمود، بلغ فيهم مبلغ القداسة والطاعة، مع شموله غيره.
.
[قولُ الله وتأويل المفسّرين]
.
قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ عُزَیۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَـٰرَى ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَ ٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡۖ یُضَـٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَبۡلُۚ قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ ٣٠ ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ ٰحِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ ٣١﴾ (التوبة: 30–31).
فذهب مفسرون إلى أن عزيرًا هو عزرا الكاتب، الذي استرد التوراة بعد السبي البابلي، فلما رأوه أحياها، قالوا: ما فعل هذا إلا وهو ابن الله. وقال بعضهم: هو قول رجل واحد، اسمه فنحاص، وهو نفسه القائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ (آل عمران: 181). واختار آخرون أنه قول طائفة من يهود المدينة، لا عامتهم، فكأنّهم تأوَّلوه على الخصوص لا العموم.
.
[نقد التأويلات]
.
غير أن هذه الأقوال، على وجاهتها وقوتها لما سترى في آخر البحث، إلا أنها باقيةٌ في حيز الاحتمال، ومن هنا جاء طعن المستشرقين بأن القرءان نسب إلى اليهود ما لا يقولونه.
ومن عَجَبٍ أنهم ينسبون للنبي الأمي اقتباس دقائق الأمور من أهل الكتاب، وغير أهل الكتاب، ثم يأتون إلى هذه فيرمونه بادعاءِ ما يسهل تكذيبه لو لم يكن، ويتهمونه بالخطأ الجلي في أمرٍ من الوضوح بمكانٍ لو كان الأمر كما زعموه من عدم قائلٍ بالمقول في الآية.
واعلم أن ما ذكره المفسرون كافٍ في دفع الاعتراض، إذ كان القرءان يرتَّلُ بين أظهرهم، ولو كان ما نسبه إليهم كاذبًا من كل وجهٍ لكان أبلغ في الطعن عليه مما حاوله المشركون واليهود، وخذها قاعدةً عامة: لا يسوغ الطعن على القرءان بشيء كان أظهر ما يكون في العصر الأول، حيث كان أولى الناس بالطعن وأشدهم في الدواعي لذلك. ويكفي احتمال أن يكون هذا القول لمقدَّمٍ فيهم ولم ينكروه، أو أن يكون قولًا لطائفة منهم حاضرةٍ زمن النبوة- ليرتفع الإشكال، وعلى المنازع إثبات عدم ذلك، وإثباتُ العدم محال. إلا أننا سنذكر ما بلغته بحوثٌ متأخرة ترشح شخصًا آخر يشارك عزرا الكاتب.
.
[في بيان المراد من الآية، ووجه الشرك المتضمن فيها]
.
قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ عُزَیۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَـٰرَى ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَ ٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡۖ یُضَـٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَبۡلُۚ قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ ٣٠ ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ ٰحِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ ٣١﴾
ومفتاح هذا الباب في الآيتين معًا، فإن قوله سبحانه: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾، جاء عقبه قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، فذكر الأولى قبال اتخاذ النصارى المسيحَ ابنًا لله، والثانية قبال اتخاذ المسيح ربًا. وذا قد يدلّ على أن "البنوة" غير مقصورة على نسبٍ جسدي، أو على لاهوتٍ صريح كقولهم في المسيح، بل ربما شملت الاتباع في التشريع، والطاعة في التحليل والتحريم، حتى يكون البشر مشرِّعًا مع الله، أو بديلاً عنه، فيُنزَّل منزلة الرب.
وليس هذا بمظنونٍ ولا متأوَّل، بل قد فُسر بالأثر الصريح من حديث عدي بن حاتم، وكان نصرانيًا قبل إسلامه، فعرف ما يقول القوم، فلما سمع الآية قال للنبي ﷺ: " إنا لسنا نعبدهم!"، فأجابه ﷺ بما يدفع الغلط ويقطع التأويل، فقال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟" قال: "بلى"، قال ﷺ: "فتلك عبادتهم" (لفظ الطبراني، وأوروده الترمذي، والبيهقي). وهذا تفسير نبويّ، فيه أن العبادة في هذا الموطن هي الطاعة في التشريع، لا الركوع والسجود فحسب. واعلم أن هذا المفهوم ثابتٌ بمعزلٍ عن الحديث، فلا يهمنا بحث صحته -وقد صح-، إذ وصفهم بالكفر لحكمهم بغير ما أنزل الله ثابت: ﴿إِنَّاۤ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِیهَا هُدࣰى وَنُورࣱۚ یَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِیُّونَ ٱلَّذِینَ أَسۡلَمُوا۟ لِلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلرَّبَّـٰنِیُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُوا۟ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُوا۟ عَلَیۡهِ شُهَدَاۤءَۚ فَلَا تَخۡشَوُا۟ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِی ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۚ وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ (المائدة: ٤٤). إضافة لنصوص كثيرةٍ في إخفائهم حكم الله، ومنازعتهم في حكم الرجم، وغير ذلك.
فتأمل التفسير الذي ذكرناه مشفَّعًا بالحديث، تجده يجمع أطراف المعنى، إذ في الآيات إشارة إلى تمكينٍ تشريعي وقع لمن عُبِد من دون الله، ولو في صورة الفتوى الملزمة، والتشريع المطلق.
.
فإذا جُمِع بين قوله تعالى: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾، وقوله بعده: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا﴾، وبين تفسير النبي ﷺ لهذه الربوبية بأنها الطاعة في التشريع المطلق، تبين أن المعنى ملتئم، وأن الاتخاذ هنا ليس محصورا في الاعتقاد النظري اللاهوتي، بل يشمل الممارسة الفعلية للطاعة المطلقة في تحليل الحرام وتحريم الحلال والحكم بغير ما أنزل الله كما في غيرها من الآيات.
ومن هنا يُعلم أن البنوة المذكورة لا تستلزم حصر الدعوى في أن لليهود لاهوتًا في عزير كما للنصارى في المسيح، بل ربما شملت بنوة السلطة المطلقة، والحاكمية الدينية، التي تجعل الحبر مشرّعًا مع الله، أو دونه، فيصير بذلك ربًّا مطاعًا، وإن لم يسموه إلهًا بلسانهم.
أما قوله سبحانه ﴿يضَـٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَبۡلُۚ﴾، فاختلف فيه، فقيل إنه في مضاهاة النصارى لقول اليهود من قبلهم، وصح عن قتادة، حال كونه ضعيفًا عن ابن جريج لأجل الحسين المصيصي وضعيفًا عن السدي لأجل أسباط، وقيل إنه عام في مضاهاة أهل الأديان من قبلهم، وهو مروي عن ابن عباس، رغم ضعفه أيضًا لأجل أسرة العوفي في سنده. وعلى أي تقدير مع عموم الآية وعدم تبيانها المشار إليهم بـ ﴿ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَبۡلُ﴾، فإن المستفاد من ذلك: أنهم جميعًا قالوا كفرًا لم يبدعوا فيه، بل شاكلهم فيه من سبقهم، وفيه إشارة إلى تأثرهم بواردات أجنبية في تحريف دينهم، مما له بحوث تاريخية تؤكده.
.
[جذر الاسم المشترك]
.
اسم "عُزير" الوارد في القرءان الكريم يشترك في جذره اللغوي مع كل من "عزرا" (Ezra) و"إليعازر" (Eliezer) في اللغة العبرية. فجميع هذه الأسماء تنحدر من الجذر العبري الثلاثي ע-ז-ר (ʿ-z-r)، والذي يُنطق "عَزَر" (ʿazar)، ويعني في العبرية "ساعد" أو "أعان" أو "نصر".
واسم "عزرا" (עֶזְרָא، Ezra) في العبرية يُشتق مباشرة من هذا الجذر، ويعني "عون" أو "مساعدة". أما اسم "إليعازر" (אֱלִיעֶזֶר، Eliezer)، فهو اسم مركب من عنصرين: "إلي" (אֵל، El) بمعنى "الله"، و"عَزَر" (עֵזֶר، ezer) بمعنى "عون" أو "مساعدة"، فيكون المعنى الكامل "الله عوني" أو "الله ناصري. وبذلك، فإن الجذر ع-ز-ر هو القاسم المشترك بين الأسماء الثلاثة: عُزير، وعزرا، وإليعازر.
وتجد ما سبق جميعًا في موقع Abarim Publications، المختصّ بدراسة الأسماء العبرية التوراتية، والذي جعل اسم "إليعازر" (Eliezer) ضمن الأسماء المشتقة من الجذر עזר (ʿazar)، إلى جانب أسماء أخرى مثل "عزرا" (Ezra)، و"إلعازر" (Eleazar)، و"عيزر" (Ezer)، و"عزري" (Ezri)، وغيرها. وفيه تأكيد الوحدة الجذرية لهذه الأسماء جميعاً، واشتراكها في الاحتمال.
أما الصيغة القرءانية "عُزير" فعلى وزن "فُعَيْل"، وهو من أوزان التصغير القياسية، وهو تغيير في بناء الاسم للدلالة على معان شتى، منها: التصغير الحقيقي (تقليل الحجم)، والتحقير، والتقليل، والتقريب.
وفي السياق القرءاني، يحتمل استخدام صيغة التصغير "عُزير" بدلاً من "عزرا" أو "إليعازر" قصد الدلالة على التحقير. فالقرءان، في معرض ذمه مقالة اليهود "عُزير ابن الله"، يُصغّر من شأن هذا الشخص الذي عظّمه اليهود. وذا يُشبه ما فعله المسلمون مع "مسلمة" الذي ادعى النبوة، حيث صغّروا اسمه إلى "مُسيلمة" للتحقير من شأنه. ومثله قولهم: الكتيب للمحتقر من الكتب، والرُجيل لمن زُهد في أمره. ولا يلزم من هذا سوء الرجل في نفس الأمر، بل حقارته قبال صورته عندهم ونزوله إلى مرتبة البشرية العادية.
.
[من عُزير؟]
.
فنذكر اقتراحًا جديدا، وهو الحاخام إليعازر بن هركانوس، الذي عاش بين عام أربعين ومئة وعشرين للميلاد، وكان من تلاميذ يوحنان بن زكّاي، وأحد أعمدة مدرسة يَفْنِه بعد دمار الهيكل، وله في نصوصهم الأثر الظاهر، بحيث لا تكاد تُفتح مسألة من مسائلهم إلا وجدته فيها قائمًا أو مشاركًا أو مردودًا عليه.
وتنبه لأمر مهم ها هنا، وهي أن إليعازر هذا قد يكون بريئا من كثيرٍ مما نسب إليه وقيل فيه أو تلبَّس به قبل البعثة المحمدية، ولا يبعد أن يكون معذورا فيما ألصق به، ولكننا نتناول صورته في التراث اليهودي كما سيأتي، وما سيقصد إلى دفعه القرءان حينئذ.
وتنبه أيضًا إلى أن النص يحتمل تناول شخصيتين لا واحدة مع اشتراكهما في الاسم، ففي الآثار نصوص تتعلق بعزير قد تحمل على أيٍ من الرجلين، كقول النبي ﷺ: "ما أدري أعزيرٌ نبيٌ هو أم لا" (سنن أبي داود)، مما يشعر أن الوحي لم يبلغه ﷺ بشأن عزيرٍ شيئا، وكمحاجة ابن الزبعرى فيما رواه ابن عباس: "لما نزلت: ﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَ ٰرِدُونَ﴾ (الأنبياء: ٩٨) ، قال عبد الله بن الزبعرى: أنا أخصم لكم محمدا، فقال: يا محمد أليس فيما أنزل الله عليك: ﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَ ٰرِدُونَ﴾ (الأنبياء: ٩٨)؟ قال: نعم. قال: فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيرا، وهذه بنو تميم تعبد الملائكة، فهؤلاء في النار؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ﴾ (الأنبياء: ١٠١)"، وأنت ترى أن الآية عامة لم تفصل أعيان من سبقت لهم الحسنى، واختلفت الروايات في ذكرهم وتركهم، كما اختُلِفَ في صحة الرواية نفسها. كما اختلفوا في المقصود بقوله تعالى: ﴿أَوۡ كَٱلَّذِی مَرَّ عَلَىٰ قَرۡیَةࣲ وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا﴾ (البقرة: ٢٥٩) فقيل عزير (قتادة)، وقيل إرميا (وهب بن منبه)، ولم يرجح الطبري شيئا، وكله غير مؤثرٍ فيما نحن بصدده، إذ قصاراه أنهم عبدوا رجلًا وجعلوه ابنًا لله، مما يحتمل معنى العبادة والبنوة السابق تحريرهما، وأنه معذور في ذلك أو متَّهَم.
.
[مكانة إليعازر بن هركانوس]
.
وهاك الشواهد على سمو منزلة من نزعم أنه مشمول بالآيات، وبتأملها جميعًا تكاد تقطع بأنه من مصاديق الآية:
.
1. إذ أولَ ما يطالع الناظرَ في سيرةِ الحاخام إليعازر بن هركانوس هو فرادةُ اسمه في الذاكرة الحاخامية، إذ أُطلق عليه لقب "الحاخام إليعازر" دون إضافة اسم الأب، وهو أمرٌ نادر في التقاليد التي تقتضي الإيضاح بالأنساب، لا سيما مع وجود آخرين يحملون الاسم ذاته، كإليعازر بن يعقوب. فهذا التجريد دلالةٌ على تفرّده، حتى صار الاسم علَماً عليه. وقد تتلمذ على الحاخام يوحنان بن زكاي، رأس المدرسة الربانية بعد خراب الهيكل، فصار بنقل العلم من الجيل المقدسي السابق جسراً لبناء ما بعد الخراب.
.
2. أما ذكره، ففي المشناه -المدونة الأم للشريعة الشفوي- فيحتل إليعازر المرتبة السادسة بين أكثر الأسماء تكرارًا، بعد حكماء لاحقين بقرون، وذا مع كونه أقدم بثلاثة أجيال، مما يزيده حضورًا. أما في التوسيفتا، فقد ارتقى للمرتبة الثانية، حيث حفظت أقواله أكثر من المشناه الرسمية. أما التلمودان، البابلي والأورشليمي، فيقتبسان من أقواله في كل موضع، من الزرع إلى الطهارة، وكان يُستشهد به على امتداد الأقسام الستة للشريعة. لذا تجد في الموسوعة اليهودية أن إليعازر "يُقتبس في التلمودين بشكل متكرر أكثر من أي من زملائه" (Jewish Encyclopedia).
.
3. ومما يجلي أهمية إليعازر، أن تأثيره لا يقتصر على الإشارات الصريحة لاسمه، بل والخفية، إذ نبّه الباحثون إلى أن بعض الأحكام المجهولة في المشناه (stam Mishnah) قد تكون آراءً لإليعازر لم يُذكر فيها اسمه، أو آراءً لتلميذه الآخذ عنه: عقيبا. بل إن التلمود نفسه يطرح أحيانًا أسئلة تتعلق بمصادر الأحكام المجهولة، ومن ثمَّ فآراء بعض الحكماء كامنة وراء الأحكام حتى حين تُحذف أسماؤهم. وأهم من هذا تقريرُ يهوذا الناسي -محرر المشناه- القائل: "الهالاخاه تتبع الحاخام إليعازر"، لكنه نسب أحكامه إلى "الحكماء" لنزول شعبيته بعد الطرد (Gutoff, 1994)، مما يعني أن جزءاً من الـ 451 إشارة لـ"الحكماء" في المشناه قد تكون أحكامًا مخفية لإليعازر، ليرتفع تأثيره الحقيقي، ومن ثمَّ يكون أثره أعظم من القدر الذي صُرّح فيه باسمه، كيف وهو عظيم الأثر إن اكتفينا بمواضع التصريح؟
.
4. وأما شهادات العارفين، فإن أدلّ شهادة على مكانة إليعازر جاءت من معلمه نفسه، الحاخام يوحنان بن زكاي، الشخصية الأكثر نفوذاً في جيله. ففي المشناه، وصف يوحنان تلاميذه الخمسة، وعندما بلغ إليعازر، قال عنه:
"صهريج مطلي لا يفقد قطرة" (Mishnah, Pirkei Avot, 2:8).
هذا الوصف يشير إلى أن إليعازر كان ذا ذاكرة استثنائية بعيدةٍ عن النقصان والتحريف. وفوق ذلك نجد تقييمًا إجماليًا من يوحنان:
"لو وُضع كل حكماء إسرائيل في كفة ميزان وإليعازر بن هركانوس في الأخرى، لرجحت كفته على جميعهم" (Mishnah, Pirkei Avot, 2:8).
.
5. أما قصة "فرن أخناي" في التلمود البابلي (Babylonian Talmud, Bava Metzia, 59b)، فهي ذروة ما بلغه، وسبب طرده، حيث خالف إليعازر الأغلبية، وكان الخلاف حول ما إذا كان فرنٌ معينٌ مصنوعٌ من قطع فخارية مفصولة بالرمل، يمكن أن يصبح نجساً أم لا. فرأى إليعازر أنه لا يمكن أن يصبح نجساً (لأنه ليس إناءً واحداً)، في حين رأت الأغلبية الساحقة من الحكماء عكس ذلك (Gutoff, 1994).
ولتأييد رأيه أمر إليعازر شجرة الخروب فتحركت مئة ذراع (أو أربعمئة حسب رواية أخرى)، ثم أمر مجرى الماء فعاد إلى الوراء، ثم مَالت جدران بيت الدراسة. لكن الحكماء رفضوا قبول هذه المعجزات دليلًا. عندها، تدخل صوت السماء قائلًا:
"لماذا تختلفون مع الحاخام إليعازر، والهالاخاه [الشريعة] توافقه في كل الأمور؟" (Bava Metzia, 59b).
وهذا التأييد الإلهي المزعوم لا مثيل له في الأدب الحاخامي، إذ يضع إليعازر في مرتبة تتجاوز السلطة البشرية، حيث يُعلن من السماء أن الشريعة "توافقه في كل الأمور" (Babylonian Talmud, Bava Metzia, 59b). إلا أن الحكماء رفضوا الخضوع لهذا الصوت، مستشهدين بالآية "ليست في السماء هي [التوراة]" (تثنية 30:12)، وأصروا على أن الشريعة تُقرر بالأغلبية البشرية (Gutoff, 1994). فسلطته إذن تجاوزت سلطة الشورى، مما أقلق النظام الناشئ، فكان طرده لا عن خطأ بل عن قوة. ومن كفرهم أنهم زعموا بأن الله أجابهم بعدها: "غلبتموني يا أبنائي، غلبتموني"! وأي شيء يدلُّ على اتخاذهم الأحبار أربابًا من دون الله بعد هذا!
دع ما جرى بعد ذلك من خوارق تأييدًا للحاخام على خصومه: "ضُرب العالم: ثلث محصول الزيتون، وثلث القمح، وثلث الشعير... كانت عظيمة الكارثة التي حلت في ذلك اليوم، فكل ما ألقى عليه الحاخام إليعازر عينيه احترق".
.
6. لقد بلغ الأمر باليهود أن جعلوا الرب في سمائه يُذاكِرُ أحكام إليعازر قبل أن يولد! إلى حد استنكار موسى عليه السلام، وإليك نص الجزء السابع من الـ Pesikta DeRav Kahana في المدراش:
" 'وَيَأْخُذُوا إِلَيْكَ بَقَرَةً' (سفر العدد 19: 2). لوليانوس بن طبرية باسم الرابي إسحاق كاتريكو، والرابي عزريا قالها عن الرابي يتسحاق والرابي يوسا بن حنينا:
قال له القدوس تبارك وتعالى: يا موسى، لك أنا أكشف أسرار البقرة، وأما للآخرين فهي 'حُكم' [فريضة غيبية غير معللة]. وذلك لما قاله الرابي حونا: 'لأَنِّي أَعِينُ مِيعَادًا. أَنَا بِالْمُسْتَقِيمَاتِ أَقْضِي' (مزامير 75: 3).
'وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ نُورٌ، بل يَقْرُوت وَقِفَّأُون (نور ثمين وجَمْد)' (زكريا 14: 6). كُتبت كلمة 'يِقْفَأُون' [بمعنى ستطفو/ستنكشف]، أي أن الأمور التي هي مخفية عنكم في هذا العالم، مستقبلها أن تطفو (وتنكشف) لكم مثل هذا الزجاج الشفاف [بلور]. هذا هو الذي كُتب: 'وَأُسَيِّرُ الْعُمْيَ فِي طَرِيق لَمْ يَعْرِفُوهَا... إلخ' (إشعياء 42: 16). لم يُكتب 'الأشياء سأفعلها' بل 'عَمِلْتُهَا وَلَمْ أَتْرُكْهُمْ' (نفس المصدر)؛ [أي] قد فعلتها بالفعل للرابي عقيبا ورفاقه. كما قال الرابي آحا: الأمور التي لم تُكشف لموسى في سيناء، كُشفت للرابي عقيبا ورفاقه، و'كُلَّ ثَمِينٍ عَايَنَتْ عَيْنُهُ' (أيوب 28: 10)، هذا هو الرابي عقيبا.
قال الرابي يوسي بن حنينا: ألمح [الله] له أن كل الأبقار ستبطل [سينتهي رمادها]، وأما بقرتك فستبقى [رماد بقرة موسى يُحفظ للأجيال].
الرابي آحا باسم الرابي يوسي بن حنينا: في الساعة التي صعد فيها [موسى] إلى أعالي السماوات، سمع صوت القدوس تبارك وتعالى جالساً ومنشغلاً في فصل 'البقرة'، ويقول هالاخاه [حكماً شرعياً] باسم قائلها: 'الرابي أليعازر يقول: العِجلة بنت سنتها، والبقرة بنت سنتين'.
قال موسى أمام القدوس تبارك وتعالى: يا رب العالمين، العلويون والسفليون تحت سلطانك، وأنت تجلس وتقول حكماً شرعياً باسم لحم ودم [بشر]؟
قال له القدوس تبارك وتعالى: يا موسى، صدّيق واحد سيقوم في عالمي مستقبلاً، وسوف يفتتح الكلام في فصل البقرة أولاً [قائلاً]: 'الرابي أليعازر يقول: العِجلة بنت سنتها والبقرة بنت سنتين'.
قال [موسى] أمامه: يا رب العالمين، ليت مشيئتك أن يكون من صلبي.
قال له: حياتك، إنه من صلبك. وذلك هو الذي كُتب: 'وَاسْمُ الآخَرِ أَلِيعَازَرُ' (خروج 18: 4)، واسم ذلك المميز أليعازر."
وفيه أن إليعازر بلغ مرتبة استثنائية لم يبلغها غيره:
أ. إذ هو مصداق نبوءة إشعياء، وأنه سبحانه أخرج الرجل الذي في النبوءة لعقيبا ورفاقه، وهم تلاميذ أليعازر.
ب. وأن الله -سبحانه- كان يدرس أحكامه قبل أن يُخلق!
ج. بل يقول "الشريعة باسمه"، أي أن الشريعة مُنسوبة إليه.
د. حتى أن موسى عليه السلام استنكر ذلك، ثم تمنى أن يكون من نسله رجلٌ بهذه المثابة.
بل في القسم التاسع من نفس جزء المدراش، يُفسّر النص آية البقرة الحمراء (عدد 19:2-3) على أنها نبوءة عن خمس ممالك:
" "بقرة" (عدد 19:2) - هذه مصر. "عجلة جميلة مصر" (إرميا 46:20). "حمراء" (عدد 19:2) - هذه بابل. "أنت هو الرأس من ذهب" (دانيال 2:38). "تامة" [كاملة] (عدد 19:2) - هذه مادي [الفرس]. قال الحاخام حيا بن أبا: ملوك مادي كانوا كاملين [تامين]، ليس للقدوس المبارك عليهم [عيبٌ] إلا عبادة الأصنام التي قبلوها من آبائهم فقط. "التي ليس بها عيب" (عدد 19:2) - هذه اليونان. الإسكندر المقدوني، عندما كان يرى شمعون الصديق، كان يقوم على رجليه ويقول: "مبارك إله شمعون الصديق". قالوا له أبناء قصره: "أمام يهودي أنت تقوم [احترامًا]؟" قال لهم: "عندما أنزل إلى الحرب، أرى صورته وأنتصر". "التي لم يُوضع عليها نير" (عدد 19:2) - هذه أدوم الشريرة [روما]، التي لم تقبل عليها نير القدوس المبارك. لا يكفيها أنها لم تقبل النير، بل تُعيّر وتُجدّف وتقول: "من لي في السماء؟" (مزامير 73:25)."
وبعد ذكر الممالك الخمس (التي تمثل التاريخ البشري)، يأتي ذكر إليعازر مباشرة:
"وتُعطونها إلى إلعازر الكاهن" (عدد 19:3) - إلى "إل عوزر" [الله المُعين] الكاهن. "ويُخرجها إلى خارج المحلة" (عدد 19:3) - لأنه [الله] سيدفع أميرها [أدوم/روما] من حيزه."ويذبحها أمامه" (عدد 19:3) - "لأن ذبيحة للرب في بُصرة..." (إشعياء 34:6). قال الحاخام برخيا: "ذبح عظيم في أرض أدوم" (نفس المصدر)."ويحرق البقرة أمام عينيه" (عدد 19:5) - "وأُعطيت للنار المحرقة" (دانيال 7:11)."
فإليعازر هو الكاهن الذي سيقود عملية تطهير العالم من أدوم/روما (المملكة الشريرة) في نهاية الأزمان، وترمز البقرة الحمراء إلى هذه الممالك، التي سينفذ إليعازر حكم الله فيها. ففي التراث اليهودي، البقرة الحمراء مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بـبناء الهيكل الثالث ومجيء المسيح، إذ لا يمكن بناء الهيكل إلا بعد تطهير الكهنة والشعب من نجاسة الموت، ورماد البقرة الحمراء هو الوسيلة الوحيدة لهذا التطهير.
إذن إليعازر هذا سيُعد البقرة الحمراء لبناء الهيكل الثالث ومجيء المسيح، وذا يضعه في دور مسيحاني (مُمهدًا للمسيح أو جزءًا من الخلاص النهائي). ولا أدري أهو نفس الرجل الذي نتكلم عنه أم غيره، ولكن السياق يعينه لما سبق من خطاب بين موسى والله.
وها هنا إضافة مهمة، وهي أنني جهدت في ترجمة هذا النص، إذ لم أجد له ترجمة إنجليزية دع عربية، واستعنت بأدوات تقنية مختلفة للوصول إلى ترجمة مقبولة أرتضيها له، مع الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، بل بأكثر من واحد، ومع إضافات بين أقواس معقوفة [كهذه] ليكون النص الأخير مفهومًا للقارئ. كل هذا كان مني اليوم، في القرن الواحد والعشرين، في حين يزعم بعضهم أن رجلًا أميًا في الحجاز كان قادرًا على هذه النصوص وأضعافها مع تشتتها وندرتها واختلاف لغاتها آنذاك.
.
[الإشارات القرءانية]
.
1. أما اسم "عُزير"، فما وروده على صيغة التصغير إلا تعريضٌ بما صنعه اليهود من تعظيم، فإن اليهود كانوا يدعونه إليعازر العظيم (Eliezer ha-Gadol) فأتى القرءان ليُسفّه من أعلوه، فاختار من اسمه ما دلّ على ضدّ مرادهم. فإذا قالوا: إليعازر العظيم، قال القرءان: عُزير، تصغيرًا وتوبيخًا لهم، وتنديدًا بمبالغتهم في رفعه. ثم سلَبَ عنه اختصاصه بالله بإزالة "إلي" (אֵל، El) "الله" من اسمه، ليبقى مجرَّدَ "عُزير"، بشرًا كغيره لا كما صوروه. وذا يشاركه فيه عزرا الكاتب.
.
2. وأما وصفه بالبنوة، فقد كان، إذ قال صوت السماء في التلمود الأورشليمي:
"الهالاخاه تتبع ابني إليعازر" (Jerusalem Talmud, Moed Katan, 3:1:7).
فهاك لفظ "ابني" صريحًا، منسوبًا إلى صوتٍ علويّ، يُنزل إليعازر منزلة البنين. وليس هذا من باب المجاز المعتاد، بل وصفٌ إلهيّ جاء في مقام التشريع والتمييز، لا في معرض العطف أو المحبة.
وهنا تقع الإشارة القرءانية: فكما نسبت النصارى البنوة إلى المسيح، فعظّموه وادّعوا له فوقَ ما له، كذلك نسبت اليهود البنوة إلى عُزير، فإن كان إليعازر، فقد عظّموه وألحقوه بالله في الطاعة والعلم والتشريع، حتى ناداه صوت السماء: ابني.
واعلم أن وصفه بالبنوة هنا ليس من جنس الأوصاف المجازية التي وصف بها كثر في الكتب السابقة، بل سياق وصفه هنا يقصد إلى تميزه عن بقية الأحبار والرهبان، واختصاصه بمتابعة تطبيق الشريعة اليهودية، إذ قيلت في معرض تقديمه على غيره من الأحبار.
.
3. ثم زد إشارةً في سورة الكهف، إذ نزلت في محاجّة أهل الكتاب، حين اختبروا النبي ﷺ بأسئلة عن الفتية، وذي القرنين، والروح، وكان مما نزل فيها:
﴿قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادࣰا لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّی لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّی وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدࣰا﴾ (الكهف، 109)
لبيان علمٍ الله قبال علم من سألوه. كما روي عن ابن عباس أنهم اعترضوا حين سمعوا قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، فقالوا: "أوتينا التوراة ومن يؤت التوراة فقد أوتى خيرا كثير"، فكانوا يُغالون في قدر ما بأيديهم، فأنزل الله: ﴿وَلَوۡ أَنَّمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَـٰمࣱ وَٱلۡبَحۡرُ یَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرࣲ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾ (لقمان، ٢٧).
ومن عجَبٍ أن لإليعازر بن هركانوس كلامٌ في التلمود البابلي (Sanhedrin, 68a) ذا نصه:
"لو كانت البحار كلها مدادًا، والقصب أقلامًا، والسموات رقاعًا، والبشر كتبة، لما كفَوا لكتابة ما علمته من التوراة، وما نقص من علمي إلا كما يغمس الطائر منقاره في البحر!"
فانظر إلى دعواه -ولا ندري أقالها حقًا- وهي تضاهي ألفاظ الآية: مدادًا، بحرًا، أقلامًا، كتابة. كأنه يضع نفسه في مقام من يُشارك مُنَزِّلَ الوحي أو يضارعه علمًا. فجاء القرءان ليبيّن قدر الله أولًا، ثم ليفنِّد دعوى مخصوصة وإن بشكلٍ غيرِ مباشر، ولينبه اليهود إلى أن الله وحده الحقيق بها لا من عبدوه بالتشريع.
.
[ماذا لو كان عزرا الكاتب]
.
ماذا لو وجد رجلٌ آخر هو مصداق الآية القرءانية، كأن يثبت أن طائفةً حقًا اعتقدت بنوة عزيرٍ آخر آنذاك، وكان اعتقادهم مطابقًا اعتقاد النصارى؟ أقول: من شأن الوحي أن يدل على المعاني والمصاديق الكثيرة باللفظ الواحد الوجيز، ولهذا أمثلة كثيرة في التفسير، فكم يعرض المفسر لمعانٍ مختلفة ثم يقول: "وكل هذا صحيح"، فسواء وجدت مصاديق أخرى أم لم توجد، بقي هذا المصداق شديد المطابقة وكافيًا في تصديق الآية، ثم كلما وجد مصداقٌ صدّقها أكثر، وكانت دالةً على كل ما يشترك في موضوعها.
فمن الاحتمالات الأخرى أن "عُزيرًا" المذكور في القرآن هو عزرا الكاتب نفسه، وليس الحاخام إليعازر بن هركانوس فحسب، وأن طوائف عبدته آنذاك، وهو ما جوَّزه البروفيسور روبن فايرستون (Reuven Firestone)، وهو حاخام وأستاذ في جامعة هيبرو يونيون، لأجل ما سيأتي (Firestone, 1990).
فقد كان لعزرا الكاتب الدور الرئيس في إعادة كتابة التوراة بعد السبي البابلي، مما جعله شخصية محورية في التراث اليهودي، وقد أشارت المصادر التاريخية إلى وجود طائفة سامرية صغيرة تُدعى "دوستان" (Dustan) انفصلت عن السامريين الرئيسيين وكانت نظرتها لعزرا الكاتب إيجابيًا، خلافًا لغيرهم من السامريين الذين كانوا يعادونه بشدة. وقد ذكر المؤرخ السامري أبو الفتح في القرن الرابع عشر أن أصل هذه الطائفة يعود إلى عصر الإسكندر الأكبر، كما أكد المسعودي وجود طائفتين سامريتين لا واحدة: الكوشان والدوستان. وقد أشارت هافا لازاروس-يافيه (Lazarus-Yafeh, 1992) إلى أن طائفة دوستان كانت تتعاطف مع عزرا وتوراته الجديدة. كما أشار كل من ابن حزم والثعالبي إلى وجود طائفة صغيرة من اليهود اعتقدت في عزرا أنه "ابن الله"، دون تحديد اسم هذه الطائفة. لذا رأى الباحث مراد كايا (Kaya, 2020) في بحثه -الذي لخصناه في هذه الفقرة- إلى أن طائفة دوستان قد تكون المقصودة بهذه الإشارات، لا سيما وقد كانت تتعاطف مع عزرا وتوراته الجديدة، وربما نسبت إليه صفة البنوة الإلهية حرفيًا لا استعاريا (Lazarus-Yafeh, 1992, p. 62; Kaya, 2020, p. 473).
.
فإن لم تكن هي الطائفة المقصودة، فمن الأدلة التاريخية الإضافية على تعظيم عزرا في المنطقة العربية، ما أشار إليه بحث حبيب وكوسمانا (Habib & Kusmana, 2018) من وجود قرية في العراق تُسمى "العُزير"، يُعتقد أن فيها قبر عزرا، وهو ما يعكس تقديس هذه الشخصية في المنطقة والتراث اليهودي. كما يستعرض البحث آراء غربية متنوعة حول هوية "عُزير"، من بينها رأي جوردون نيوبي (Newby, 2004) -المختص بتاريخ يهود الجزيرة العربية- الذي افترض أن بعض يهود العرب قبل الإسلام ساووا بين عُزير وأخنوخ (Enoch)، الذي تحول بحسب الأدب اليهودي إلى مخلوق سماوي يُدعى ميطاترون (Metatron) يُعتبر "ابنًا لله" (b’nê ‘elôhîm)، وهو ما يُظهر أن مفهوم البنوة الإلهية لم يكن غريباً على بعض الطوائف اليهودية في الجزيرة العربية.
.
لذا نجد في سفر عزرا الرابع، وهو سفر يهودي غير قانوني
-أبوكريفا-، أن عزرا سيُرفع من بين الناس ليعيش مع "ابن الله" حتى نهاية
الأزمنة:
"for you shall be taken up from among men, and
henceforth you shall live with my Son and with those who are like you,
until the times are ended."
فترى الربط بين عزرا و"ابن الله". زد
الربط بين عزرا وأخنوخ كما ذكرنا، إذ يُعدُّ هذا الملاك "يهوى الأصغر" (Lesser YHWH) في
الأدب الغنوصي اليهودي، أي أنه يشارك الله في بعض صفاته وأفعاله.
فإذا كان أخنوخ = ميتاترون = يهوى الأصغر، وإذا كان بعض اليهود ساووا بين عزرا وأخنوخ، فإن النتيجة ها هنا أن عزرا = ميتاترون = يهوى الأصغر = "ابن الله".
وقد ناقش التلمود البابلي (Sanhedrin 38b) عبادة ميتاترون "يهوى الأصغر" الذي يتخذه المهرطق بديلًا عن الله ونائبًا للربوبية، كما جرى هذا في السياق الإسلامي، إذ تقرأ لابن حزم الأندلسي، في كتابه "الفصل"، نقاش طائفة من اليهود تعبد الميططرون "الرب الصغير"، وذا تأكيدٌ لوجودها آنذاك.
كما أن بعض المصادر اليهودية المبكرة ربطت بينه وبين النبي ملاخي، فيذكر التلمود البابلي (Megillah 15a) أن الحاخام نحمان قال: "من المنطقي أنهما نفس الشخص"
"Rav Naḥman said: It stands to reason that indeed, they are one and the same person, like the opinion of the one who said that Malachi is Ezra"
وقد تبنى هذا الرأي أيضاً ترجوم يوناثان بن عزيئيل، الذي أضاف إلى (ملاخي 1:1) عبارة "بيد رسولي، الذي اسمه عزرا الكاتب"، كذلك القديس جيروم وجون كالفن. وذا ربط مهم جداً، لأن اسم "ملاخي" (מַלְאָכִי) يعني "رسولي" أو "ملاكي". فإذا كان ملاخي هو عزرا، فذا يعني أن عزرا كان يُعتبر "ملاك الله" أو "رسول الله". وهذا يمهد لتأليه عزرا، خاصة أن الملائكة في التوراة يُسمون "أبناء الله" (سفر أيوب 1:6). وقد
كانت عبادة الملائكة حاضرةً عند بعض الطوائف اليهودية. فتجد سفر كولوسي في
العهد الجديد ينهى صراحة عن "عبادة الملائكة" (كولوسي 2:18)، مشيرًا لوجود
هذه الممارسة، أضف طائفة الأسينيين، وهي طائفة يهودية، عُرِفت بتعظيمها للملائكة (Schiffman, 1998).
.
وكل هذا يدرج عزرا مرشحًا محتملًا لما قصدت إليه الآية، وهو المشتهر على ألسنة المفسرين، إلا أن هذا يضاف إلى ما ذكرناه ولا يلغيه، فلدينا إذن إليعازر الحبر الذي اتخذوه ربًا من دون الله، وعزرا الكاتب الذي اتخذوه ابنا لله سبحانه.
.
ونزيد ما يتعلق بمسيحهم المنتظر، إذ في بعض التقاليد اليهودية -طائفة حباد الحسيدية-، يُشار إلى المسيح المنتظر بلقب "עוֹזֵר" (عُوزير)، والذي يعني "المناصر" أو "المعين"، ويتجلى هذا في نشيد حسيدي معروف يُدعى "החיינו א-ל" (أحيِنا يا الله)، حيث يرد فيه المقطع: "יִתְגַלֶה עוֹזֵר וְסוֹעֵד" (يِتجَلّا عُوزير وِسُوعِيد)، أي "يظهر المناصر والمعين"، كما تؤكد المصادر الرسمية لحركة حباد أن المقصود بـ"عُوزير" هو "מֶלֶךְ הַמָּשִׁיחַ" (ملك المسيح)، وتجد ذلك كله في موسوعة الطائفة شابادبيديا (Chabadpedia). ولتفسير المسيح بوصفه "ابنًا لله" جذور في الأدبيات الحاخامية، أبرزها ما ورد في التلمود البابلي (Sukkah 52a)، إذ يفسر هذا النص المزمور الثاني بوصفه حوارًا بين الله والمسيح ابن داوود، حيث يطبق عليه الآية السابعة من المزمور قائلًا:
"روى حاخاماتنا: يقول القدوس المبارك للمسيح ابن داوود الذي أوشك على الظهور بسرعة في أيامنا: اطلب مني شيئاً وأعطيك إياه، كما قيل (مزمور 2: 7-8): أخبر عن قضاء... إني قد ولدتك اليوم؛ اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً."
ويُظهر النص أن مخاطبة المسيح بصفته "مولوداً" لله في يوم معين (يوم إعلانه ملكاً) جزء من التراث التلمودي، أضف ما في نص (Ein Yaakov, Sukkah 5) من مخاطبة المسيح بوصف البنوة: "يقول له القدوس المبارك: يا بُني، اسأل ما تطلبه فإني معطيه لك".
.
وخلاصة القول: يكفينا اشتهار ما نسبه القرآن إليهم مع عدم المعارض وسهولة التكذيب، لنقول بأنهم فهموا المراد وأذعنوا له. فكل ما في بحثنا وغيره من البحوث نفل.
.
[خطأ المفسرين]
.
إن فرضنا خطأ المفسرين في بيان مصداق الآية، فسيكون دليلًا للآية لا ضدها، إذ فيه أظهر دلالةٍ على خفاء هذه النصوص، وفقر البيئة العربية من تفاصيل التراث اليهودي، حتى أنهم اجتهدوا في بيان أول ما يبدر إلى الذهن من احتمال حين لم يجدوا من يصرح بهذه المقالة بلفظها في عصرهم، إذن كانت طائفةً في عصر النبوة، أو كان قولًا لمقدَّمٍ فيهم ولم ينكروه، وربما عرفوا مشهورًا كعزرا الكاتب، واسمه على نفس الجذر، فحملوا الكلام عليه، وكله مقبولٌ مسوَّغٌ متوقع، ولا يصح منه شيءٌ إلى النبي والصحابة بحسب أسانيد التفسير التي بحثتها، وإن صحَّ شيء فلا يعدو ما سبق بيانه من طبيعة اجتهادهم.
فانظر كيف غاب ما ذكرناه عنهم، ثم تبيَّن لمن تأخر زمانه واستطاع دراسة تراث اليهود وحاز أدوات ذلك، وتفكَّر لأجل ذلك في عُتُوّ من أدرك ذلك من اليهود وجحده، وصدق كونهم يخفون كثيرًا من الكتاب ويعلمون ما فيه من دلائل نبوة محمد. ثم ارجع فكرك في أن رجلًا عربيًا -دع أميا- في الحجاز أشار إلى نوع كفرهم هذا ومثَّل له بحاخامٍ لا يعرف مقامه والتفاصيل التي أشار إليها القرءان بذكره إلا خاصة الخاصة، في حين غاب شأنه عن المفسرين، حتى من اقتبس الإسرائيليات منهم وطالع ما بلغه من أهل الكتاب.
.
[ختام]
.
تبيَّن بما سبق أن عُزيرًا في اللفظ القرءاني قد يشمل إليعازر المُشرِّع، الذي أُعطي السلطان، ووُصف بالبنوة، وعُبد بطاعته. وهو الذي أراد القرءان كشف منزلته، ونقض تقديسهم له، لا على جهة النسب، بل على جهة التشريع والطاعة المطلقة، وهي من خصائص الربوبية.
ولا يقال: القوم عظموا في التشريع غيره فلا معنى لتخصيصه، إذ ذكرنا ما اختص به في البحث مما لم يشركه فيه أحد، ثم لو فرضنا تساويهم في شرك الطاعة والتشريع، فإن التمثيل بواحد أبلغ من تناولهم فردًا فردًا، ويكفي فيه ما ذكره القرءان ودلل عليه، إذ دعوى أنهم أشركوا مع الله غيره، يكفي لإثباتها شريكٌ واحد.
ثم إن تأويل عُزير بالحاخام إليعازر بن هركانوس ليس ترفًا تأويليًّا، بل هو آيةٌ زائدة، ويُظهر وجوهًا ثلاثة من إعجاز التنزيل:
.
أولها- إعجازٌ معرفي
فإن كان إليعازر مشمولًا بموضوع الآية، فمن الذي اطّلع في قرنٍ سابعٍ، بأرضٍ لا تعرف التلمود ولا لغاته على نصِّ "ابني إليعازر" في التلمود الأورشليمي (Moed Katan 3:1:7)؟
ومن ذا الذي علِم أن هذا الرجل قيل فيه: "الهالاخاه تتبع رأيه في كل مكان" (Bava Metzia 59b)،
وأنه مصداق لصراع الأحبار في التشريع الإلهي باتخاذهم أربابا؟ وأنه تفوّه بدعوى علمٍ لا يحيط به بحرٌ من حبر؟
فهي معرفةٌ بتراثٍ مقفل، وتصورٌ دقيقٌ لصراع السلطة فيه، وبيانٌ لظاهرة "التأليه التشريعي" متمثلةً في رجلٍ بعينه، حال كون هذا كله من دقائق التراث اليهودي التي لا تتداولها شفاه العامة من اليهود دع العرب، ثم يأتي بهذه الدقائق رجلٌ ليس حبرًا دارسا، دع كونه أميًا عربيًا يتحداهم جميعا.
وقبولُ حبرٍ هذه صفته الاندراج في وصف الآيتين، كافٍ في بيان هذا، وإن شملت الآيات عزرا الكاتب، إذ ما صدفة أن يندرج فيها عزيران، ويكون أحدهم مصداقًا للآية الثانية فوق الأولى؟ إذ كلاهما نموذج لعزيرٍ تصفه الآيات بدقة.
.
وثانيها- حلُّ شبهةٍ تاريخيةٍ
فقد طعن بعض من لا يفقه أثر الكذب الفج من النبي ﷺ إن وقع، ولا يعرف التراث الحاخامي، بأن الآية نسبَتْ إلى اليهود بنوةً لم يُعرف لها قائل.
فإذا تبيَّن أن القول كان لبنوةٍ من نوعٍ خاصّ، وهي بنوةُ سلطةٍ مطلقةٍ في التشريع، تتجاوز الحلال والحرام، وتُنسب إلى رجلٍ عُبِدَ بطاعته، لا بسجودٍ لجسده= ظهر صدق القرءان، بل كان نوع الصدق هنا آيةً لما سبق في الوجه الأول، كيف إذا وصف بالبنوة صُراحا؟ دع ما ذكرناه من اندراج عزرا والمسيح المنتظر كذلك، فكلهم عزير، وكلهم قاطعٌ لأصل الشبهة.
.
وثالثها- دقةُ الجدل القرءاني
فالقرءان لم يذكر البنوة ترفًا لفظيًّا، بل ليكشف كفرا في اعتقادهم، ببيان مشابهتهم النصارى في دعوى البنوة، وليبين فسادهم بإشراك الخالق والمخلوق في الطاعة والتشريع. فأشار إلى رجلٍ بوصفٍ يوقف اليهود على ما بينهم والنصارى من مضاهاة. وأنهم ليسوا بعيدين عن كفرهم باعتقاد بنوة المسيح، ومثَّل لذلك بعزير الكاتب الحاضر تقديسه في تاريخهم وطوائفهم، أو بإليعازر الذي كان حاضرًا في التلمود، مُقيمًا في اللاهوت التشريعي الحاخامي، موصوفًا بما علمتَ في هذا البحث، أو بكليهما في إيجاز بالغ الدقة.
إذن ليست قصة عُزير في التنزيل محضَ نبأٍ ماضٍ، بل هي نقدٌ لما كان وما يزال في التراث اليهودي: تقديسُ البشر و الإشراك السلطة الدينية، أحبارًا ورهبانًا، ورفعُ الإنسان فوق منزلته، ليُنسب له ما لا يكون إلا لله، سواءٌ كان هو بريئا من ذلك أو حاملًا لوزره.
.
والحمد لله رب العالمين... والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين... محمد ﷺ
.