الاثنين، 1 ديسمبر 2025

رسالة في أنه سبحانه أعدل الحاكمين وأصدق القائلين

 

[رسالة في أنه سبحانه أعدل الحاكمين وأصدق القائلين]

.

.

كتب هارلان إليسون رواية: "ليس لي فمٌ ويجب أن أصرخ"، ليقدم أحلك التصوّرات الممكنة عن الكون إذا كانت القوة العليا للكون شرًّا محضًا. وخلاصتها أنّ حاسوبًا واعيًا يُدعى A.M يكتسب قدرةً إلهية بعد حربٍ عالمية، فيُفني البشريّة كلّها إلا خمسة أشخاص، لا ليمنحهم حياةً، بل ليُخلّدهم في عذابٍ لا ينتهي. فهو قادر على تشويه أجسادهم وإعادة تكوينها، وتعطيل موتهم، والتحكم في الحواس، وإثارة الجوع بلا طعام، والخوف بلا مهرب، وإيقاع الأذى بلا سبب، ويطيل أعمارهم آلاف السنين لا لشيء إلا ليتلذذ بعذابهم. وفي النهاية يتحرّك أحدهم لقتل الباقين كيما يخلِّصَهم، فيمنعه A.M من الموت بأن يقلبه كتلة لحم بلا أطراف ولا فم، فلا يستطيع أن يصرخ أو يغيّر مصيره، ويُخلّد في وعيٍ لا يُطفأ.

هذه صورة لما كان ممكنًا لو كان الإله شريرًا محضًا: شرٌّ لا غاية له إلا الإضرار، لا يُبقي ولا يذر، يخلق الألم لمجرّد الرغبة في إيقاعه، ويجعل الخلق أدواتٍ لعذابه لا مواضع لرحمته. ولو كانت صفات الخالق قائمةً على الشرّ المحض، لكان واقع الرواية -بل ما هو أسوأ منه وأظلم وأقبح- هو الصورة الواجبة لعالمنا.

وهذه توطئة لأحد أبواب النظر في صفات الربّ جلّ وعلا، بتأمّل فعله في خلقه، فما من شيء في الأرض إلا وهو شاهدٌ لصفةٍ من صفاته، ودليلٌ على حكمته ورحمته. وقد ورد في الخبر الصحيح: "اللهُ أرحمُ بعبادِه من هذه المرأة بولدها"، وفي الدعاء النبوي: "والشرُّ ليس إليك". فجمع النصُّ بين أصلين: الإثبات و التنزيه، إثباتُ الرحمة، وتنزيهُه عن أن يكون مصدر الشرّ المحض. وفي القرآن نصوص كثيرةٌ في التنبيه لأولوية الله بالخيرية، ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، ﴿فاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا﴾، ومثلها أولويته في الصدق ﴿وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِیثࣰا﴾، ﴿وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾، حتى تمت كلماته في الإنشاء والإخبار، وكمُلَت في الأقوال صدقًا وفي الأفعال عدلا: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقࣰا وَعَدۡلࣰاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ﴾

.

[دليل السبر والتقسيم]

.

سيكون الخيرُ هنا معبرًا عن أمرين: الصدق والعدل، في حين سيكون الشر جامعًا: للكذب والظلم، وها هنا مسلكٌ عقليٌ، ينتجُ أن الخالق سبحانه إنما يفعل الأشياء على أحد وجهين لا ثالث لهما: إمّا لكونه خير الأخيار، وإمّا لكونه شر الأشرار، إذ التوسّط بين الطرفين محالٌ لما سترى..

ذلك أن الله خالقُ الأشياء، وجميع الممكنات سواءٌ في القدرة، لا ترجح إحداها على الأخرى إلا بمرجّحٍ من الفاعل. فإذا وُجد الفعل، فلابدّ أن يكون قد تميّز بما به صار موجودًا دون غيره، وهذا التمييز لا يأتي من غيره فهو خالق كل شيء، والله غنيٌّ عن كل ما سواه بأدلة عقلية سابقة، ولا يأتي الفعل منه على صورة هوى متردّد، لأن الهوى تأرجحٌ بدوافع ليس لصاحب الهوى عليها يد، وذا عجزٌ محال، أو هو تأرجحٌ بلا سبب، فذا ترجيحٌ بلا مرجّح، فبقي أن يكون الترجيح لصفةً ثابتةً للربّ نفسه، ترجّح الخير أو ترجّح الشر.

.

[حد الخير والشر المحضين]

.

واعلم أن البشر اختلفوا في الخير والشر، ويهمُّنا المحض المُتَّفَقُ عليه منهما، وأريد بالمحض أي ما لا يشوبهما دافعٌ آخر، فهما أعلى درجاتهما:

1. فحدّ الشرّ المحض: ضررٌ أو -ما يكون عنه ضررٌ- بإيلام أو إحزان، دون استحقاقٍ من المُضارّ، ولا عوضٍ له، مع عدم حاجةٍ من الفاعل ولا إكراهٍ عليه، ولا خيرٍ أعظم بفعله. وانت تلحظ أننا أزلنا بالحد كل ما لأجله يتنازع الناس في شرٍ أو شريرٍ أنه كذلك، لكونِهِ مسوَّغًا بعارض من العوارض.

ومن وصفناه بذلك لا يكون إلا شريرًا خالصا قامت به صفةُ الشرّ، وإلا كان ترجيحًا بلا مرجِّح، والغنيّ إذا آذى بلا سبب ولا جهلٍ ولا اضطرار، فهو أشرّ الموجودات كلّها، إذ شرّ الجاهل والمحتاج والمُكرَه أهون من شرّ العالِمِ المستقل المستغني. ولا أظهر لصفة الظلم من مثل هذا الذي وصفنا.

.

2. أما حدّ الخير المحض: فنفعٌ أو -ما يكون عنه نفعٌ- لا يلزم عنه لذاته ضررٌ مُستَحَق، ولا حاجة للفاعل فيه ولا مرغم. والحظ أننا أزلنا ما لأجله اختلف الناس في الخير: أهو كذلك؟ أم ليس خيرًا لأنه يلزم عنه شرٌ بسببٍ آخر؟ أم ليس بخيرٍ لأنه عن اضطرار وحاجة لا باختيار؟

وذا خيرٌ لا يكون فاعله إلا خيّرًا رحيما، إذ لا يصدر الخير الخالص إلا عن موصوف بالرحمة، وإلا كان ترجيحًا بلا مرجِّح، والصفة التي يكون عنها مثل هذا الفعل هي الرحمة.

.

ولا شيء يزيل تمحّض ما ذكرناه في الحدين إلا المسوِّغات المذكورة، الحاجة أو الجهل أو الاضطرار، وبانتفائها عن الإله تثبت أعلى درجاتهما إن وقعا منه سبحانه. ولا مسلك للمنازع فيهما إلا أن يثبت شرًا أو خيرًا فوق ما ذكرنا. مع عدم اهتمامنا بما هو بينهما مما يتنازع فيه البشر، إذ يهمنا الخالص منهما كما قلنا.

.

ولما امتنع أن يكون المرجّح خارجيًا مُرغمًا أو مُأرجحًا للهوى، ثبت أن المرجع كلّه إلى الفاعل. فيتعين أنّ كلّ فعلٍ من أفعاله تعالى إنما يرجع إلى صفة قائمةٍ به: إما صفةُ الخير على الإطلاق، أو صفة الشرّ على الإطلاق.

.

[استحالة الجمع بين الصفتين]

.

ثم إنّ الجمع بين الصفتين محال، لتضادّهما، فليس الكلام عن شر وخير نسبيين، بل عن أشدهما في الصفتين. وذا دفعٌ لاحتمال اختلاط أفعاله، بأن يكون بعضها شرًا وبعضها خيرا، إذ هذا يكون من متصف بصفات تقبل الاجتماع، فيصدر لأجلها ما يكون خيرًا مرةً وما يكون شرا أخرى، أما الذي ذكرناه فأصله الاتصاف بشرٍ في أعلى درجاته أو خيرٍ في أعلى درجاته، واجتماعهما محال إذ كل منهما ضد الآخر.

.

بل إن الخير المحض في الأفعال له موجب من صفات كثيرة، كالرحمة والود والمحبة والفرح، وغيرها، في حين أن الشر -المحض خصيصى- لا يكون إلا عن نقص، فكلامنا عن شرٍ بلا استحقاق ولا عوض ولا خيرٍ أعظم، فلا يندرج فيه ما يكون شرًا نسبيًا عقوبةً أو اختبارا تبعًا للعدل والحكمة، كالغضب من المكلف وإيلامه، فالشر المحض الذي عنه الكلام لا يقع إلا بصفةٍ عبثية لا تطلبُ مسوِّغا في نتوجه عنها، وذا لا يجتمع مع الخير بأعلى درجاته.

.

[ترتيب المقدمات]

.

1. أن الفعل الخيِّر أو الشرير من الإله والمتعلق بمخلوقاته القابلة للخير والشر- ممكن.

2. ولا بد للمكن من مرجح، والمرجح إما المخلوق أو الخالق.

3. أما كونه المخلوق فممتنع عقلًا، لثبوت الغنى (بدليل الوحدانية وكونه أول سلسلة العلل) وعدم انعكاس المُسبَّبِ سببًا، كما انتفى أن يكون الترجيح لحاجةٍ إلى المخلوق.

4. فبقي أن يكون المرجح هو الخالق، ففعل الإله إن خيرًا أو شرًا كائنٌ منه مستقلًا.

5. وهو منه إما عبثًا لا لمرجح، وذا ممتنع عقلًا، وإما لمرجحٍ منه.

6. الشر المحض: ضرر -أو ما يكون عنه ضرر- بلا استحقاق ودون عِوَضٍ أو خيرٍ أعظم، بلا حاجة من الضار أو مرغم. والخير المحض: نفع -أو ما يكون عنه نفع- لا يلزم عنه لذاته ضرر غير مستحَق أو خيرٌ أعظم، بلا حاجة من النافع أو مرغم.

7. ولانتفاء الحاجة والجهل والإكراه في كل أفعال الإله، ففعله لا يكون إلا شرًا محضًا أو خيرًا محضا ولا ثالث.

8. فعلُ أيٍ منهما إنما يكون لاتصاف بموجبهما، إن صفةُ شرٍ خالصٍ أو خيرٍ خالص.

9. وهما بصورتهما الخالصة لا تجتمعان، فإحداهما ضد الأخرى، فيستحيل الاتصاف بهما معًا.

10. فهو إما خيرُ الأخيار، أو شر الأشرار.

.

[القياس الأولوي]

.

واعلم أن القياس الأولوي كافٍ هاهنا وأكثر اختصارًا: فأي شيء تصفه بالخير أو الشر، فإنما وجدته في البشر، ولا يخلو من عوارض تزيل تمحّضه في الخير أو الشر، من هوى وحاجة وإكراه وجهل وخطأ، ومن ثمَّ إن وقع شيء من الخالق المنزَّه عن تلك العوارض، فسيكون من باب أولى أشد في صدق هاتين الصفتين عليه.

.

[احتمال اختلاط الخير بالشر]

.

ماذا لو ثبت خيرٌ يلزم عنه شر؟ أو شرٌ يلزم عنه خير؟ وذا بالنظر للمفعول له المعين، أو بالنظر إليه مع بقية المعينين، فكلا النظرين قد يقع فيه هذين النوعين، إذ قد يكون أمرٌ ما خيرًا لمعينٍ ولكن يلزم عنه شرٌ لهذا المعين في المآل، والعكس، وقد يكون خيرًا لزيد ولكن يلزم عنه شر لعمرو، والعكس. وأكثر ما يجري في العالم من هذا الجنس، فإثبات فعلٍ معين أنه متمحض في الخير أو الشر قريبٌ من المحال. ولكن لا يضر هذا دليلنا، ولا ينفي الثنائية (الخيرية المحضة أو الشرية المحضة)، لاتساق الكائن واقعًا مع الخيرية المحضة دون الشر المحض. فالخيرية المحضة تجتمع مع الحكمة والعدالة اللذان يوجبان شرًا عارضًا، بل هي أعلى درجة من الخيرية العبثية الممتنعة، وهذه الصفات هي التي أوجبت وجود الخير والشر النسبيين في الأرض، في حين أن الشر المحض لا يلتئم مع الحكمة والعدالة، بل هي تناقضهما، فخلافًا للشر- وجود أي خيرٍ دليلٌ على الخيرية المحضة ما دام العبث منتفيًا، في حين أن إثبات الشرية المحضة يستلزم انتفاء أي خير.

.

ودليل كون الشر المحض لا يجتمع مع أي خير، أن المتصف به لا يَسوغ صدور خيرٍ عنه إلا لسبب أو لا لسبب، والثاني عبث يناقض الترجيح بلا مرجح، والسبب لا بد أن يكون منه لثبوت الاستقلال، وهو إما أن يكون لشرٍ أعظم، أو لصفة أخرى، ويستحيل أن يكون لشرٍ أعظم، إذ الشر الخالص فوق شرٍ مختلطٍ بخير، ويستحيل أن يكون لصفة أخرى، إذ لا صفة توجب خلط شرٍ بخير وتمنع الشر الخالص إلا أن تكون الحكمة أو العدالة، وكلاهما يناقض الشر الخالص الذي يوجب الظلم ووضع الأشياء في غير مواضعها. فإن قيل: بل صفة أخرى كمحبة التعذيب بأنواع من الشر، كالحزن على فقد خير، أو الندم على التقصير فيه، أو الحسد على ثبوته للغير، وكلها آلامٌ لا تكون إلا بثبوت شيءٍ من الخير. فنقول: كلها تقبل أكثر مما هو ثابت إن كان شر الأشرار، ففي العالم من الفرح والاحتفاء والقناعة ما يقارع ما سبق كله، وهذه الموازنة -أيًا يكن الراجح من الكفتين- كافٍ في نفي أعلى درجات الشر، ليبقى الاحتمال الثاني -الخيرية المحضة-، ولا ثالث إلا العبث.

.

إذن ثبوت خيرٍ -أي خير- يلزم عنه أن يكون خير الأخيار، إذ لا شيء يُتَوَصَّلُ بالخير إليه إلا والتوصل إليه بالشر ممكن في قدرة الإله، وأن نُلقى في جهنم رأسًا دون اختبارٍ ونعيمٍ أرضيين أشرُّ بالضرورةِ مما نحن فيه وإن كان المآل إلى جهنم، وكل نوعٍ من أنواع الألم فالقدرة على فوقه ممكنة. في حين أن ثبوت شرٍ يبقى في حيزِ الاحتمال على أحسن تقدير، بل ثبوته مع القدرة على ما هو فوقه دليلُ مرجحٍ سوى كونه شرًا، وإلا كان على أشدّه.

.

[شهادة الواقع]

.

ولننظر إلى الواقع: فما في الأرض من صور الرحمة، وما في الخلق من بسط النعم، وما في نفوس الأمهات من العطف الذي جعله الله غريزة، وما في نظام الكون من إحكامٍ وتقديرٍ وتسخير، وما في الشرع من دعوةٍ إلى البرّ والعدل وإغاثة الضعيف، كلّها خيراتٌ لا تلتئم مع شرٍ محض.

وقد قدمنا برواية تحكي سرديةً ممكنة لواقعٍ أليمٍ إن كان الإله شريرًا، والعقل يحتمل ما فوقه أضعافًا مضاعفة، في حين أن أصل عالمنا الخير والعافية، ولا أريد بالخير والعافية الرفاه، بل عدم أصلية المصائب المستمرة والآلام المزمنة والأحزان غير المنقطة، فأكثر شروره من البشر، قصدًا أو تقصيرًا، ولولا أن الأصل هو الخير والعافية، لما سعى الناس للعودة إليه بدفع الآلام والمصائب أو تجنبها، وللمؤمن في ذلك مزيد، لقول النبي ﷺ: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له."، فهو موعود بخير مطلقٍ حتى في الآلام المستثناة من الأصل.

.

[مسلك المنازع الوحيد]

.

فليس للمنازع بعد ما سبق إلا: إثبات أن الخالق شرُ الأشرار مناقضًا الواقع المشهود، أو عابثُ بترجيحٍ من غير مرجح، أو مفتقرٌ لتأرجحه بمؤثرات الخارجية لا يد له فيها، أو الطعن في العقل بتجويز اجتماع  الصفتين المتضادتين، الصفة التي تنتج خيرًا بأعلى صوره والصفة التي تنتج شرًا بأعلى صوره.

.

[دليل الكمال والنقص]

.

ويعضد دليلُ الكمال والنقص ما سبق، وهو دليلٌ مستقلٌ يثبت الخيرية مباشرة، وإنما أردتُ بما سبق التدليل على المطلوب بحصر الاحتمالات، ثم نفي الباطل منها بالواقع وانتفاء لازم الشر المحض وامتناع العبث.

ولكن نلخص ما في الكمال والنقص لإتمام الفائدة، فنذكر وجوهًا في الاستدلال:

1. وذلك بالاستدلال بأفعاله سبحانه، وهو ما ذكرناه من استدلال بالواقع المشاهد، فأفعاله دالةٌ على صفات كمالٍ وراءها، وما في العالم من خيرٍ دالٌ على خيريته عزَّ وجلَّ.

2. وكذلك الاستدلال بكمال المخلوق، فكل كمالٍ في المخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالباري أولى به، إذ الباري سبب خيرية المخلوق، فكيف يكون شر الأشرار الفاقد لأدنى خيرٍ اتصف به المخلوق سببًا للمخلوق الخيِّر، ففاقد الشيء لا يعطيه. ولا يُقال: هو سبب شر المخلوق أيضًا، إذ لا مانع من أن يسلب المتحصل على الشيء مثله من غيره، أو أن يوجد ما يقتضي سلبه أو ضده، فليسا سِّيان.

3. وكذلك الاستدلال بالإمكان العام، فإن جازت الصفة الخيرية للمخلوق ولم تستلزم شيئًا يمنع اتصاف الباري بها فما الذي قلبها ممتنعة في حق الباري؟ إذن تجِبُ له وإلا كان عدم اتصافه بها حالَ عدم امتناع اتصافه بها متوقفًا على غيره، ولا غير يعطيه صفاته وهو أوّلُ الأسباب.

4. وكذلك الاستدلال بالضرورات الفطرية، فالخير كمالٌ بالضرورة العقلية، والشر نقص بنفس الضرورة، لذا يطلب البشر الأول ويمدحونه على الضد من الثاني. ثم إن مثبت الإله يثبته كاملًا بالضرورة كذلك، قبل النظر، فاتصافه بالخير تبعٌ لهذه الضروريات، ولا يملك المنازع إلا أن ينكر هذه الضروريات، وقباله إجماع البشر دون تواطؤ ونظر على ما سبق، بل حتى الملحد يرى وجوب كماله لو أثبته، ولا يكدِّر ذلك من نكست فطرتهم بالتفلسف والتعليم، ممن لهم شواكل ينكرون ضرورات كالسببية والعالم الخارجي وغير ذلك.

5. وكذلك الاستدلال بعدمية موجب الشر، ففعل الشر أو الخير يكون لمحبة ذلك وإرادته، فما الموجب لتعلق الحب بهذا دون ذاك؟ ولا بد أن يكون الموجب من صفات الإله للتعلق بأحدهما وجوديًا، إذ العدم لا يكون علةً أو جزء علة، فإن لم يكن الشر إلا لعدمي أو جزءِ علةٍ عدميٍ امتنع في حق الإله، وهو كذلك، إذ حب الشر المحض وتخصيصه لا يكون إلا لعدم عدالةٍ أو رحمةٍ مثلًا، فعدمهما شرطٌ لوجود الشر المحض الذي نحن بصدده وإلا لم يكن، وكلاهما لا مانع من اتصاف الله به لأجل الوجوه الأربعة السابقة، فعدم اتصافه بهما نقصُ كمالٍ واجبٍ عقلًا للإله، فامتنع إذن أن يحب الشر المحض لعدم موجبه ولاقتضائه ما وجب له عقلًا. أما حب الخير فيكفيه تمام العدالة والرحمة ومحبة المكلَّف والفرح به ووده وغير ذلك مما يتصف الله به وأحده كاف، ولا يشترط له عدم أو جزءُ علةٍ عدمي، كما لا يشترط له نقصُ كمالٍ واجب.

.

[تأكيد الصدق الإلهي]

.

فكل ما قيل سابقًا يشمل الكلام في الصدق، فالصدق من الخالق لا يكون إلا عن أعلى درجات الخيرية، إذ لا حاجة له ولا جهل ولا اضطرار، وهي العوارض التي تنزل الصدق عن مرتبة الكمال، وعدمها يجعل الكاذب في أعلى درجات الشر، إذ يكون من أبعد الناس عن دواعي الكذب. فهو سبحانه إما أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا وسط، وكل ما قيل في عموم الخير والشر أبدله بخصوص الصدق والكذب= تجده جاريًا عليهما.

ولكن يختص الصدق والكذب بأنهما في التكلم بالأخبار، كنصوص الوعد والوعيد، أو ما قام مقامها في الدلالة من الأفعال، كالتدخل الإلهي لتصديق نبي، وهي أمور أخص من عموم ما يمسنا من خير أو شر في النفس والبدن، ولكنها تؤول إليهما، فالصدق أو الكذب سيؤولان إلى ضرر أو نفع فيهما، في الدنيا أو الآخرة أو كليهما، فيقال فيهما إذن من هذه الناحية كل ما قيل في عموم الخير والشر. وللمسألة احتمالات نفردها كالتالي:

1. إما أن يقع منه صدق يقود إلى ضرر: وهذا الضرر شأنه ما قلناه سابقًا، من أنه لن يكون شرًا في المآل لأنه خير الأخيار سبحانه كما تم إثباته، ولو قاد إلى ضرر محضٍ -بقيود ذلك المذكورة سابقا- كان شر الأشرار.

2. أو أن يقع منه صدق يقود إلى نفع: وذا لا إشكال فيه، وهو مصداق كونه خير الأخيار.

3. أو أن يقع منه كذب يقود إلى ضرر: وذا يجعله شرًا من كل شرٍ وصفناه، إذ لم يقع منه الضرر المحض فقط، بل كان سبب هذا الضرر هو الكذب المحض كذلك.

4. أو أن يقع منه كذب يقود إلى نفع: وذا هو الاحتمال الفرد الذي نبطله بوجوه:

أ. ثبوت الغنى: وقد ذكرناه سابقًا، فلا يكذب إلا عابثٌ يرجح بلا مرجحٍ، وذا ممتنع، أو مضطرٌ لإرغامٍ أو احتياجٍ إلى الكذب للتوصل به إلى أمرٍ من الأمور، وقد ثبت غناه عقلًا، فانتفت مرجحات الكذب، وكل نفعٍ يتصورُ فالتوصل إليه بالكذب ترجيحٌ بلا مرجحٍ مع قدرته على كل شيء سبحانه، بل مع عدم الحاجة إلى الكلام فيه أو إقامة الدلالة عليه ابتداءً، إن صدقًا وإن كذبًا.

ب. التناقض الذاتي: إذ عملية الشك نفسها تستبطن اليقين، فهي ممارسة عقلية تقتضي يقين الشاك بوجوده، ووعيه، والقضايا التي يعرضها في ذهنه، ومدلولاتها، وما بينها من التلازم أو التضاد أو غير ذلك، وأنه يتصرف فيها بإرادته، وأنها تنتج قضايا موضوعية يفرَّعُ عليها قوله وعمله. فكل هذه الأركان -وما فوقها- حاصلةٌ عند الشك، فإن كان الشكُ واردًا على ما يبطل الثقة بهذه الأركان= نقض الشك نفسه، إذ كيف تستيقن أمورًا ثم تتوصل بها إلى الشك في شرط صدقها؟  وقد نبهنا إلى أن الله خالقها والقادر عليها، وأن هذا ثبت عقلًا قبل هذا، فالثقة فيها ثقةٌ بأن الله لم يجعلها كواذب، فكيف يتوصَّلُ بها وبالثقة فيها إلى تجويز أن يجعلها كواذب؟ كمن يقطع أصلَ شجرةٍ وهو فوقها! 

ج. الإلزام العملي: فإن تجويز هذا الاحتمال يفتح باب الشك في كل شيء، إذ لو جوزت أن يكذب -سواءً لنفعٍ أو ضر- فجوِّز أن يخلق في البشر الضروريات والنظريات والحواس الكاذبة، فقد ثبت أنه مسبب الأسباب الخالق سبحانه عقلًا قبل هذه الأبحاث، وإن بنيت أي شيء عمليٍ على جواز هذا الاحتمال، كالشك في دلالة آيات النبي وخوارقهم، أو الشك في الوعد والوعيد في كتابه، فلم تتبع أوامره لأجل ذلك:

- فابن الأمر نفسه على تجويز الكذب في الضروريات والنظريات والحواس، إذ ربما خلقَ فيك ضرورة السببية ولا سبب هنالك للري، فلا تشرب ماءً، وربما خلق فيك رؤية طفلٍ في الشارع ولا طفلَ هنالك، فلا تخفف السرعة. ولا إنسان يلتزم ذلك وإلا بطلت كل العلوم والأعمال.

- بل جوِّز الشك في أخبار البشر وإن قامت دلائل صدقها، إذ في الإنسان دواعي الكذب من جهل واضطرار وعبَثٍ نسبي -مرجحاته غير واعية-، ودلائل صدقهم دلائل ترجيحية في أغلبها، واليقيني من دلائل صدقهم راجعٌ إلى الثقة في اطراد الحس وثبوت الضروريات ، بأن ترى أو تسمع ما أخبروا به فيثبت صدقهم، أو يثبت عندك بالقرائن عدم تواطؤهم عقلًا، أو غير ذلك، وكلها أمور زائدة تتعلق بمرجحات صدق المخلوق ولا تحتاجها مع الخالق، فإن شككت في صدقه سبحانه فالشك في صدق أي مخلوقٍ من باب أولى، ولا يلتزم إنسانٌ ذلك وإلا بطل كل شيء تحتاج لأجله إلى الثقة بغيرك، بدءًا بتعلمك اللغة من والديك مرورًا بشهادات سلامة الأجهزة والمأكولات، ولا نهاية.

ولا يقال: نعم نشك في كل شيء، ولكننا نفعيًا مضطرون للثقة بالمخلوقين كي تسير الحياة فنجلب المنافع وندفع المضار، في حين يبقى أصل الشك في صدق الخالق دون أثرٍ عملي يحوجنا للثقة به.

إذ نقول: هذا جهلٌ بافتقار الأول إلى الثاني، أي افتقار الثقة في المخلوق إلى الثقة في الخالق، فأنت تثق بالخالق ضمنًا حين تثق بأي مخلوق، إذ تثق بأن ما تحسه من شأن المخلوق صدقٌ لا كذب، وأن عقلك يصدقك في أحكامه المتعلقة بالمخلوق والنفع والضر العمليين، وإلا كان شأنك كمن يقول: أنا أثق بأن الماء يروي ولكن أشك في السببية بل في وجود الماء! وواقع الأمر: أن المخالف يختار قصدًا الشك فيما يتعلق بالأديان من جهة الخالق، حال وثوقه بكل شيء آخر شرط الثقة فيه= الثقة في الخالق، والمفرق الهوى.

د. ثبوت العذر: إذ لو فرضناه احتمالًا ممكنًا، فإننا لا نملك معه ما نملك مع المخلوقين، وهي القدرة على كشف الكذب، أو الاعتذار في ترك اتباعه. فهب العالمَ بكل شيء، القادرَ على كل شيء، مسبب الأسباب كلها سبحانه، أخبرك بأمرٍ أو أمرك بفعل، فإنك بلا عذرٍ في تكذيبه ومن ثمَّ ترك أمره، في حين أنت معذورٌ إن صدقته واتبعت أوامره، ومن ضروريات العقل الفطرية= النأي عن الخطر وإقامة المعاذير قبل الحساب، ما دام الحسابُ ممكنًا وعاقبته الممكنة وخيمة، بل فوق كل عاقبة، فهبنا عجزنا عن الترجيح عقلًا بين الاحتمالات، كونه أعدل الفاعلين وأصدق القائلين، أو شر الأشرار، أو عابثًا يتأرجح بين الخير والشر، فطلب الانتفاع والنجاة من الخطر واجبٌ عقلي، إذ السُبة في الاحتمالين الأخيرين ظاهرة، وبناء كفرٍ أو إيمانٍ عليهما جَرَيانٌ لا عذر فيه مع خطر الظلم والكذب والعبثية، وذا ثابتٌ حتى في الشاهد ومع ما هو دون معاملة الله في الخطر، كمن يكذّبُ مَلِكًا ويخالف أوامره لفرضه ظلم الملك أو كذبه أو عبثيته، مع قدرة المَلِكِ عليه وعلمه به، ومع إمكان ذلك عادةً لا عقلًا فقط، ولله المثل الأعلى، فهو كمن قال الله فيهم: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، في حين قام عذرُ من آمنَ وصدَّق وعَبَدَ مُحسنًا ظنه بربه ومتبعًا وصية نبيه ﷺ: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بالله".

.

[مسلك المنازع الوحيد]

.

فليس للمنازع بعد ما سبق إلا: إثبات دواعٍ للكذب لا تتعارض مع ما ثبت للخالق من كمالٍ عقلًا، أو الخروج من التناقض الذاتي أو العملي لتجويز الكذب، بإقامة الثقة بحكم الشك أو الثقة بأي شيء على أركانٍ ليس فيها الثقة بالله، أو أن يبني عذرًا وجوابًا عن تجويزه للكذب، وترك اتباع دلالة فعله وأوامر شرعه سبحانه.

.

[ختامٌ واستغفار]

.

واعلم أن أي خيرٍ يثبت فهو خيرٌ محض، إذ لا تشير إلى شيء بأنه خير إلا والله غير محتاجٍ إليه ولا مرغِمَ له عليه، ولا يستحق العبد شيئًا منه في حين أنه هو سبحانه خالقه وهاديه وميسّره لما ينالُه به، وفي حين أنه هو سبحانه أجرى له السنن وأرسل إليه الأنبياء. فما يناله المكلَّف من خيرٍ إنما هو دائمًا محضُ فضلٍ من الله.

وأستغفر الله سبحانه لأجل ما في البحث من فرضِ لاحتمالٍ وإن لدَفعِه، ولإثبات ما تقطع به الفِطَر وتستيقنه القلوب... لإيقادي شمعةً في النهار.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق