السبت، 29 نوفمبر 2025

حين غلبت الروم- مقامرة عبثية أم نبوءة سماوية

[حين غلبت الروم- مقامرة عبثية أم نبوءة سماوية]

.

وهذه آية من آيات النبوة في الكتاب، جرى ذكرها قبل أن يقع أمرها، وانقضى على ما أخبرت به بعد أعوام عدة، فجاءت مطابقة للواقع، شاهدة على صدق المُخبِر. وليس لمن رام دفعها سبيل إلا أن يسلك واحدًا من أربعة مسالك:

أحدها: المنازعة في مدلولها اللغوي، فيجتهد أن يجعل عبارتها لا تحتمل ذلك المعنى الذي جرى به التفسير، ولا تشهد له العربية بشاهد ولا تؤيده عادة الخطاب، ولن نبحث هذا وإن حاوله بعضهم لإجماع من يعتد به ولا يعتد على دلالتها اللغوية.

والثاني: الطعن في مصداقها، فيدعي أن الأمر في الخارج لم يجر على نحو ما أخبرت به الآية، وأن ما وقع ليس هو ما وُعِد، كأنّ الناس قد أخطؤوا الحكاية أو التواريخ.

والثالث: الاحتيال على تاريخ نزولها، فيزعم أنها نزلت بعد وقوع الحادثة أو عند مقاربتها، فهي عنده "نبوءة بعد الحدث vaticinium ex eventu" لا قبله، ثم ألصقت بزمن أسبق لتظهر في صورة التنبؤ. 

والرابع: ادعاء كونها مما يمكن توقعه وتخمينه، وأنها من جنس ما يبصر مستقبله الناظرون في الواقع، فليس نبوءة خارقة لعادة الناس في الظن والتكهن وترجيح الاحتمالات.

.

[الآية وتفسيرها]

.
تبدأ سورة الروم بالآيات التالية:

{ألم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)}

وقد اتفق أهل التفسير على أن هذه الآيات إنما نزلت عَقِبَ انكسار الروم (الإمبراطورية البيزنطية)، الذين كانوا أهل كتابٍ وديانة، على أيدي الفرس (الإمبراطورية الساسانية)، وهم أهل نار وملة أخرى. وكانت تلك الوقعة يومئذ حديث الناس، تهتز لها الممالك، ويضرب بها المثل في انقلاب الدول وتبدل الأحوال، حتى لقد خُيّل إلى كثير من العرب أن سلطان الروم قد باد، وأن دار ملكهم قد انهدمت أركانُها. فجاء الوحي ساعةَ ضاق صدرُ الزمان، يخبر بأن الروم -مع ما نزل بهم- سيعودون إلى الظفر بعد بضع سنين، وأنّ الدائرة ستنقلب على من أوقع بهم. فكان الخبر خلاف ظن الظانين، وصار وعدًا لا يخلف، حتى كان ما كان من عودة الروم إلى النصر، كما جاء في الكتاب، وكما سمعت العرب قبل أن تعاين.

.

[شبهة القراءة الشاذة]

.
وزعم بعضهم أنّ للآية قراءة أخرى، وهي: (غَلَبَتِ الرومُ) بفتح الغين واللام، تقلب المعنى، وتجعل الخبر خبرَ غلبةٍ للروم، لا خبرًا عن هزيمتهم. غير أنا وجدنا هذه القراءة دون الشذوذ فلا يُعرّج عليها، وذلك لأمور:
.
أ- أسانيد القراءة: إذ لا يثبت فيها شيء، فالطبري يذكرها بصيغة التمريض، فيقول: (ورُوي)، ثم يردها بمخالفتها إجماع الحجة من القراء الذين اتفقوا على قراءة (غُلِبَت) بالبناء للمجهول، فضلًا عن سقوط أسانيدها:

* فهي ضعيفة إلى ابن عمر عند ابن جرير: "حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن الحسن الجفريّ، عن سليط، قال: سمعت ابن عمر يقرأ ﴿الم غَلَبَتِ الرُّومُ﴾ فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، على أيّ شيء غَلَبوا؟ قال: على ريف الشام".

قلت: وفي السند ابن وكيع وهو متكلم فيه، وسليط والحسن وهما مجهولان؛ فأي سند يبقى؟

* وضعيفة إلى أبي سعيد الخدري في الترمذي: "حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن سليمان الأعمش، عن عطية، عن أبي ‌سعيد، قال: " لما ‌كان ‌يوم ‌بدر ‌ظهرت ‌الروم ‌على ‌فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت: {الم غلبت الروم}"

قلت: وفي السند عللٌ كثيرة، منها ضعف عطيّة العوفي، ثم عنعنته وهو مدلس، ثم أنه يكنّي بأبي سعيد ويريد الكلبي، لا أبا سعيد الخدري. ولأجل وهاء الرواية جعل جمهور العلماء لا يعبؤون بها، فحكموا بمكية الآيات، وإلا فلو صح أثر بدر لجعلها أكثرهم مدنية. نعم بعض المتأخرين توهم مدنيتها لأجل هذه الرواية وجعلها نبوءة في انتصار المؤمنين، وبعضهم اضطر إلى القول بأن لها نزولًا ثانيًا، ولا موجب لكل هذا بعد فساد السند.

.
وعلى الجملة: فهذا مبلغ ما انتهى إليه بحثي في هذه القراءة التي هي دون الشذوذ، وننظر ما يأتي به المنازع من أسانيد، أما الآن: فلا يصح في هذه القراءة شيء، وأقصى ما يقال -إن صحت-: أنها نزلت مرتين، إذ نزولها في مكة صحيح متفق عليه ثابت باتفاق الجماهير دع ما نأتي به لاحقًا، ويكون النزاع المعتبر في نزولها مرةً أخرى {غَلَبَت}، فتكون في مكةً متنبئة بانتصار الروم بعد هزيمتهم، وفي بدرٍ متنبئة بانتصار المسلمين على الروم الذين ظهروا على الفرس، وقد كان أيضًا في بضع سنين، إذ بدرٌ في خريف (624 مـ)، ومعركة أجنادين حيث انتصر المسلمون على الروم في صيف (634 مـ)، فبينهما تسع سنوات وشهور، فهي بضع دون العشرة، لو فرضنا دقة ما روي في الشهور، ويصير دليل النبوة دليلان، ولكن لا داعي لكل هذا.

.
ب- السياق التاريخي: فقراءة (غَلَبَت) بالفتح لا تستقيم مع ما عُرف من تاريخ تلك الأيام، إذ كانت دولة الروم يوم العهد المكي في حضيضٍ من الانكسار، قد تتابعت عليها الضربات حتى انقضت أركانها. فإن ثبت أن السورة مكية -وهو إجماع الحجة من القراء- استحال أن يأتي القرآن بخبرٍ يكذبه العيان، ويعرف بطلانه المؤمن والمشرك سواء، وما كان النبي ليخبر بقلب الواقع على خلاف ما تراه الأبصار، إذ لا مثار ردة وتكذيب وهدم للدعوة في فترة ضعفها فوق أن يخبر النبي بمغيب الشمس وهي في كبد السماء.

.
ج- سياق الآيات: إذ لو صحت قراءة (غَلَبَتِ) بالفتح، لكان من واجبِ النظم لغويًا أن تُقرأ الآية التي تليها: (سَيُغْلَبُونَ) بضم الياء، على البناء للمجهول، لتتوافق الجمل ويتساند المعنيان. وهذه القراءة لم يقرأ بها أحد قط، كما نص الطبري إذ قال: "وأما قوله: {سَيَغْلِبُونَ} فإن القرّاء أجمعين على فتح الياء فيها، والواجب على قراءة من قرأ: {الم غَلَبَتِ الرُّومُ} بفتح الغين، أن يقرأ قوله: {سَيُغْلَبُونَ} بضم الياء، فيكون معناه: وهم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون، حتى يصحّ معنى الكلام، وإلا لم يكن للكلام كبير معنى إن فتحت الياء، لأن الخبر عما قد كان يصير إلى الخبر عن أنه سيكون، وذلك إفساد أحد الخبرين بالآخر."

.

[نبوءة إلهية لا مقامرة عبثية]

.
ربما حاول بعضهم دفع النبوءة بأنها من جنس ما يُتوقَع، فالأيام دول، والممالك تكبو وتنهض، فلا تكون نبوءة سورة الروم خارقة للعادة، وتنبؤًا لا يرشحه شيء من واقع الحال. لذا سأقدم بما يسع أي أحد أن يلقيه إلى الذكاء الاصطناعي ليبصر جوابه، فسله:

"List 3 of the greatest imperial comebacks in premodern times between major nations or empires. Focus only on large-scale wars where a dramatic reversal of fortune could not have been anticipated at the time, and where an empire or nation was seemingly on the brink of defeat but managed to turn the war around."

لتجد في جوابه:

"The Byzantine Empire’s Comeback Against the Sasanian Empire (622–628)"

فإن لم يذكر ذلك في الجواب، فسله: لماذا لم تذكر هذه الحرب بين الإمبراطوريتين؟ وسيذعن لك بأنها جديرة بأن تذكر، وأنه تركها للاختصار أو لغير ذلك من أعذاره. إذ لا حدث أجدر من قلبِ هذه الحرب بوصف النبوءة، وليس وقوعه هو البعيد فقط، بل وقوعه {في بضع سنين}. وإليك تفاصيل تؤكد ذلك:

فقد استهل الفرس حربهم بالتوسع في بلاد ما بين النهرين وأرمينيا (603-610 مـ)، وبالاستيلاء على مدن حدودية مهمة مثل دارا، ماردين، آمد (ديار بكر حالياً)، والرها في شمال بلاد ما بين النهرين، بالإضافة إلى تأكيد سيطرتهم على أرمينيا. ثم واصلوا تقدمهم غربًا مع تولي هرقل مقاليد الحكم، إلى الأناضول وسوريا (610-614 مـ)، فاستولوا على مدن رئيسة كأنطاكية (611 مـ) ودمشق (613 مـ)، وتوغلوا في الأناضول فسيطروا على قيصرية في كبادوكيا. ثم يمموا نحو فلسطين (614 مـ)، فكان سقوط القدس حدثاً جللا، إذ استولوا على المدينة بعد حصار، ونهبوها، ودمروا أجزاء من كنيسة القيامة، فأخذوا "الصليب الحقيقي" غنيمةً إلى عاصمتهم (المدائن). ثم ما لبثوا أن ولجوا مصر (618-621 مـ)، فغزت جيوشهم مورد غذاء الإمبراطورية البيزنطية، وسقطت الإسكندرية عام (619 مـ)، ولم تبزغ شمس عام (621 مـ) حتى كانت مصر كلها تحت السيطرة الفارسية، فقُطِعَت إمدادات القمح الحيوية، مما أدى إلى مجاعة في القسطنطينية وتوقف توزيع الخبز مجانًا لأول مرة منذ قرون عن العاصمة، والتي كانت محاصرة مذ (617 مـ)، إذ سيطر الفرس على خلقدون، وهي مدينة على الجانب الآسيوي من مضيق البوسفور، فتقابل القسطنطينية مباشرة. وبذا بلغ تهديد العاصمة منتهاه، وحاصروها من ذلك الجانب، في حين كان الآفار والسلاف يحاصرون العاصمة من الجانب الأوروبي، بل كاد هرقل أن يُأسر أثناء توجهه للتفاوض مع خاقان الآفار، مما ينبيه عن مبلغ الخطر الذي أحدق بالروم من كل حدب وصوب.

المصدر:

Howard-Johnston, J.D. (2021). The Last Great War of Antiquity. Oxford University Press

ولأجل كل ما سبق، كان هرقل نفسه يقدم رجلًا للهرب وأخرى للاستسلام! فأدلى بخطةٍ لنقل العاصمة من القسطنطينية إلى قرطاج في إفريقيا، لكن بطريرك القسطنطينية والاحتجاجات الشعبية أجبراه على البقاء.
المصدر:

Kaegi, Walter E. (2003). Heraclius, Emperor of Byzantium. Cambridge University Press, pp. 65-67.

وفوق هذا، عرض خطة ذلٍ واستسلام على خسرو الثاني، بأن تكون الإمبراطورية البيزنطية دولةً تابعة للفرس، سامحًا لخسرو الثاني أن يختار الإمبراطور البيزنطي بنفسه، وكاشفًا بهذا العرض المذل عن الضعف الذي بلغته الإمبراطورية المترنحة.

المصادر:

Thomson, R.W. (trans.) (1999). The Armenian History attributed to Sebeos. Liverpool University Press.

Van der Essen, L. (1908). Chronicon Paschale. In The Catholic Encyclopedia. New York: Robert Appleton Company.

.

في حين على الجهة الأخرى، تجد غطرسة خسرو الثاني تنضح من رسالته الانتقاصية إلى هرقل، والتي نقلها المؤرخ الأرمني سيبيوس وأكدتها مصادر يونانية معاصرة، وفيها:

"من خسرو، المُبجَّل من الآلهة، السيد والملك على الأرض كلها، وسليل أرامزد العظيم، إلى عبدنا الأحمق عديم القيمة، هرقل. لم ترغب في إخضاع نفسك لخدمتنا، بل بدلاً من ذلك تدعو نفسك سيدًا وملكًا. وكنوزي التي في حوزتك، تبذرها، وعبيدي تفسدهم، وبعد أن جمعت جيشًا من اللصوص، لا تدعني أستريح. ألم أُبِد اليونانيين حقًا؟ وأنت تقول إنك تضع ثقتك في إلهك! لماذا لم ينقذوا قيصرية والقدس والإسكندرية العظيمة من يدي؟ هل من الممكن أنك حتى الآن لا تعلم أنني أخضعت البر والبحر لسلطاني؟ أستكون القسطنطينية وحدها التي لن أستطيع إخضاعها بالحصار؟ ولكنني الآن أعفو عن جميع تجاوزاتك: قُم، خُذ زوجتك وأبناءك وتعال إلى هنا. وسأعطيك أراضٍ وكُرومًا وبساتين زيتون، تعيش بها، وسننظر إليك بمودة. لا تدع الأمل الفارغ الذي تحملونه يخدعك، فذلك المسيح الذي لم يستطع أن يُنقذ نفسه من اليهود، بل قتلوه بتثبيته على خشبة، كيف يستطيع أن يُنقذك من يدي؟ فإن نزلت إلى أعماق البحر ذاتها، سأمد يدي وأقبض عليك، وحينئذ سترى مني ما لن تتمناه".

وليست الرسالة محض دعاية حربية، بل هي انعكاس للواقع على الأرض، إذ لم يكن هناك أي سبب يدعو خسرو للشك في هزيمة هرقل حينئذ.

المصدر:

Frendo, J.D. (1985). "The Poetical Inscriptions of the Reign of Heraclius and the Byzantine-Persian War of 602-628". Florilegium, vol. 7, pp. 30-39.

.

إذن كان نهوض الروم مستحيلاً للأسباب التالية:

أ- فقدان الموارد: فقد خسرت الإمبراطورية أغنى مقاطعاتها، ومن ثمَّ معظم مواردها البشرية والمالية.

ب- حصار الجبهتين: فقد كانت محاصرة من الشرق (الفرس) والغرب (الآفار والسلاف).

ج- الانهزام النفسي: فالإمبراطور نفسه يبحث سبل الاستسلام والخروج، والشعب يعاني المجاعة.

فتأمل كل ما سبق، واعلم أنه في حين كان هرقل نفسه لا يرى إلا الهزيمة، كان النبي عليه الصلاة والسلام يخبر عن انتصاره في بضع سنين.

ثم ارجع البصر في تلك الماجريات، واختر لنفسك، فهي إما نبوءة من إله، أو مقامرة من مجنون. ولكشف جنون المقامرة سنتصفح الاحتمالات الواقعية المتاحة آنذاك، إذ كان للحرب ست مسارات ممكنة، أربعة أولى تحتملها المعطيات، واثنان مستبعدان:

أ- حسم فارسي كامل يسقط الإمبراطورية البيزنطية.

ب- استمرار التقدم الفارسي دون انتصار حاسم (وهو الكائن حينئذ).

ج- توقف الفرس عن التقدم.

د- حرب طويلة بلا نتيجة حاسمة.

هـ- تراجع فارسي دون أن ينتصر الروم.

و- انتصار الروم.

وذا تقسيم منطقي (تقدم الفرس والانتصار الحاسم أو لا، فإن لا: فتقدمٌ دون حسمٍ أو لا، فإن لا: فتوقفهم أو استمرار الحرب، فإن استمرت: فتراجعهم دون هزيمة أو تراجعهم وانتصار الروم)، وقصاراه أن نكون أغفلنا احتمالات أخرى، وكلما زادت الاحتمالات البديلة نقص رجحان الاحتمال المجنون الأخير.
ولو أردنا أن نضع لهذه الفروض أوزانًا، لوجدنا أن السيناريوهات الأولى تستحوذ على أغلب الاحتمالات وتنسجم مع المعطيات، مع انهيار الجبهة الشرقية، وسقوط الشام والقدس ومصر مع حصار عاصمة الروم، وضغط السلاف والأفار من الشمال، وانهيار الخزينة، واضطراب الداخل، ورغبة هرقل نفسه في مغادرة العاصمة إلى قرطاج والاستسلام. كل هذا يجعل احتمال الانتصار الرومي احتمالًا هامشيًا، لو بالغنا في التفاؤل. فكان الأقرب، موضوعيًا وعسكريًا، هو استمرار الانهيار، أو على الأقل، عدم قدرة الروم على استعادة ما فُقد منهم. لكن لم يختر القرءان هذا الطريق الواسع الذي يرفع نسبة الإصابة، ولم يختر حتى التنبؤ المريح الذي يمكن أن يصحّ تحت أي تأويل، أي ما يكون من جنس صنيع الكهان والسحرة، المتخيرين لنبوءاتهم ما تتعدد تأويلاته، ويحتمل مصاديق كثيرة، مثل: "ستتبدل الأحوال" أو "سيقلب أحدهم الكفة" أو "ترقبوا انتصارا خالبا"، وما شاكل ذلك. بل اختار أضيق الاحتمالات، وهو انتصار الروم.

ولم يكتف القرءان بهذا، وحسبه بها نبوءة، بل أمعَن في التقييد، وجعل النبوءة قابلة للتكذيب عمَّا قريب، وبتاريخ انتهاء ضيق، فقيّد هذا الاحتمال بزمن {في بِضعِ سِنِين}، وهذا فوق كونه تقييدًا لاحتمال جنونيٍ ابتداءً، فهو يزيده جنونا، إذ لا الحال الراهنة آنذاك، ولا المعهود في حروب الدول، أن تنقلب الكفة في بضع سنين، من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين.

فما الذي يحمل كاذبًا أن يجازف هكذا دون ضرورة؟ وما الذي يلجئ رجلًا حال استضعافه ودعوته إلى أن يقامر بمثل هذا؟

ثم لو فرضنا انتصار الروم محتملًا، فقد كان يمكن أن تنتصر انتصارًا جزئيًا، فينازع المكابر في تسميته انتصارًا، أو في كونه زائدًا على محض ما يجري من مداولة الانتصار والهزيمة بين الممالك، ولكن كان انتصار الروم حاسمًا، وكان ما أخبر، فبعد أن أعاد هرقل تنظيم الجيش وخزانة الدولة، وجمع الأموال ولو بصهر ذهب الكنائس، أطلق هجوماً مضاداً جريئاً عام (622 مـ). وبدلاً من مواجهة الجيوش الفارسية في الأراضي المحتلة، قاد هرقل جيشه بنفسه وصيّر المعركة إلى قلب الأراضي الفارسية عبر أرمينيا والقوقاز. فألجأ الفرس إلى سحب قواتهم من الأناضول للدفاع عن أراضيهم، وحقق انتصارات في أرمينيا وأذربيجان. ثم كانت معركة نينوى الحاسمة (627 مـ)، بتحالف هرقل مع الخزر (الأتراك)، وتوغله في العراق الحالي، ليحقق انتصاراً ساحقاً على الجيش الفارسي في معركة نينوى، بالقرب من أطلال العاصمة الآشورية القديمة. ولم يلبث قليلًا حتى نُصرَ بانهيارٍ داخليٍ في فارس (628 مـ)، فبعد هزيمة نينوى، تقدم هرقل ونهب قصر كسرى في دستجرد، وأدت الهزيمة إلى تمرد في البلاط الفارسي، حيث خُلِعَ كسرى الثاني وقُتِلَ على يد ابنه قباذ الثاني (شيرويه). وانتهى الأمر بأن غزا قلب فارس، واستعاد كل ما فقده، وتقلّد انتصارًا حاسمًا لا ينازع فيه أحد.

إذن بين عينيك 1- تعيينٌ لنتيجة محددة، 2- ضمن مدة محددة، 3- خلافًا لجميع القرائن المتاحة. فكانت كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، بتلاوة القرءان.

.

[الروايات الإسلامية المتعلقة بالحدث]

.
وأشهر ما رُوي في شأن هذه الآيات قصة رهان أبي بكر الصديق مع أبيّ بن خلف. فقد جاء الخبر عن ابن عباس بسند صحيحٍ أن أبا بكر لما سمع الآيات تحدى المشركين، وراهنهم على أن الروم ستعود إلى الظفر في بضع سنين. وكان أول ما قدّر ثلاثَ سنين، ثم أشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ البضع ما دون العشر، فزاد في الرهان، ومدّ الأجل، فلم تنقض المدة حتى انقلبت الدائرة، وانتصر الروم قبل انقضاء الأجل، وربح أبو بكر الرهان -المباح حينئذ-.


والرواية كما عند الترمذي وأحمد والطبري: "عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: (الم، غلبت الروم) قال: "غلبت، وغلبت". قال: "كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ لأنهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكره لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إنهم سيغلبون". قال: فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً؛ فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا؛ فجعل أجلاً خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال ألا جعلتها إلى دون - قال: أراه قال: العشر - قال: قال سعيد بن جبير: البضع ما دون العشر، ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله: (الم. غلبت الروم) إلى قوله: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)"

قلت: وهذه رواية صحيحة كما قلنا، فلا حاجة إلى استقصاء سائر الأخبار ولا بحث أسانيدها، إذ ليس مسلكي هنا قائمًا على التعلق بالروايات بعد أن كفَت تاريخيًا، وإنما أشير إلى أن هذه الرواية، ومعها الآثار التي تُلحق هذه السورة بالعهد المكي قبل الهجرة، تجعل القول بالنبوءة واقعًا قبل أن يقوم هرقل بحملته، وقبل أن تُقلب موازين الحرب.

فإذا ثبت كون السورة مكية، فقد ثبت أن النبوءة قيلت قبل الحدث، ولو لم نعتمد روايةً واحدةً من روايات الرهان البكري.

.

[التسلسل الزمني للحدث التاريخي]

.
إنّ موضع الدلالة في هذه النبوءة قائم على إثبات أنها نزلت قبل وقوع ما أخبرت به، ولا يكون ذلك إلا بتعيين ثلاثة تواريخ: 1- تاريخ هزيمة الروم، 2- وتاريخ نزول الآية، 3- وتاريخ الانتصار. وهذا تلخيص ما يتصل بها:
.

602 مـ: بداية الحرب البيزنطية الساسانية.

610 مـ: بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

613 مـ: بداية انتصارات الفرس الكبرى، باستيلائهم على سوريا والأناضول.

614 مـ: سقوط القدس بيد الفرس وسلب الصليب المقدس.

615 مـ: سقوط خلقيدون، وعندها كان هرقل مستعدًا للاعتراف بالتبعية للفرس أو الهرب إلى قرطاج.

619 مـ: سقوط الإسكندرية بيد الفرس.

622 مـ: الهجرة النبوية، وبداية حملة هرقل المضادة وانتصاراته الساحقة في الأناضول، كلاهما في خريف هذه السنة.

624 مـ: غزوة بدر، وفيها كان هرقل يشق قلب الدولة الساسانية، فيعبر أرمينيا، ويهدم دفين ونخجوان وجانزاك، ويتوغّل حتى تخوم أذربيجان، فيخرّب معبد النار في آذر غشسب (نظير تخريب الفرس القدس)، ثم يقيم بألبانيا القوقازية.

627 مـ: معركة نينوى التي انتصر فيها الروم.

628 مـ: صلح الحديبية بين قريش والنبي، ومعاهدة السلام بين الروم والفرس، معلنة انتصار الروم الأخير.
.
ولأجل أن تكون النبوءة قبل الحدث، وجب أن يكون نزول الآية بعد بعثته سنة (610 مـ) -وهذا بدهي- وفيما بين (613 و622 مـ). والعجيب أنها متى نزلت في هذه المدة، وقع انقلاب الموازين بعدها في بضع سنين، والبضع كما قلنا ما فوق الاثنين ودون العشرة.

ولو سلمنا -على الفرض- أن خبر سقوط سوريا والأناضول سنة (613 مـ) بلغ العرب في مكة لساعته، وأن الآيات نزلت من فورها بلا تراخٍ، لكان ما وقع بعدها من انتصارات هرقل داخلًا في حد البضع، إذ بين (613 و622 مـ) تسع سنين، وهو دون البضع، وتصدق النبوءة. فكيف يتصور أن تجيء النبوءة بهذه السرعة، والواقع يشهد بأن الروم يومئذ في حضيض الهزيمة؟ كيف وسقوط القدس كان أشد الضربات، وقد كان سنة (614 مـ)؟ ثم من قال إن الآيات نزلت في أول سنة الظفر الفارسي؟ لا سيما وقد رأيت أن ظفرهم مستمرٌ متصاعدٌ حتى سنة (622 مـ)، فيجوز أن تكون نزلت بعدها، إذ لا يلزم أن يكون نزولها متصلًا بيوم وقوع الحدث الكبير الأول.
فالنبوءة إذن صادقة ما دامت نزلت بين (613 و622 مـ)، وهو الذي أردنا إثباته بعد أن عرفنا تاريخ هزيمة الروم وتاريخ نهوضهم. فإذا ثبتت هذه المدة، فقد ثبت أن الخبر جاء قبل وقوعه، وأن الوعد جاء حين كانت الدولة البيزنطية على وشك السقوط، فكان شاهدًا على صدق ما أنزل، لا على توهم ولا على حدس.
.

[متى بلغ خبر انتصارُ الروم]

.
وهذه مسألة جانبية لا أثر لها في أصل البحث، غير أني احببت طرقها ليتم الكلام. فقد اختلف الرواة في الوقت الذي بلغ فيه المسلمين خبر انتصار الروم:

أ- فقيل في بدر، اعتمادا على حديث عطية الضعيف، ولا أعلم نصًا غيره تُبنى عليه هذه الدعوى، إلا أقوالًا لمتأخرين عن زمن الحادثة.

ب- وقيل في الحديبية، وهو أيضا منقول عن متأخرين، ولم أقف فيه على خبرٍ مرفوع يصح، فلا يبدو أن شيئا ينهض للجزم ويصلح أن يعول عليه، ولكنه أقوى ما قيل.

غير أنني ذكرت تاريخ الحدثين، بدر والحديبية، قبال ما يتعلق بحرب الروم والفرس في الترتيب الزمني السابق، حيطةً وإكمالًا للصورة. وأيا ما كان زمن بلوغ الخبر، فإن النبوءة إذا صدرت قبل الوقوع بتسع سنين فقد صدقت.
فإن كان وصول الخبر في بدر سنة (624 مـ)، وجب ألا يكون نزول الآية قبل سنة (615 مـ) وإن بلغهم حال قفولهم من الحديبية سنة (628 مـ)، وجب ألا يكون نزول الآية قبل سنة (617 مـ)، لذا فإن من جعل انتصار الروم زمن الحديبية، ذكر في نفس الرواية أن نزول الآية كان قبل سنتين من الهجرة، أي سنة (620 مـ).
وخلاصة القول: ما دام نزول الآية ممكنا بين (613 و622 مـ)، فلا يهمنا متى بلغ المؤمنين خبر ظفر الروم، لأن الرجوع بتسع سنين عن تاريخ بدر أو عن تاريخ الحديبية، يردنا الى العهد المكي، وهذا كافٍ لصدق النبوءة.
.

[الاتفاق التراثي على أن السورة المكية]

.
فقد اتفق المفسرون وعلماء القرآن، قديمهم وحديثهم، على أن سورة الروم مكية نزلت قبل الهجرة. وما خالف هذا إلا نفر من المتأخرين، غرهم الأثر الواهي لعطية العوفي. ولم يكن اعتماد الجمهور في مكيتها على الروايات وحدها، بل على خصائص السورة ذاتها، ومن ذلك قصر الآيات والفواصل المنتظمة، والحديث عن التوحيد والنبوة والبعث، وجدال المشركين، والإشارات الكونية، وغير ذلك. ولكن سأطرق هنا بابًا جديدًا في الإعجاز، تراه في البحث الآتي.

.

[إثبات مكية السورة بالتحليل الحاسوبي]

.

ظهرت حديثًا فروع معرفية تستخدم خوارزميات رياضية وإحصائية لتحليل أسلوب النصوص وتحديد بصمة المؤلف. وعندما طُبقت هذه التقنيات على القرآن، قدمت أدلة موضوعية مستقلة تؤكد التصنيف التراثي للمكي والمدني، وتثبت مكية سورة الروم. بل أكدت ما فوق ذلك، ومن غير المعقول على الإطلاق أن يكون مؤلف القرآن قد قصد عمداً إلى إخفاء تفاصيل لغوية ورقمية وصوتية دقيقة في النص لتشكل أنساقًا مقيسةً بعد قرون من الزمن. وذا مجال واسع ليس هذا محل بسطه، وآية نبوة قائمة بنفسها، ولكن نكتفي بمتعلق بحثنا، فإليك ملخصًا لنتاج (بعض) الدراسات المهمة:

.

الدراسة الأولى: بصمة المؤلف الأسلوبية (Sadeghi, 2011)

.
تعتمد الدراسة الأولى التي أجراها الباحث بهنام صادقي على مجال يُعرف بالتحليل الأسلوبي (Stylometry). فلكل مؤلف "بصمة" لغوية فريدة، تتجلى في عاداته غير الواعية، مثل متوسط طول الجملة، أو الكلمات التي يفضل استخدامها. وقد وظف صادقي هذه الفكرة لتحليل القرآن، إلا أنه لم يعتمد على الكلمات فقط، بل على وحدات أصغر وأكثر ثباتًا تسمى "المورفيمات" (Morphemes)، وهي أصغر وحدات لغوية تحمل معنى (مثل "الـ" و "مؤمن" و "ون" في كلمة "المؤمنون").

وبتحليل توزيع هذه المورفيمات ومتوسط طول الآيات عبر القرآن بأكمله توصل صادقي إلى أن أسلوب القرآن يتطور بشكل تدريجي وسلس عبر الزمن، مما سمح له بتقسيم النص إلى سبع مراحل زمنية متتالية. وعند تطبيق هذا النموذج على سورة الروم، وجد صادقي أن آياتها تقع ضمن المرحلة الرابعة من هذه المراحل السبع، وهي مرحلة تتقاطع مع الفترة المكية المتأخرة، مما يعني أن "البصمة الأسلوبية" لسورة الروم تطابق بصمة السور التي نزلت في أواخر فترة المكية، مما يقدم دليلاً مباشرًا على مكيتها.

المرجع:

Sadeghi, Behnam. “The Chronology of the Qurān: A Stylometric Research Program”. Arabica, 2011.

.

الدراسة الثانية: تعلم الآلة وقائمة الاستبعاد (Abid, 2017)

.
في هذه الدراسة، قام الباحث أبو بكر عابد بتدريب نموذج حاسوبي على التمييز بين السور المكية والمدنية، موظفًا ما يعرف بـ "حقيبة الكلمات" (Bag of Words)، حيث يتعلم الحاسوب الربط بين تكرار كلمات معينة والفترة التي نزلت فيها (فمثلاً: كلمة "كلا" تظهر في السور المكية). وبعد تدريب النموذج على مجموعة كبيرة من السور (40% من القرآن)، تم اختباره على القرآن بأكمله وعلى سور لم يرها النموذج (60% من القرآن).
فحقق النموذج دقة بلغت 94.7%، ونجح في تصنيف 108 سورة من أصل 114 بشكل صحيح! والأهم من ذلك، نشرت الدراسة قائمة حصرية بالسور الست التي أخطأ النموذج في تصنيفها، فلم تكن سورة الروم منها، مما يعني أن النموذج الحاسوبي، نجح في تصنيف سورة الروم بشكل صحيح، وجعلها مكية، مؤكدًا التصنيف التراثي. وبعبارة أخرى: البصمة الإحصائية لكلمات سورة الروم تطابق بصمة السور المكية بثقة إحصائية عالية.

المرجع:

Abid, Abubakar. “Can a Machine Learn to Classify Meccan and Medinan Surahs?” 2017.

.

الدراسة الثالثة: البصمة الرقمية العميقة (Chowdhury & Rahman, 2020)

.
وهي الدراسة التي أجراها باحثون ونُشرت في مؤتمر IEEE، في التحليل الرقمي للنص. وبدلاً من الاعتماد على الكلمات فقط، قام الباحثون باستخراج 64 خاصية رقمية مفصلة لكل آية من آيات القرآن، مثل عدد الحروف، وعدد الحركات (الفتحة، الضمة، الكسرة)، ومتوسط طول الكلمة، وتوزيع الحروف المختلفة، وغير ذلك كثير، وهي خصائص تشكل "بصمة رقمية" أكثر تعقيدًا وعمقًا لكل آية.

بعدها تم استخدام سبع خوارزميات مختلفة للتعلم الآلي لتدريب نماذج على التمييز بين الآيات المكية والمدنية بناءً على هذه البصمة الرقمية، فحققت هذه النماذج دقة تتراوح بين 80% و 98%! وهي نسبة دقة عالية جدًا تؤكد وجود فروق إحصائية واضحة وقابلة للقياس بين النص المكي والمدني. ومع أن الدراسة لم تذكر سورة الروم خصيصى، إلا أن قوة الدليل تكمن في النسبة الاحتمالية، فالنماذج أثبتت قدرتها على التمييز بدقة عالية عبر القرآن بأكمله، فتكون الاحتمالية الإحصائية لتصنيفها الصحيح لسورة الروم بوصفها مكية مرتفعةً للغاية.

المرجع:

Chowdhury, S. A., & Rahman, M. S. “Predicting Places of Revelation of Quran’s Verses Using Machine Learning”. IEEE, 2020.

.

الدراسة الرابعة: إيقاع الآيات وبصمتها الصوتية (Shahbazi & Ghorbanian, 2025)

.
وهي الدراسة الأحدث، وتقدم منهجية مبتكرة، حيث تحلل صوت وإيقاع الآيات القرآنية بدلاً من نصها المكتوب، وذلك باستخدام تقنية هندسية تُعرف بـ تحويل فورييه السريع (FFT)، حيث تمكن الباحثون من تفكيك التسجيلات الصوتية للقرآن إلى "طيف ترددي"، وهو ما يمكن اعتباره "بصمة صوتية" لكل سورة، حال اعتمادهم على عدد من القراء، وعزل أثر أسلوبهم على بصمة الآية الصوتية.

فوجد الباحثون أن السور المكية التي تتناول غالبًا مواضيع الإنذار والقيامة، تتميز بإيقاع قوي، سريع، ومضطرب صوتيًا. وفي قبالها السور المدنية، التي تقصد إلى التشريع وتنظيم المجتمع، وتتميز بإيقاع هادئ، بطيء، ومستقر صوتيًا. كما كشفت منهجية الدراسة عن مجموعات من السور تتقارب صوتيًا، وأن بعض السور يظهر فيها توافق أكبر مع الترتيب التراثي، بينما تختلف سور أخرى مع ترتيب نولدكه.

ومما يُلفت النظر أن الدراسة لم تُشر إلى أي خللٍ في تصنيف الروم ضمن السور المكية، ولم تُدرجها ضمن السور التي تخالف فيها الترتيب المسبق تراثيا واسشراقيا. والصمت هنا عن سورة الروم في دراسة تبحث السور التي يتعارض موقعها الصوتي مع موقعها في ترتيب النزول المسبق يتضمن اعترافًا بأن موقع سورة الروم الزمني لم يُرصد فيه أي اضطراب صوتي أو أسلوبي، وأن ترتيبها المكي المتأخر جاء متسقًا مع الترتيب التراثي وترتيب نولدكه معًا، خلاف ما وقع مع سور أخرى.

المرجع:

Shahbazi, H., & Ghorbanian, M. “Analyzing the Rhythm of Quranic Verses through a Computational Approach to Revelation Chronology”. Quran, Culture and Civilization, 2025.

.

خلاصة المبحث: اعلم أن القوة الحقيقية لهذه النتائج لا تكمن في كل دراسة على حدة، بل في تضافرها، إذ لدينا أربع منهجيات مختلفة تمامًا:

1. تحليل أسلوبي يعتمد على بصمة المؤلف اللغوية.

2. علم آلي يعتمد على تكرار الكلمات.

3. تعلم آلي يعتمد على 64 خاصية رقمية عميقة.

4. حليل صوتي يعتمد على إيقاع الآيات.

ورغم انطلاق كل منهجية من زاوية مختلفة وأدوات مستقلة، إلا أنها تصل إلى نفس النتيجة القاطعة: سورة الروم تنتمي إلى الفترة المكية. وهذا الإجماع العلمي الحاسوبي يغلق الباب أمام أي ادعاء بأن السورة كُتبت بعد انتصار الروم.

زد أن توافق نتائج هذه الدراسات الحاسوبية المستقلة والمتنوعة يحمل دلالات زائدة على ما نحن بصدده، منها: 

أ- صدق الروايات الإسلامية: فتؤكد هذه الدراسات بشكل علمي وموضوعي صحة التصنيف الذي وضعه علماء المسلمين قبل قرون للمكي والمدني، وصدق الروايات المتعلقة بأسباب النزول ونسبة السور إلى عهدها الذي نزلت فيها، مما يعضد المنهجية التي اتبعها علماء الحديث والتفسير.

ب- صدق تنزل القرءان منجمًا: فالتطور الدقيق الذي يستحيل رصده بشريًا يقضي بأن القرآن لم يؤلف دفعةً واحدة. 

ج- استحالة التأليف البشري: فمن المستحيل أن يأتي مؤلف بشري، يعيش في القرن السابع، ليخطط ويلتزم هذا الاتساق الأسلوبي المعقد عبر 23 عامًا من التأليف، إذ كيف يمكن لأي شخص أن يضبط بوعي تردد المورفيمات؟ أو الخصائص الرقمية لـ 64 متغيرًا؟ أو الطيف الترددي للصوت الذي توقعه الكلمات؟ ليخلق بصمتين أسلوبيتين مختلفتين (مكية ومدنية) يمكن اكتشافهما حاسوبيا بنسبٍ إحصائية عالية بعد 1400 عام؟ فليس شيء من ذلك في طوق القدرة البشرية.

د- دليل المصدر الواحد: فانساق السورة الواحدة، ثم التطور السلس للأسلوب عبر المراحل السبع التي اكتشفتها دراسة صادقي، كلاهما دليل قوي على أن النص له مؤلف واحد، وأن ليس ينتحل من مصادر عدة، وأن أسلوبه تطور دون قفزات وفجوات عشوائية، مع مرور الزمن وتغير الظروف، وكله يتسق مع سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ويثبت نسبته لرجلٍ واحد على فترة زمنية. دع دراسات أخرى في الاختلاف الجذري بين القرآن والحديث إحصائيًا وبدرجة لا يمكن أن يتكلفها بشر لو كان يؤلف نصين، ولكنه بحثٌ آخر، وسهمٌ نرمي به لاحقًا.

ولا يقال: هذه دراسات متحيزة للمسلمين فيها أياد، فبعضها بمشاركة غير المسلمين، ونشرت حيث لا يد للمسلمين، وهي مبنيةٌ على برمجة بمصادر مفتوحة، ومنهجية مسطورة، قابلة للنسخ والتكرار، فيسهل دحضها إن كانت موجهة، وعلى المنازع الانتهاض لذلك.

ولا يقال: هذه الدراسات تبني على التسليم بمكية بعض السور، والتي سيجري عليها القياس، إذ ليس الأمر كذلك، بل هي تنبي عن تدرج تاريخي وامتياز بين السور يوافق الرواية التراثية، وهو مدركٌ حسًا ابتداءً بالنظر في أسلوب السور، لكن زادت عليه الدراسات دقائق حسابية لا يحسن أن يتكلفها بشر، فلا يبقى إلا أن ينازع المكابر في نزول القرءان جملةً في الفترة ما بين (610-632 مـ)، فينسبه لسنواتٍ لاحقة أيام الأمويين أو العباسيين، وهو ما يدحضه تواتر القرءان -أو جمهوره على الأقل عند من يدندن حول الاختلاف في قراءاته وحروفه- إضافةً لمدلول مخطوطاته المتصلة بالقرن الأول. ونقاش هذا العته له موضع آخر.

.

[خاتمة]

.
بعد أن أثبتنا مكية سورة الروم بالأدلة القاطعة من الاتفاق التراثي، والخصائص الموضوعية، والروايات التاريخية، وبعض الدراسات حاسوبية والأسلوبية المستقلة، لم يعد هناك أي مجال للتشكيك في أن الآيات نزلت قبل تحقق النبوءة بسنوات.

والافتراض الوحيد المتبقي للمشكك -وستعجب أنه قيل- هو أن يطعن في التاريخ نفسه! بأن يقول: "ربما كانت السورة مكية، ولكن تاريخ الهجرة نفسه غير صحيح، فربما حدثت الهجرة عام (624 مـ) مثلاً، ومن ثم نزلت السورة عام (623مـ) إبّان انتصار الروم".

ويكفي لدفع هذا ما ذكرناه سابقًا من كون الآية ستخبر حينئذ عن خلاف الواقع، فاتقة للردة وهدم الدين بابًا واسعا، مخبرةً بأن الروم غُلِبتَ وهي غالبة! وتتجلى سفسطة هذا التشكيك باستحضار أن تاريخ الهجرة (622 مـ) لم يوثّق بالروايات، بل بالتواتر العملي للأمة الإسلامية برمتها، وذلك باتخاذها هذا العام بدايةً لتقويمها الخاص (التقويم الهجري) بأمر من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ومنذ ذلك الحين، وحتى يومنا هذا، تستخدم الأمة الإسلامية هذا التقويم في عباداتها.

وهو الآن تقويمٌ لما مضى مذ صدقت النبوءة، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق