[شبهة العول... جعجعة بلا طحين]
.
استمرارًا لسلسلة (محصل غباوات الملحدين)، فمما يتكرر الطنين به على ألسنة هؤلاء ما يسمى بشبهة العول، زاعمين وجود خطأ حسابي في القرآن. وكالعادة، الشبهة من الجنس التافه، الذي يكفي لحله تبيان أصل المسألة وسوء الفهم، وليس من جنس ما يتفق الفريقان على فهمه ثم يتم بحث إشكاله.
أما العول، فهو الكائن عند تزاحم حقوق الورثة مع كون التركة أضيق من استيعاب جميع أنصبتهم المقدرة شرعاً. فإذا زاد مجموع أسهم أصحاب الفروض (كنصف وثلثين) على أصل المسألة (الواحد الصحيح)، يحدث ما يسمى بالعول، إذ مجموع النصف والثلثين: 3/6 + 4/6= 7/6، وليس 6/6=1، فتعول الـ6 حينئذٍ إلى 7، ويجري التقسيم إلى 4/7 و3/7، ليكون المجموع 7/7، بتوزيع نقصٍ متساوٍ على الفئتين. وهو الذي عليه جمهور الصحابة والفقهاء، أي إنقاص حصة كل وارث بنسبة متساوية، تماماً كما يوزع النقص على الدائنين إذا كان مال المفلس لا يكفي لسداد ديونهم، وهي حالات مجموعها 8 بحسب ذاكرتي.
وإليك مثالًا لتقريب الشبهة: لو أن شخصًا طولب بتوزيع تركة ميت، فقال: لزيدٍ ثلثا التركة، ولعمرو نصفها. فهذه قسمة غير ممكنة، إذ لو أعطيت زيدًا الثلثين، لم يبق نصفٌ لعمرو، وكذلك العكس. فهنا زيدٌ جاهلٌ بالرياضيات، لا يحسن التقسيم.
.
[الجواب الإجمالي]
.
فتدفع الشبهة بسؤال أولٍ يسير: أين في الوحي الزعم بأن مجموع الأنصبة في كل الحالات سيكون واحدًا صحيحا؟ وأين في الوحي أنه قصد بتوزيع الأنصبة إلى استيعاب التركة رياضيًا أصلًا؟ دون تزاحم أو فائض؟ فإن لم يكن لشيء من هذا وجودٌ سقط كل ما يقال في الإشكال.
وفي ذلك تأكيد لعجز الملحد عن دفع دلائل النبوة إلى تحريف مدلول النص، وتقويله ما لم يقل، ليبني على وهمه دعوى خطأ حسابي، لا يقع فيه أدنى الصحابة والمشركين، دون أن ينتبه أحدٌ فيُشكِل به على أصل سماوية الوحي.
.
[الجواب التفصيلي]
.
[الوجه الأول- التمييز بين تقرير الحقوق وتوزيع التركة]
.
فنفصّل أولًا بالتمييز بين مقامين:
1. مقام تقرير الحقوق: فآيات المواريث تحدد الحق المبدئي لكل صنف من الورثة، وأن هذه حقوق ثابتة ومستقلة.
2. مقام تنفيذ الحقوق: فعند التنفيذ، قد تضيق التركة عن استيعاب كل هذه الحقوق كاملة، فتنشأ حالة تزاحم.
.
وبهذا يتبين التدليس في الشبهة، إذ هي تصور القرآن وهو يوزع تركة موجودة على ورثة موجودين، ثم حين وزعها وجدناها قاصرة عن استيفاء ما ذكره من أنصبة. والصحيح أن القرآن لم يفعل هذا ولم يتطرق له أصلًا، فليست نصوصه في تناول حالة معينة، أو توزيع تركة مخصوصة ثم أخطأ في توزيعها، بل نصوصه تقرر الحق الابتدائي لكل صنف، والحالة الأصلية لكل فئة، دون تطرق لحال تزاحم الحقوق، تاركًا ذلك للأصل المقرر الذي أدركه الصحابة، وهو التسوية بين أصحاب الفرائض، فلا نص يقدم أحدهم على الآخر، وهو مقتضى العدل، الذي يؤكده القياس على الغرماء.
.
[الوجه الثاني- تحدي الإتيان ببديل دون تحكم اعتباطي]
.
وجريًا على قالة "ليس في الإمكان أبدع مما كان" فالتحدي أن ينشئ مخالفٌ نصوصًا في تقرير الحقوق تتناول كل من تناولهم القرآن، ودون أن يغيرها إلى تساوٍ اعتباطي، ثم لا تنشأ حالات عول ورد، فذا مستحيل رياضيًا. إذ لتجاوز العول سينقص المغيّر بعض الأنصبة جزمًا، وبإنقاصها ستنشأ حالات رد (حين يكون هناك فائض من التركة بعد القسمة فيرد إلى أصحاب الفرائض)، فإنشاء قسمة جديدة للأنصبة بحيث تستوعب كل التركة دون أن تنقص أو تزيد أمرٌ مستحيل رياضيًا. ولا يقال: العبرة بالنقص لا بالزيادة، فإن الفائض لا يضر الورثة ويرد إليهم، فلا ضير في زيادة حالات الرد إن أزلنا حالات العول. إذ نقول: البحث ليس في النفع والضر لكن في دعوى الخطأ الرياضي، والزيادة هنا كالنقص، فإن استحال رياضيًا تقسيمٌ يستوعب التركة دائمًا= زالت دعوى الخطأ الرياضي رأسًا، أما دعوى زوال الضرر بتغيير الأنصبة، لتزيد حالات الرد حين تزول حالات العول، فهي فاسدة أيضًا، إذ نفس الضرر واقع على من أنقصت أنصبتهم لإزالة العول، فهما سيَّان في النفع والضرر.
وقد حاول بعض الشعبويين هؤلاء إنشاء آيات تعالج المسألة، ولن أتناول ركاكتهم اللغوية وغباوتهم في فهم فلسفة الميراث، بل لن أتناول محاولاتهم الجزئية رأسًا لتفاهتها وتنزهي عن ذلك، لكن سأتناول كل مقاربة ممكنة عقلًا، إذ لن تخرج المحاولات عن أحد سبيلين، كلاهما باطل:
.
السبيل الأول- تغيير الحقوق والأنصبة:
فإذا كان "الحل" المقترح هو تغيير الأنصبة نفسها (كتغيير النصف إلى الثلث مثلاً لتجنب التعارض)، أو تقييد الأنصبة لتقل في حالات معينة (كتقييد النصف للزوج بشرط ألا يكون للمتوفاة أخوات)، فهذا تحكم محض وسلب لحقوق ابتدائية، فتقدير حق كل صنف من الورثة مبني عند المؤمن على علم الله وحكمته البالغة التي تروز درجة القرابة، والحاجة، والعبء المالي. فعلامَ يبني غير المؤمن؟ ومن ذا الذي يملك من العلم ما يؤهله للاعتراض على هذه المقادير أو تعديلها موضوعيًا؟ فإن غيَّرها صار النزاع معه في أصل ثبوت هذه الأنصبة عن إله، وفي الموازنة بين نظامين، إلهي واعتباطي، ولم يعد البحث في شبهة خطأ حسابي، وصار كالتسليم بأن لا خطأ حسابي هنالك ما دامت هذه الأنصبة حقوقًا مُقرَّةً من إله. وليس مرادنا أن ما نقوله حقٌ لأنه من إله، وإنما أنه متى ثبت حقٌ في نفس الأمر، لم يؤثر فيه عدم إمكان استيفائه كاملًا، كما لو ثبت لدائن مبلغٌ، لم يؤثر فيه إفلاس المدين، ولم يكن مجرد هذا مسوغًا لتغيير حقه أو التشكيك في دقته الرياضية! فهو الواقع في نفس الأمر، ولا بد لتغييره من مسوغ يتعلق بمصدر استمداد هذا الحق، إلهًا كان أو غير ذلك.
ثم إن تغيير النصاب الذي قرره الله سلبٌ لحق ثابت، فبأي شيء يقنع من نقص نصيبه؟ ولِمَ ينقص هذا الوريث دون من زاحمه؟ فإذا كان للزوج حق النصف، وتم إنقاصه للثلث لئلا يكون عول، كان ذلك اعتداءً على حقه، وسيقع المخالف في مشكلة تسويغ ذلك لمن نقص حقه، وأنى لملحد أن يسوغ هذا الاعتباط. وإن قيل: سيسوّغ ذلك بأصل المساواة، قارعه من لا يرى التساوي ويعتمد فلسفة الميراث الإسلامية وإن لم يكن مسلمًا، لاقتناع عقلي أو موروث اجتماعي، فيرى وجوب اعتبار درجة القرابة والحاجة والعبء المالي، بل ربما نازعه من يرى قسمةً جاهلية ترجع لاستبداد الرجال والأقوياء على النساء والضعفاء، مما هو ظلم في ميزان الشريعة، فبأي شيء سيسوّغ الملحد قسمته الاعتباطية قبال المنازع؟
.
السبيل الثاني- إضافة نص يتعلق بالعول:
فإن كان "الحل" هو إبقاء الأنصبة كما هي، مع إضافة "آية" جديدة تشرح كيفية التعامل مع حالة العول (كأن تنص صراحة على التوزيع النسبي)، فهذا قصاراه أن القرآن ترك أمرًا للاجتهاد، في حين أنشأ له المخالف نصًا، ويصير الاعتراض حينئذ اعتراضًا على مبدأ الاجتهاد نفسه، ولم يعد نقاشًا في خطأ حسابي مزعوم، بل في: هل يلزم الوحي التنصيص على كل نازلة تتعلق بتطبيق الأحكام؟ وهذا مطلبٌ مستحيلٌ عقلًا لأن النوازل لا تنتهي. فلا بد وأن يتفق الفريقان على اكتفاء القرآن بالأصول، ثم ما يقع من عوارض لمناطات الأحكام، فشأنها للمجتهدين، وهذا في كل قانون على وجه الأرض. فإن أصر على نقد الوحي لعدم التنصيص على خصوص هذه الحالة، طولب بوجه التفريق بينها وبين مئات وآلاف النوازل التي لم ينصص عليها، وبعضها أهم اتفاقًا.
وشأن الملحد الشعبوي أن يهول من المسألة، وكأنها مما سالت فيه دماء وتقطعت أعناق، وليس الأمر كذلك، بل هي سهلة ذهب جمهور الصحابة فيها إلى قول وخالف ابن عباس متأخرًا، والنص والقياس مع الجمهور، إذ حال القياس على الغرماء ظاهرة، والنص لم يفرق بين أصحاب الفرائض ليقدم بعضهم على بعض، كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها)، فجمعهم دون تقديم وتأخير.
.
إذن محاولة "التصحيح" تدور بين التحكم الاعتباطي في حقوق قررها الله بعلمه، أو الاعتراض المجرد على حكمة ترك مساحة للاجتهاد المنضبط.
.
[الوجه الثالث- الرد نقيض العول]
.
فها هنا حالات معاكسة للعول، وهي حالات "الرد"، حيث يأخذ صاحب الفرض أكثر من نصيبه الأصلي المقرر في القرآن. فإذا ماتت امرأة عن بنت واحدة فقط، فإن حق البنت الأصلي هو النصف {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}. ولكن عند عدم العاصب الذي يأخذ الباقي، فإن النصف الآخر يُرد على البنت عند جمهور الفقهاء، فتأخذ التركة كلها. فهل يقول حينئذٍ عاقل: "كيف تأخذ البنت الكل والقرآن جعل لها النصف فقط؟ هذا خطأ حسابي!"
أم يفهم العقلاء أن للوارث حقاً أصلياً هو فرضه المنصوص عليه، ولكن عند خلو التركة من مزاحمين (كالعصبات)، يُرد عليه الباقي فيأخذ أكثر من فرضه الأصلي. فكذلك العول، إذ قررت الآيات الحق الأصلي لكل وارث، فإذا وُجد تزاحم، دخل النقص عليهم بالعدل، وإذا وُجد فائض، رُد عليهم بالعدل. فالمبدأ واحد: النصوص تقرر الحقوق الأصلية، والواقع يحدد كيفية التطبيق عند التزاحم أو الفيض. ولم يزعم النص أن الفرائض تستوعب التركة، فقد يقع التزاحم وقد يكون فائض، وكلاهما أمر عادي في التعاملات مع الحقوق المالية.
.
[الوجه الرابع- نظائر العول في القوانين الوضعية]
.
إن مبدأ التوزيع النسبي عند تزاحم الحقوق ليس بدعاً إسلامياً، بل هو حجر الزاوية في تحقيق العدالة في كبرى النظم القانونية الحديثة:
ففي قانون الإفلاس (Bankruptcy Law): مبدأ Pro Rata Distribution هو القاعدة الأساس لتوزيع أصول المفلس على الدائنين من نفس الفئة.
ومثله في قانون التأمين: عندما تكون المطالبات المتعددة تتجاوز حدود وثيقة التأمين، يتم توزيع مبلغ التأمين بشكل نسبي بين المطالبين.
وفي قانون الوصايا (Common Law of Wills): مبدأ Abatement القاضي بتخفيض الهبات والوصايا بشكل نسبي إذا لم تكف التركة للوفاء بها جميعاً.
وعمومًا: في النظرية الاقتصادية، هناك دراسات واسعة حول الـ "Claims Problems" أو "Bankruptcy Problems"، وهي حالات يكون فيها مجموع المطالبات أكبر من الموارد المتاحة. وحلها عادةً لا يخرج عن الآتي أو عن خليطٍ منه:
1. Proportional Rule (القاعدة النسبية): التوزيع بنسبة المطالبات - وهذا يشبه العول.
2. Equal Division (التقسيم المتساوي): إعطاء الجميع مبالغ متساوية.
3. Priority Rules (قواعد الأولوية): تقديم بعض المطالبين على بعض.
فالعول حل عقلاني عالميًا لنازلة "تجاوز الحقوق الموارد المتاحة"، ولا تجد عاقلًا يكرّ على واضعي القوانين والمحاسبين الذين قرروا الحقوق المنفصلة بأنهم لا يحسنون الحساب، دع كونهم يجهلون الحساب البدهي ككون مجموع النصف والثلثين أكثر من واحد!
فتخيل محاسبًا متخصصًا يقرر حق كل طرفٍ مستقلًا، ثم عند توزيع الحقوق وقع التزاحم، ليأتي غبيٌ فيتهم المحاسب بالجهل في الحساب وبالخطأ في تقاريره لكل طرف! هذا شأن الملحد الشعبوي وشأن فهمه للمسألة.
.
[الوجه الخامس- نصوص الميراث آيات نبوة]
.
فمن آيات الوحي البلاغية ما جاء في نصوص الميراث هذه، إذ تجد دقة لغوية في التمييز بين تعبيرين اثنين: "ما" (التي تعني النصيب من الكل المحدد the exact whole) و"مِن" (التي تعني النصيب من الكل أو أقل a portion of)، وقد استخدم القرءان "ما" ثلاث مرات فقط، وذلك في حالات يستحيل أن تجتمع معًا في مسألة واحدة (mutually exclusive)، بينما استخدم "مِن" خمس مرات، في الحالات التي يمكن أن تتزاحم، فأتاح بذلك المرونة الرياضية لحل مسائل العول والميراث بعموم، باتساقٍ ظاهرٍ بين النموذج اللغوي والنموذج الرياضي، سواء كان نموذج عمر أو ابن عباس. وأعجب منه أن هذا النظام المحكم طُرح في زمن أمة أمية لا تعرف الرياضيات المتقدمة، ثم كان هو نفسه محفزًا للمسلمين بعد قرن ونصف لابتكار علم الجبر على يد الخوارزمي، الذي جاء بفكرة المتغير والمعادلات الخطية لحل مسائل الميراث خصيصى. فكيف لأميٍ أن يبدعَ نظامًا قانونيًا وماليًا بهذا التعقيد الداخلي والتماسك اللغوي، وبتنزيلٍ واحدٍ لا تدريج فيه ولا ترق من بساطة لتعقيد، ثم يطرحه على أتباعه دون أن يشرح لهم نماذج حله، ضامنًا أن له حلاً ونماذج سينشئونها تتناول كل الحالات اكتفاءً بهذه النصوص، وأنها ستبقى نماذج حله إلى يوم الناس هذا، مع كون هذا النظام نفسه قادح شرارة علوم رياضية جديدة غيرت مسار الحضارة الإنسانية؟
.
[الخلاصة]
.
فدونك حل شبهة العول الواهية، وأن جوابها المختصر يكفي فيه بيان الحاصل، بأن القرآن قرر الحقوق الأصلية، ولم يوزع شيئًا معينًا على معينين، وأن التزاحم قد يقع في حالات قليلة، والعول هو الحل الاجتهادي العادل لهذا التزاحم، وهو حل له نظائر في كل القوانين العادلة، والاعتراض عليه حقيقته اعتراض على أصل فرض الاجتهاد، أو حكمة الله في تقدير الحقوق، أو منازعة في أصل فلسفة الميراث.
فكيفما اتجهت= لا شأن لهذا بأي خطأ حسابي.
والمنازع مطالبٌ بدليل تحريفه مدلول الوحي، وهي الغباوة الرئيسة المضمنة في اعتراضه، وذلك في جعل مدلوله توزيعًا لتركة على حالة جزئية، لا تقريرًا لحقوق مستقلة.
ثم هو مطالبٌ بدفع ما ذكرناه وبدليل تخطئة واضعي القوانين والمحاسبين عالميًا وإيجاد فرقٍ موضوعي يجعل الواقع في الوحي غلطًا حسابيًا دون ما مثلنا به.
فإن ترك دعوى الخطأ الحسابي ونازع في أصل فلسفة الميراث وقسمة الأنصبة، فهو مطالبٌ بنظامٍ بديل، ثم برهان إلزاميته، وإلا فأحسن أحواله الخرص، والإتيان بنظامٍ اعتباطي قبال نظامٍ آخر، ولا يبلغ هذا الأحسن أيضًا، إذ لا مطروح إلا صياحٌ إلحاديٌ وبكائيات، ممن لا يفهم أصل المسألة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق