[تقاتلون الترك- نبوءة الغزو المغولي]
.
وهذه نبوءةُ أخرى تتعلق بأحداث العالم، قرونًا قبل تأويلها، مفصلةً لا غمغمة فيها، فاجعةً لا يتكهنها بأسبابها رجلٌ بمفازة من الحدث زمانًا ومكانا.
.
[نصوص النبوءة]
.
ففي صحيفة همام بن منبه (تـ 131 هـ) وهي أقدم المصادر: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا جوز كرمان، قوما من الأعاجم حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة"
.
وبوب البخاري بعده لقتال الترك: "قال النبي ﷺ : (إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما ينتعلون نعال الشعر، وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه، كأن وجوههم المجان المطرقة). قال رسول الله ﷺ : (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك، صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر)."
وتلاه باب قتال الذين ينتعلون الشعر، وفيه: "عن النبي ﷺ قال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة). قال سفيان: وزاد فيه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رواية: (صغار الأعين، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة)."
.
وفي صحيح مسلم في كتاب الفتن: "عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر".
و: "قال رسول الله ﷺ لا تقوم الساعة حتى تقاتلكم أمة ينتعلون الشعر وجوههم مثل المجان المطرقة"
و: "عن أبي هريرة يبلغ به النبي ﷺ قال لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ذلف الآنف"
و: "عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر"
و: "عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ تقاتلون بين يدي الساعة قوما نعالهم الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة حمر الوجوه صغار الأعين"
.
وصح عند ابن حبان وأبي داود وفي المصنف لابن أبي شيبة والمسند لأحمد والمسند للطيالسي والفتن للداني والفتن لنعيم، واللفظ لابن حبان عن النبي ﷺ: "إن ناسا من أمتي ينزلون بحائط يسمونه البصرة، عندها نهر يقال له دجلة، يكون لهم عليها جسر، ويكثر أهلها، ويكون من أمصار المهاجرين، فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء أقوام عراض الوجوه حتى ينزلوا على شاطئ النهر، فيفترق أهلها على ثلاث فرق؛ فأما فرقة فتأخذ أذناب الإبل والبرية فيهلكون، وأما فرقة فيأخذون لأنفسهم ويكفرون، وأما فرقة فيجعلون ذراريهم خلف ظهورهم، ويقاتلونهم وهم الشهداء".
وفي لفظ أبي داود: " بغائط يسمونه البصرة".
وفيه سعيد بن جمهان، وقد اختلفوا فيه، ولكن وثقه جماعة من الأئمة، منهم أحمد وابن معين، وأبو داود، وربما تابعه في الرواية مولى أبي بكرة -تابعي مجهول- كما عند ابن أبي حاتم في العلل (6/567-568)، وقد صححه الألباني ومشهور حسن. ولنفرض أنه ضعيف متروكٌ بمرة، فقد نسب للنبي خبرًا صدق بحذافيره، فالنبوءة منه أو من النبي ﷺ إذن، وليتخير العاقل.
.
وروي حسنًا في مسند أحمد ومسند أبي يعلى والفتن لنعيم عن بريدة أنه قال: "كنت جالسا عند النبي ﷺ، فسمعت النبي ﷺ يقول: «إن أمتي يسوقها قوم، عراض الأوجه، صغار الأعين، كأن وجوههم الحجف، ثلاث مرات، حتى يلحقوهم بجزيرة العرب، أما السائقة الأولى فينجو من هرب منهم، وأما الثانية فيهلك بعض وينجو بعض، وأما الثالثة فيصطلمون كلهم من بقي منهم» ، قالوا: يا نبي الله! من هم؟ قال: «هم الترك» ، قال: أما والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين» ، قال: وكان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر، والأسقية، بعد ذلك، للهرب مما سمع من النبي ﷺ من أمراء الترك"
وسبب موقف بريدة الأخير أنه فهم بأن الترك يسوقون أمة النبي من العراق، وأنهم يلحقون بجزيرة العرب، مما يدل أنهم ليسوا من أهل الجزيرة، وقد كان بريدة من سكنة البصرة، فكان يتأهب للهرب مما سمعه.
.
وروي ضعيفًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "قال رسول الله ﷺ: "اتركوا الترك ما تركوكم؛ فإن أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء"
.
وروي ضعيفًا عند النسائي وأبي داود والبيهقي أن النبي ﷺ قال: "دعوا الحَبَشة ما وَدَعُوكم ، واتركوا التُّرك ما تَركوكم" ولكن حسَّنه الألباني بمجموع الطرق، وعلَّته جهالة التابعي -أبو سكينة- فهو صحيحٌ إليه.
.
وصح
في مصنف عبدالرزاق عن ابن أبي بكرة: عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: "أوشك
بنو قنطوراء أن يخرجوكم من أرض العراق". قال [ابن أبي بكرة]: قلت: ثم نعود؟
قال: "وذلك أحب إليك، ثم تعودون ويكون لكم بها سلوة من عيش".
وصح عنه في الفتن لنعيم بن حماد: "يوشك بنو قنطورا يسوقون أهل خراسان وأهل سجستان سوقا عنيفا، حتى يربطوا دوابهم بنخل الأبلة، فيبعثون إلى أهل البصرة أن خلوا لنا أرضكم أو تنزل بكم فيفرقون على ثلاث فرق: فرقة تلحق بالعرب، وفرقة بالشام، وفرقة بعدوها، وأمارة ذلك إذا طبقت الأرض إمارة السفهاء"
.
وقد صح كذلك عن بريدة بن الحصيب في مسند أحمد وأبي داود والفتن لنعيم بن حماد، وجاء عن معاوية بن أبي سفيان ضعيفًا في مسند أبي يعلى والفتن لنعيم بن حماد، وللتفصيل في أسانيد كل ما سبق، انظر بحث "العراق في أحاديث وآثار الفتن" لأبي عبيدة مشهور حسن.
واعلم أنه لا يهم ضعف بعض ذلك ما دام ثبت سبقُ هذه الروايات للحدث، وصحة ما اختُلِفَ في صحته إلى طبقات متقدمة، وما دام صح أصلها في البخاري ومسلم، فما جاء فيهما كافٍ نبوءةً صادقة.
.
[تحليل النبوءة]
.
1. سبق الحدث:
فكل تلك المجامع والمسانيد ذكرت النبوءة وألفاظها ورواياتها المختلفة، قبل قرونٍ من وقوع الغز المغولي، فدعوى اختراع النبوءة بعد الحدث ساقطة بالضرورة، ورويت في فترةٍ لم يكن فيها للترك توحدٌ وغزوات ليُتوقَّع ذلك.
.
2. الوصف الجسدي (البصمة العرقية):
فهم:
أ- ترك ومن نواحيهم.
ب- صغار الأعين، ذلف الأنوف، عراض الوجوه، كأن وجوههم المجان المطرقة -المسطحة-، بتطابق تام مع السمات المميزة للعرق المغولي (Mongoloid race) السائد في شرق ووسط آسيا.
ج- ووصفوا بأنهم بنو قنطوراء، وهو ما اشتهر وصف الترك به كما سيأتي عند الجاحظ.
د- ثم إن نعالهم الشعر، إشارة إلى لباسهم المصنوع من جلود الحيوانات بشعرها، وهو ما كان يميز البدو الرحل في تلك المناطق الباردة.
.
3. الوصف السلوكي والحربي:
فتصف الأحاديث غزواً مدمراً يؤدي إلى فرار الناس وهلاكهم، وهو ما تطابق مع وحشية المغول التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ. وقد ورد ضعيفًا ولكن ذُكر أنهم أولُ من يسلب ملك أمة النبي ﷺ، وهو ما تحقق بسقوط الخلافة العباسية عام 656 هـ، وكانوا أول من أسقط ملك الأمة بإسقاط الخلافة العباسية.
.
4. الموقع:
أخبر الحديث عن:
أ- مدينة بغداد والبصرة قبل تأسيسهما، حيث لم تكن في عهد النبي ﷺ، ولا سادها المسلمون قبل فتح العراق الذي كان تحت حكم الفرس آنذاك.
ب- أضف الإخبار عن تفاصيل دقيقة للمدينة مثل وجودها عند نهر دجلة، والجسر عليه.
ج- وكثرة أهلها، وصيرورتها مصراً من الأمصار.
وكل هذا كان بتفاصيله. وربما اعتُرِضَ بأن الحصار والدمار كان على بغداد لا البصرة، وذا اعتراضٌ واهٍ إذ لم تكن هناك بغداد حينئذ، بل أسست عام 145 هـ في عهد العباسيين، ومن ثمَّ فإن الإحالة إلى تلك المواضع كان باسم "البصرة"، ويتحتم ذلك بذكر نهر دجلة والجسر، إذ لا شأن لهما بالبصرة المعروفة التي تبعد عن دجلة مسافة 70 كيلو، ومن ثم يكون المراد ما صار اسمه بعد ذلك "بغداد" في حين كانت في تلك الفترة مشمولةً بوصف "البصرة". وقد ذكر علي القاري في المرقاة أن بغداد لم تكن شيئًا ليُنسَبَ إليها حينئذ: "بل كان في عهده صلى الله عليه وسلم قُرىً متفرقة بعد ما خربت مدائن كسرى منسوبةً إلى البصرة محسوبةً من أعمالها"
كيف إذا علمت اشتهار إحدى نواحي بغداد باسم "باب البصرة"، بل في لفظ ابن حبان أن الترك سينزلون "بحائط يسمونه البصرة" بما يشير إلى أطراف المدينة أو مدخلها. وقد ورد ذكر هذه الناحية من بغداد في نصوص كثيرة، كقول ابن الفقيه (تـ 365 هـ) في البلدان: "فنقلها المنصور من هذه المدينة إلى بغداد لمّا بناها وهي الأربعة الأبواب الداخلة من كل باب. ومنها باب البصرة الخارج"، وقوله: "وقال إبراهيم بن عيينة: كنت مع قيس بن الربيع ببغداد، فلما انتهينا إلى باب البصرة وجزنا القنطرة..."، وما رواه العقيلي (تـ 322هـ) في الضعفاء: "كنت معه بالبواريج يريد الكوفة، فلما انتهينا إلى موضع باب البصرة"، وروى وابن عساكر (تـ 571هـ) عن رجلٍ: "بقراءتي عليه بباب البصرة ببغداد"، وروى الضياء (تـ 643ه) في المختارة عن رجلٍ "بباب البصرة من بغداد"، وقال وابن جبير (تـ 614هـ) في رحلته: "ثم محلة باب البصرة، وهي أيضا مدينة، وبها جامع المنصور"، وسبط ابن الجوزي (تـ 654هـ) في مرآة الزمان: " السنة التاسعة والأربعون وثلاث مئة... وفيها وقعت فتنةٌ عظيمة بناحية بغداد في شعبان بين السُّنة والشيعة عند القَنْطرة الجديدة بباب البصرة"، وكلهم توفي قبل الأحداث، فلا يُقال: اخترعوا تلك الناحية لمطابقة الأثر. وكذلك قال الذهبي في رجلٍ: "من أهل باب البصرة ببغداد"، لا سيما وهي الناحية السنية التي نقم عليها ابن العلقمي حليف المغول ونالها ما نال عموم بغداد، بل تجد في كتاب الحوادث المنسوب لابن الفوطي (ص232): "فلما تجاوزوا باب البصرة بفرسخ واحد رأوا عساكر المغول قد أقبلت كالجراد المنتشر". فكان مقدمهم من جهتها مصداقًا زائدا.
وقد أكدت الدراسات ذلك، فدونك مصدرٌ يؤكد (في صـ28) أن بداية الهجوم كانت من الجهة الجنوب-شرقية (برج العجمي) من بغداد، وهي جهة باب البصرة الكائنة من تلك الناحية :
Kaplonski, Christopher. (2005). Encyclopedia of Mongolia and the Mongol Empire. Inner Asia. 7. 285-94. 10.1163/146481705793646928.
.
5. استحالة التوقع:
إن النظر في الظروف التاريخية والجغرافية والسياسية التي قيلت فيها نبوءة قتال الترك يقطع الشك باليقين في استحالة توقع هذا الحدث من الناحية البشرية، ففي زمن النبي ﷺ، لم يكن "الترك" -وهم الشعوب القاطنة في سهوب آسيا الوسطى- يمثلون قوة سياسية أو عسكرية موحدة، بل كانوا مجرد قبائل متفرقة ومشتتة، لا تشكل أي تهديد يُذكر للقوى العظمى في ذلك العصر، كالإمبراطورية الفارسية الساسانية والإمبراطورية البيزنطية. فتوقّع أن هذه القبائل الضعيفة ستتوحد بعد ستة قرون لتشكل أكبر إمبراطورية متصلة في التاريخ، وتجتاح العالم من الصين إلى أوروبا، هي فكرة تتجاوز حدود أي تحليل استراتيجي أو توقع بشري في القرن السابع الميلادي. ويزداد الأمر إعجازاً عند النظر في مسرح الأحداث الذي حددته النبوءة: العراق. ففي زمن النبي ﷺ لم تكن العراق جزءاً من الدولة الإسلامية بعد، بل كانت قلباً نابضاً للإمبراطورية الفارسية الساسانية، ولم يكن هناك أي مؤشر على أن المسلمين سيتمكنون من هزيمة الفرس وفتح هذه البلاد. بل المدن التي ذكرتها النبوءة كالبصرة وبغداد، لم تكن موجودة أصلاً. فمدينة البصرة أُسست في عهد عمر بن الخطاب حوالي عام 14 هـ، ومدينة بغداد أُسست في عهد الخلافة العباسية عام 145 هـ كما سبق. بل ذكر البصرة حال الكلام عن بغداد أشد تفصيلا، إذ باب البصرة ناحية من نواحي بغداد جاء المغول من قبلها كما ذكرنا.
وعليه، فإن النبوءة لم تقتصر على الإخبار عن حدث مستقبلي، بل تضمنت سلسلة من الأحداث الغيبية المركبة التي يستحيل على العقل البشري أن يربط بينها: الإخبار عن قيام أمة ضعيفة متفرقة (الترك)، ثم الإخبار عن فتح المسلمين لأرض لم تكن تحت سيطرتهم (العراق)، ثم الإخبار عن بناء مدن لم تكن موجودة (البصرة وبغداد)، وأنها ستكون مصرًا يكثر أهلها لا مكانًا عاديا، ثم الإخبار بأن تلك الأمة الضعيفة ستغزو تلك المدن التي لم تُبنَ بعد، وذلك بعد مرور أكثر من ستة قرون.
.
[تحقق النبوءة]
.
بدأ الغزو المغولي للعالم الإسلامي في عام 616 هـ (1219 م) بقيادة جنكيز خان، وكان كارثة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. وقد انطلقت شرارة الغزو بمقتل تجار مغول في مدينة "أترار" الخوارزمية، مما أدى إلى اجتياح شامل للإمبراطورية الخوارزمية. وقد وثق المؤرخون أعداداً هائلة من القتلى في المدن التي سقطت بأيدي المغول، فقيل إن مرو شهدت مقتل 700,000 شخص عام 1221م (ابن الأثير)، في حين وصل عدد القتلى في نيسابور إلى 1,747,000 شخص في نفس العام، وفي هراة قُتل 1,600,000 شخص عام 1222م.
ثم بلغ الغزو ذروته بحصار بغداد عام 656 هـ (1258 م) بقيادة هولاكو خان، حفيد جنكيز خان. وقد أنهى الحدثُ الخلافة العباسية التي استمرت لأكثر من 500 عام. وبقي الحصار أسبوعين، ثم انتهى بسقوط المدينة ودمارها، وبقتل الخليفة المستعصم بالله وأولاده، وبمذبحة عامة استمرت 40 يوماً، قُتل فيها ما يقارب 800,000 شخص.
ونحن وإن شككنا في بعض تلك الأرقام، إلا أنها تنبي عن عِظَم القتل في تلك الأحداث. ولم يقتصر الأمر على القتل، بل امتد إلى تدمير معالم العاصمة، حيث أُحرقت مكتبة بغداد العظيمة (بيت الحكمة)، وأُلقيت الكتب في نهر دجلة حتى قيل إن ماءه اسودّ من حبر المخطوطات.
.
[من الترك؟]
.
هل كان هذا التطبيق تأويلاً لاحقاً للأحداث (Post-hoc interpretation)، أم أنه كان مبنياً على فهم متجذر ومستمر في اللسان العربي والإسلامي من لدن القرن الأول؟
واعلم أن الترك في اللسان الأول لا يراد بهم خصوص الترك اليوم في الدولة المعروفة، وإن كانت الصلات العرقية بين الكائنين الآن والمغول ثابتة مستقرة بدراسات يسهل بلوغها. وبتصفح المصادر الإسلامية (من القرن الأول إلى السابع الهجري) والدراسات الأكاديمية المعاصرة، نجد أن تسمية المغول بـ"الترك" لم تكن اختراعاً متأخرًا، بل كانت نتيجة مفهوم جغرافي وتاريخي وعرقي استمر لأكثر من 600 عام. فالمسلمون كانوا يفهمون أن "الترك" هم أهل السهول من أهل المشرق، من شمال الصين إلى شمال إيران، في آسيا الداخلية وآسيا الوسطى، وأن الأحاديث النبوية تنطبق عليهم، وذلك قبل قرون من ظهور جنكيز خان. وذلك على عهود:
.
1. عهد عمر بن الخطاب
ففي عهده أمر بغزو الترك، ويوثق كل من الطبري وابن كثير وابن الأثير هذه الغزوة:
"ففيها غزا قتيبة بن مسلم نائب الحجاج على مرو وخراسان، بلادا كثيرة من أرض الترك"- البداية والنهاية 12/375
"ذكر غزو الترك... لما أمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك خرج بالناس حتى قطع الباب. فقال له شهريار: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد غزو بلنجر والترك."- الكامل 2/412
وفيه أنهم يسمون من بنواحي بلنجر (القوقاز) تركًا.
كما يذكر الطبري في أحداث مائة واثنا عشر هجرية: "وفي هذه السنة كانت وقعة الجنيد مع الترك ورئيسهم خاقان بالشعب."-تاريخ الطبري 7/71
وفيه تسمية رئيسهم خاقانًا، وهو ما استمر إلى أن ظهر أمر جنكيز، فكان جنكيز (خان).
.
2. العهد الأموي والعباسي
استمر هذا الفهم في العهد الأموي، فيذكر ابن كثير في حوادث سنة 86 هـ:
"ففيها غزا قتيبة بن مسلم نائب الحجاج على مرو وخراسان، بلاداً كثيرة من أرض الترك"- البداية والنهاية 12/375
وفيه أنهم يجعلون أرض الترك شاملةً ما وراء النهر (آسيا الوسطى)، ويثبت أن المفهوم الجغرافي لـ"الترك" كان واسعاً ويشمل المناطق التي سيخرج منها المغول لاحقاً.
ونجد أبا عبيد القاسم بن سلام (تـ 224 هـ) يقول: "ويقال: إن قنطوراء كانت جارية لإبراهيم فولدت له أولادا، والترك من نسله"، كما نقله الأزهري في تهذيب اللغة.
كما نجد الجاحظ (تـ 255 هـ) أنموذجًا لكون المسلمين في القرن الثالث الهجري كانوا يطبقون أحاديث "قتال الترك" على أهل المشرق (خراسان وما وراءها)، وذلك قبل ظهور المغول بأربعة قرون، فيرى الجاحظ أن الخراسانيين والترك أمة واحدة في الأصل والحيز وسكنى الشرق:
"وقلت: بل أزعُم أن الخراساني والتركي أخوان، وأن الحيِّز واحد، وأن حكم ذلك الشرق، والقضية على ذلك الصُّقع متفق غير مختلف... وكلهم خراساني في الجملة وإن تميزوا ببعض الخصائص"- الرسائل 1/9-10
كما يذكر الجاحظ أن قادةً في عصره كانوا يطبقون الحديث النبوي على أهل المشرق:
"وقال سعيد في حديثه يومئذٍ... فقال لأصحابه: أفرجوا لهم ما تركوكم، ولا تتعرضوا لهم؛ فإنه قد قيل: تاركوهم ما تاركوكم. فهذا قول سعيد بن عقبة ورأيه وحديثه؛ وهو عربي خرساني..."- الرسائل 1/58
ويقول: "وفي المأثور من الخبر: (تاركوا الترك ما تاركوكم). وهذه وصيةٌ لجميع العرب؛ فإن الرأي متاركتنا ومسالمتنا. وما ظنكم بقومٍ لم يعرض لهم ذو القرنين. وبقوله " اتركوهم " سمُّوا الترك."- الرسائل 1/76
كما يربط الجاحظ بين الترك و"بني قنطوراء" المذكورين في بعض الآثار:
"والستة الباقون أمهم قطورا بنت مفطون عربية، من العرب العاربة"- الرسائل 1/74
"وقد سمعتم ما جاء في سد بني قطورا وشأن خيولهم بنخل السود، وإنما كان الحديث على وجه التهويل والتخويف بهم لجميع الناس، فصاروا للإسلام مادةً وجنداً كثيفاً"- الرسائل 1/75
فليس يعد أهل تلك النواحي تركًا فقط، بل ويراهم مصداقًا للأحاديث النبوية التي ستكون آيات نبوة بعده بقرون.
.
3. عهد الغزو- استمرارية الفهم
فعندما بدأ الغزو المغولي في القرن السابع الهجري، لم يتردد المؤرخون المسلمون المعاصرون للأحداث في تطبيق نفس الفهم القديم، ووصفوا المغول بأنهم "ترك".
ففي بداية الغزو (سنة 617 هـ)، كتب ابن الأثير:
"في هذه السنة ظهر التتر إلى بلاد الإسلام وهم نوع كثير من الترك ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين"- الكامل 12/361
.
4. الدراسات الأكاديمية المعاصرة
.
يؤكد البروفيسور Peter Jackson ما ذكرناه قائلًا:
"'الترك في الواقع كان يُستخدم في كثير من الأحيان كمصطلح عام لجميع سكان السهوب، سواء كانوا من أصل ولغة تركية أو منغولية... ابن الأثير صنف من بين الأتراك كل من الكيتان والتتار... كل من نصير الدين الطوسي... ورشيد الدين... سيصفون المغول بأنهم في الأصل فرع من الشعوب التركية"
و: "جنكيز خان – الذي يُنظر إليه كـ'ترك' مثل رعاياه المغول والشعوب الأخرى من السهوب الشرقية – يُصور بشكل متكرر على أنه أفراسياب"
المصدر:
Jackson, Peter, The Mongols and the Islamic World: From Conquest to Conversion (New Haven, CT, 2017; online edn, Yale Scholarship Online, 21 Sept. 2017), https://doi.org/10.12987/yale/9780300125337.001.0001.
.
ومثله يقول جويوب لي Joo-Yup Lee:
"أصبح 'الترك' هوية أوسع بكثير في العالم الإسلامي. نشر الكتّاب المسلمون مصطلح 'الترك' (جمع أتراك)، مستخدمينه فعلياً كمرادف لرحل آسيا الداخلية بما في ذلك المجموعات الناطقة بالتركية وغير الناطقة بها... وبناءً على ذلك، عندما دخل المغول العالم الإسلامي، صنّفهم الكتّاب المسلمون بشكل عام على أنهم أتراك... تبنّى المغول في الإلخانية وخلفاء المغول في آسيا الوسطى (التيموريون، المغول، والأوزبك الشيبانيون) النظرة الإسلامية للأتراك كرحل آسيويين داخليين، واعتبروا أنفسهم الفرع الأبرز من الأتراك... في الأساس، كانت هويتهم التركية هوية رحلية آسيوية داخلية غير طاجيكية، وليست هوية تركية غير مغولية. والأهم من ذلك، أنها شملت الهوية المغولية...في التواريخ والوثائق المنتجة في الإلخانية والدول الخلف للمغول في آسيا الوسطى، كان مصطلح 'الترك' في عبارة 'الترك والطاجيك' وفي أنساب الجنكيزيين والتيموريين المختلفة يشير أساساً إلى المغول."
المصدر:
Lee, J. (2019, December 23). Turkic Identity in Mongol and Post-Mongol Central Asia and the Qipchaq Steppe. Oxford Research Encyclopedia of Asian History. Retrieved 26 Nov. 2025, from https://oxfordre.com/asianhistory/view/10.1093/acrefore/9780190277727.001.0001/acrefore-9780190277727-e-443.
.
وللتوسع في تأكيد وصف قاطني تلك الديار بالترك واندراج المغول فيهم فلتراجع المصادر التالية:
- Golden, P. An Introduction to the History of the Turkic Peoples.
- Sinor D, ed. The Cambridge History of Early Inner Asia. Cambridge University Press; 1990.
.
[اعتراضات]
.
1. الاعتراض الأول- أصل الحديث ليس من كلام النبي ﷺ:
إذ اعتُرِضَ بأن أصل النبوءة من كلام عبد الله بن عمرو بن العاص (موقوف) كما في الفتن لنعيم بن حماد، ثم حُرّف ليُنسب إلى النبي ﷺ، وأنها مما أخذه عن أهل الكتاب، فلا تكون نبوءة للنبي.
الرد- كثرة الروايات وتعاصرها عن غير عبدالله بن عمرو:
فالحديث ورد مرفوعاً إلى النبي ﷺ قبل ورود النبوءة موقوفة أيضًا عن عبدالله بن عمرو، فقد ورد في صحيفة همام بن منبه (تـ 131 هـ)، وهي قبل كتاب الفتن لنعيم بن حماد (تـ 228 هـ) والمصنف لابن أبي شيبة (تـ 235 هـ).
ثم إن نفس الكتاب الذي يروي الموقوف عن عبدالله بن عمرو، يروي المرفوع إلى النبي ﷺ، فرواية سعيد بن جمهان في نفس كتاب الفتن لنعيم بن حماد مرفوعة إلى النبي ﷺ (الفتن 2/677) بنفس التفاصيل في الروايات المرفوعة في غيره من الكتب كصحيح ابن حبان وسنن أبي داود، فمتى وقع التحريف إذن والروايات الموقوفة والمرفوعة مذكورة في نفس الكتاب؟
كما ورد الروايات المرفوعة في أصح الكتب، ومن طرق متعددة بغير طريق عبد الله بن عمرو، فورد عن أبي بكرة، وأبي هريرة، وبريدة، ومعاوية، عند البخاري ومسلم وأبي داود وأحمد وغيرهم ممن زامنت رواياتهم الرواية التي يقصد إليها المعترض عند نعيم بن حماد في الفتن وابن أبي شيبة في المصنف، بل وردت عندهما لغير عبدالله بن عمرو.
ثم بغض النظر عن كل ما سبق، فإن وجود رواية موقوفة على عبد الله بن عمرو لا ينفي وجود رواية مرفوعة إلى النبي ﷺ ، بل العكس هو الصحيح، فالمسألة غيبية، ومن ثم فعبدالله بن عمرو أخذها عن النبي ﷺ أو عن أهل الكتاب وليست من مما قدحه بنفسه، وتشابه الروايتين يدل على أن النبوءة كانت معروفة ومتداولة بين الصحابة، وأنها مأخوذة عن النبي ﷺ. دع أن الكتب التي أوردت الروايات مرفوعة وعن غير عبدالله بن عمرو أقدم أو تزامن تلك التي أوردت رواية عبدالله بن عمرو.
أما كون عبدالله بن عمرو كان يروي من الإسرائيليات، فأين صح أنه روى هذه عنهم لا سيما وقد ثبتت عن النبي ﷺ وعن غيره من الصحابة قبله ومعه؟ ثم إن الأثر الوحيد في ذلك برواية مجهول خالف غيره ممن رووا عن عبدالله بن عمرو، وأقصد سند ابن أبي شيبة في المصنف عن ربيعة بن جوشن -مجهول- عن عبدالله بن عمرو أنه قال: "فوالله ليوشك بنو قنطوراء أن يخرجوكم منها حتى يجعلوكم بدكية. قال [ربيعة]: قلنا: وما بنو قنطوراء؟ قال: أما في الكتاب فهكذا نجده، وأما في النعت فنعت الترك".
فهي رواية لا تصح بهذا اللفظ الذي يذكر "الكتاب" كما ترى، وأصح منها ما جاء في مصنف عبدالرزاق ونقلناه سابقًا حيث لا ورود لهذه الزيادة، وقصارى ما فيها أن عبد الله بن عمرو أجابه فيما يتعلق ببني قنطوراء، وأنه الموجود في الكتاب، وهو حق، ففي الكتاب كونها زوجة إبراهيم عليه السلام، في حين أن نعتهم الذي تعرفه العرب هو "الترك"، فالسؤال والجواب دائرين حول بني قنطوراء فقط، وليس فيهما أنه عرف هذه النبوءة من أهل الكتاب، دع أن النبي ﷺ قد زادها التفاصيل الشكلية والعرقية التي وردت في أول هذا البحث عند البخاري ومسلم، دع تفاصيل موقع الغزو عند غيرهما. وهذا اعتراضٌ -على بطلانه كما رأيت- قد يُفهم من كتابي، إذ لا يدفع كونها نبوءةً، ولكنها تبقى ورطة للملحد مع مصدرها سواءٌ كان النبي ﷺ أو أهل الكتاب، ولا نجد لها في الكتاب أثرًا.
.
2. الاعتراض الثاني- تفرد سعيد بن جمهان:
فاعتُرِضَ بأن سعيد بن جُمهان تفرد بالحديث، وأنه اخترعه لغايات لا يهمنا ذكرها، ولكنه كان بصريًا ولعله أولع بإبراز هذه النبوءة لأسباب تتعلق بها.
الرد- لم يتفرد سعيد بن جمهان:
فقد ورد في العلل لابن أبي حاتم: "وسألت أبي عن حديث رواه درست بن زياد، عن راشد أبي محمد الحماني، عن أبي الحسن مولى لأبي بكرة، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي ﷺ قال: تسكن طائفة من أمتي أرضا يقال لها: البصرة، يجيء بنو قنطوراء حتى يوثقوا خيلهم، فيفترق الناس على ثلاث فرق: فرقة تلحق بأذناب الإبل، يضلوا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم يقاتلوا عنهم، أولئك هم الشهداء...؟ فسمعت أبي يقول: هو حديث منكر."
فأنت ترى أن الحديث لم يتفرد به ابن جمهان، بل تابعه مولى أبي بكرة، وإن كانت المتابعة ضعيفةً لأجل درست، ولأجل راشد الحماني -صالح الحديث-، فلم يصلح السندُ إلى المتابِع، ولكنه يقلل احتمال التفرد شيئًا ما.
إلا أن ان جمهان لم يتفرد بمضامين حديثه، 1- فقتال الترك 2- وغزوهم العراق، 3- وصفتهم، 4- ونعتهم ببني قنطوراء، كل ذلك ثبت بأحاديث وأسانيد كثيرة عن عدد من الصحابة والتابعين كما رأيت في أول البحث، إذ كل ما أوردناه سوى أثر "حائط البصرة" ليس في سنده ابن جمهان. فإن تركنا ابن جمهان رأسًا، لم نفقد من النبوءة إلا ذكر الأمصار، وبقيت بكل تفاصيلها الأخرى، بل وبقي ذكر العراق عند عبدالله بن عمرو في مصنف عبد الرزاق، كما بقيت عن بريدة كما في المسند، وقد أوردنا روايتيهما في البداية، كما وبقي ذكرها في رواية -وإن ضعيفة- في الفتن لنعيم عن أبي هريرة: "أعينهم كالودع، ووجوههم كالحجف، لهم وقعة بين الدجلة والفرات، ووقعة بمرج حمار، ووقعة بدجلة"، والروايات كثيرة في فهم غزوهم العراق عن غيرهم قبل وإبَّان رواية ابن جمهان. كيف ودعوى اختراع ابن جمهان للأثر بلا دليل سوى محض التفرد؟ كيف والتفرد غير مقطوعٍ به لما سبق؟ كيف وتصديق الواقع لما ذكره تصديقٌ له في روايته؟
.
3. الاعتراض الثالث- تطبيق ابن المنادي:
طبَّق ابن المنادي النبوءة على ثورة الزنج في القرن الثالث الهجري، فليست نبوءة بالغزو المغولي.
الرد- التطبيق الخاطئ لا ينفي المصداق الواقع:
إذ لا جهة لتطبيق النبوءة على ثورة الزنج، لأسبابٍ ثلاث أحدها كاف، أما أولها: فثورة الزنج كانت ثورةً لعبيد من أفريقيا ورجال عربٍ وفرس، ولا شأن لشيء من ذلك بنبوءة غزو الترك بني قنطوراء. وأما الثاني: فصفات الترك الواردة في الأحاديث لا تصدق على غير المغول ولا شأن لها بالزنج، فالنبوءة تكلمت عن (الترك، صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة). وثالثها: أن النبي غاير بين الحبشة والترك، فقال فيما روى أبو داود والنسائي والبيهقي عن النبي ﷺ: "دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُم"، وصح ذلك إلى طبقة التابعين بغض النظر عن صحته إلى النبي ﷺ، فليسوا جنسًا واحدًا ليختلط الأمر بينهم.
ومن ثمَّ فإن تطبيق ابن المنادي خاطئ بنفس الآثار الواردة، لا لعموميتها أو التخرص في إسقاطها على حدثٍ دون آخر، لا سيما بعد ما بيَّناه في البحث من تفاصيل.
.
[خاتمة]
.
فهذا سهمُ نبوءة آخر يُضمُّ إلى كنانة آيات النبوة، فليس منفردًا وإن كان مسدَّدا.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق