الطبقة الأولى- ابن كلاب:
قال ابن كلابٍ رحمه الله:
"فرسول الله صلى
الله عليه وسلم، وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعاً به، يجيز
السؤال بأين، ويقوله، ويستصوب قول القائل: إنه في السماء، ويشهد له بالإيمان عند
ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا، ويحيلون القول به..."
قلت: فمن اليوم يستصوب
قول القائل "إنه في السماء" جوابًا عن سؤال: "أين الله؟"
ويشهد لقائل ذلك بالإيمان؟
ومن الجهمي الموافق
للجهمية باعتراف ابن كلاب والذي يمنع كل هذا ويجعله متشابهًا مشكلًا لابد من
تأويله ومعالجته؟ بل ربما يطعن في نفس الحديث تبعًا لمنعه من العمل به سؤالًا
وجوابًا؟
ولاحظ صراحةَ تعبيره عن
الجهمية بأنهم: "لا يجيزون الأين" فهو يتكلم عن شيءٍ ذي معنى لم يُجِزهُ
الجهمية، لا عن لفظٍ من ألف وياء ونون.
ثم أكمل: "ولو كان خطأ كان رسول صلى الله عليه وسلم أحق
بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها: لا تقولي ذلك، فتوهمين أن الله عز وجل
محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي: إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما
قلت."
قلت: إذن جواب الجارية
له معنى، وهذا المعنى يستنكره الجهمية لأنه يوهم أن الله محدود وأنه في مكان دون
مكان لا في كل مكان، إذن قولها لا يعني مجرد علو المكانة الذي تؤمن به الجهمية، بل
هو يعني شيئًا ترفضه الجهمية كما ذكر ابن كلاب.
ثم أكمل: "كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع علمه بما فيه، وأنه أصوب الأقاويل، والأمر الذي يجب الإيمان به لقائله، ومن
أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، فكيف يكون الحق في خلاف ذلك، والكتاب ناطق به
وشاهد له... ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه
الأمور، لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما
لا شيء أبين منه ولا أوكد؟ لأنك لا تسأل أحداً من الناس عنه، عربياً ولا عجمياً،
ولا مؤمناً، ولا كافراً، فتقول: أين ربك؟ إلا قال: (في السماء) إن أفصح، أو أومأ
بيده، أو أشار بطرفه، إذا كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا
جبل، ولا رأينا أحداً داعياً له إلا رافعاً يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحداً غير
الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون: وهم يدعون أنهم أفضل الناس
كلهم، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم وحده وخمسون رجلاً معه، نعوذ بالله
من مضلات الفتن"
قلت: فجوابٌ الجاريةِ
عند ابن كلاب موافقٌ للفطرة، فما هي هذه الفطرة؟
هي عند ابن كلاب تلك الفطرة
التي تدفع أي مسؤولٍ بـ "أين الله؟" أن يجيب بنفس جواب الجارية، أو
الإشارة باليد أو الطرف إلى السماء، لا إلى الأرض، وهي نفس الفطرة التي تحمل
الداعي للتوجه إلى السماء.
ثم يذكر أن مقابل ذلك
من يقول من الجهمية بأن الله في كل مكان.
وكل ما سبق قاطعٌ في
أنه لا يريد علو المكانة، ولا يريد علوًا لفظيًا مفوضًا، بل علوًا هو الذي في فطر
المشيرين للسماء والرافعين أيديهم إليها في الدعاء، وهو ما يجحده الجهمية ويجعلونه
مضادًا لقولهم بانه في كلم مكان، وهو بطبيعة الحال مناقض لقول من ينفي العلو
الحقيقي ويرد حديث الجارية أو يأوله بعلو المكانة ويرفض هذه الفطرة التي بها فسر
ابن كلاب حديث الجارية زاعمًا أنها بديهة الوهم وفطرة العوام المشبهة.
وقال ابن كلاب: "يقال للجهمية: أليست الدهرية كفاراً ملحدين في قولهم: إن الدهر هو
واحد، إلا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم منه، ولا يباين العالم ولا
يباينه، ولا يماس العالم ولا يماسه، ولا يداخل شيئاً من العالم ولا يداخله، لأنه
واحد والعالم غير مفارق له؟
فإذا قالوا نعم: قيل
لهم: صدقتم، فلم أثبتم المعبود بمعنى الدهر، وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم؟
وهل تجدون بينكم
وبينهم فرقاً أكثر من أن سميتموه بغير ما سموه به؟
وقد قلتم: إنه غير
مفارق للعالم ولا العالم مفارق له، ولا هو داخل العالم ولا العالم داخل فيه، ولا
مماس للعالم، ولا العالم مماس له.
فأين تذهبون يا أولي
الألباب إن كنتم تعقلون؟ من أولى أن يكون قد شبه الله بخلقه: نحن أو أنتم؟ ولم
رجعتم على من خالفكم بالتكفير، وزعمتم أنهم قد كفروا لأنهم قالوا: واحد منفرد
بائن؟ فلم لا كنتم أولى بالكفر والتشبيه منهم إذ زعمتم مثل زعم الملحدين، وقلتم
مثل مقالة المخالفين الضالين، وخرجتم من توحيد رب العالمين"[1]
قلت: فانظر
كيف يقارن بين مقالتين:
المقالة
الأولى: الله لا يفارق العالم ولا هو داخله.
المقالة
الثانية: الله واحدٌ منفردٌ بائن.
وأن
الجهمية يقولون بالمقالة الأولى ويرمون القائلين بالمقالة الثانية -وهم أهل السنة-
بالكفر والتشبيه.
فمن يقول
اليوم بالمقالة الأولى؟ ومن يقول اليوم بالمقالة الثانية
ولاحظ أنه
قابل بين (لا مفارق ولا داخل) وبين (بائن) فيستحيل أن يكون المراد بالبينونة في
كلامة مجرد المباينة والمخالفة بالحقيقة، فإن هذا لا يقابل القول الأول ولا يضاده
بل الجهمية قائلون به ومغالون فكيف يرمون قائله بالتشبيه والكفر؟ فكيف إذا استحضرت
مع هذا نقاشه لحديث الجارية؟
ثم يزعم متأخرو الأشعرية أن عقيدة جهم هذه هي
عقيدة أهل السنة والجماعة! وعقيدة ابن كلاب هي قول المجسمة!
الطبقة الثانية- الحارث المحاسبي:
وأما الحارث
المحاسبي فيقول في كلامٍ طويلٍ مفصَّلٍ كالدُرّ في العِقد:
" وَكَذَلِكَ قَوْله جلّ وَعز {وَهُوَ القاهر فَوق عباده} وَقَوله
{الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} وَقَالَ {ءأمنتم من فِي السَّمَاء
أَن يخسف بكم الأَرْض} وَقَالَ {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب} وَقَالَ
{يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض ثمَّ يعرج إِلَيْهِ فِي يَوْم
كَانَ مِقْدَاره} الْآيَة وَقَالَ {تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح} الْآيَة
وَقَالَ لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام {إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ} وَقَالَ
{بل رَفعه الله إِلَيْهِ} وَقَالَ {فَالَّذِينَ عِنْد رَبك
يسبحون لَهُ} وَذكر آلِهَة لَو كَانُوا لابتغوا إِلَى طلبه سَبِيلا حَيْثُ هُوَ
فَقَالَ {قل لَو كَانَ مَعَه آلِهَة كَمَا يَقُولُونَ إِذا لابتغوا إِلَى ذِي
الْعَرْش سَبِيلا} وَقَالَ {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} فَلَنْ ينْسَخ ذَلِك
أبدًا..."
قلت: فانظر إلى استدلاله بالآيات التي فيها لفظ
(الفوقية) و(الاستواء) و(السماء) و(صعود الكلم إليه) و(عروج الملائكة إليه) و(رفع
عيسى إليه) وكون الملائكة (عنده) يسبحون، وأنه لو وجدت آلهة لطلبوه حيثُ هو (فوق
العرش)، كل هذا يستدل به لإثبات العلو، ثم يتجرأ مُحَرِّفٌ فيزعُمُ أن عقيدته
عقيدة (اللافوق اللا تحت) و(اللاداخل اللاخارج) أو أنه يُثبِتُ عُلُوًا مفوضًا أو
مجرد علو مكانة!
ثم قال: "وَقد ادّعى بعض أهل الضلال فزعموا أَن
الله جلّ وَعز فِي كل مَكَان بِنَفسِهِ كَائِنا كَمَا هُوَ على الْعَرْش،
لَا فرق بَين ذَلِك عِنْدهم..."
قلت: لقد نسب المحاسبي إلى بعض أهل الضلال أنهم يجعلون
الله في كل مكان، كما هو على العرش، وعاب عليهم عدم التفريق، فهو إذن يسلم بكونه
على العرش بذاته، ويعيب عليهم أنهم جعلوه في كل مكانٍ بذاته كما هو على العرش
بذاته.
فهل يقول هذا من يفوض فوقية الباري على عرشه أو يثبتها
فوقية مكانة؟
فلو كان يريدُ
فوقيةً مفوضة أو فوقية مكانة لما كان لكلامه أي معنى، إذ الحلولية كلامهم صراحةً
في وجود الله بذاته، والمحاسبي جعل قولهم في وجود
الله في كل مكان، كقول من يثبت
الله فوقَ العرش، وعاب عليهم عدم التفريق، وذلك لأنه يفرق فيجعل الله فوق العرش
بذاته، ولا يجعله في كل مكان، وهذا الكلام التفصيلي في انتقاد الحلولية وتبيان محل
النزاع معهم يكشف بجلاءٍ عن مقالة المحاسبي.
ثم قال: "وَأما قَوْله {على الْعَرْش اسْتَوَى} {وَهُوَ القاهر فَوق عباده} و {ءأمنتم
من فِي السَّمَاء} {إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش} فَهَذِهِ وَغَيرهَا مثل
قَوْله {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم} وَقَوله {ثمَّ يعرج إِلَيْهِ فِي يَوْم}
فَهَذَا مقطع يُوجب أَنه فَوق
الْعَرْش، فَوق الْأَشْيَاء، منزهٌ عَن الدُّخُول فِي خلقه، لَا يخفى عَلَيْهِ
مِنْهُم خافية، لِأَنَّهُ أبان فِي هَذِه الْآيَات أَن ذَاته بِنَفسِهِ فَوق
عباده..."
قلت: انظر كيف
استدل لفوقية الباري وأن "ذاته بنفسه فوق عباده" -ولا أصرح من هذا- بآيات مختلفة الألفاظ والسياقات، ولم
يكتف بالآيات التي تتكلم عن الباري وأنه (على العرش) وأنه (استوى) وأنه (فوق
عباده) وأنه (في السماء).
ولكن استدل بمخلوقاته أيضًا وأنها (تعرج) و(تصعد) إليه
سبحانه.
ولا ينطق بكل هذا مفوض أو رجلٌ يتكلم في علو المكانة.
ثم قال: "لِأَنَّهُ قَالَ {ءأمنتم من فِي
السَّمَاء أَن يخسف بكم الأَرْض} يَعْنِي فَوق الْعَرْش، وَالْعرش على
السَّمَاء لِأَن من كَانَ فَوق شَيْء على السَّمَاء فَهُوَ فِي السَّمَاء"
قلت: انظر إلى
هذا القياس الصريح، فإنه فسر كونه سبحانه (في السماء) بأن معنى ذلك أنه (فوق
العرش)، لماذا؟ لأن العرش فوق السماء، والله فوق العرش، ومن كان فوق شيء، وهذا
الشيء فوق السماء= فيصح أن يقال فيه إنه في السماء.
وطبعًا لا يصنع هذا مفوضٌ البتة ولا ينسبه
مسلكًا للمفوضةِ إلا مجنون.
ثم قال: "وَقد قَالَ مثل ذَلِك {فسيحوا فِي
الأَرْض} يَعْنِي على الأَرْض، لَا يُرِيد الدُّخُول فِي جوفها، وَكَذَلِكَ قَوْله {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} يَعْنِي
فَوْقهَا"
قلت: فهذه هي الفوقية التي يتكلم في إثباتها لله
المحاسبي، إذ يفسر (في السماء) بنفس ما يفسر به (في جذوع النخل) فهل الفوقية التي
على جذوع النخل مفوضة أو فوقية مكانة ليفسر هذه بهذه؟
ثم قال: "وَقَالَ {ءأمنتم من فِي السَّمَاء}
ثمَّ فصل فَقَالَ {أَن يخسف بكم الأَرْض} وَلم يصله بِمَعْنى فيشتبه ذَلِك، فَلم
يكن لذَلِك معنى إِذْ فّصَّلَ بقوله {فِي السَّمَاء}، ثمَّ اسْتَأْنف التخويف بالخسف
إِلَّا أَنه على الْعَرْش فَوق السَّمَاء، وَقَالَ {يدبر الْأَمر من
السَّمَاء إِلَى الأَرْض ثمَّ يعرج إِلَيْهِ فِي يَوْم} الْآيَة وَقَالَ {تعرج
الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ} فَبين عروج الْأَمر، وعروج الْمَلَائِكَة، ثمَّ وصف صعودها بالارتفاع
صاعدة إِلَيْهِ، فَقَالَ {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب}. وَقَالَ {ثمَّ يعرج
إِلَيْهِ} ثمَّ قَالَ {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره} مِقْدَار صعودها، وفَصَّلَه من
قَوْله (إِلَيْهِ) كَقَوْل الْقَائِل: صعدت إِلَى فلَان فِي يَوْم أَو فِي
لَيْلَة، وَإِن صعودك إِلَيْهِ فِي يَوْم، فَإِذا صعدوا إِلَى الْعَرْش فقد
صعدوا إِلَى الله جلّ وَعز، وَإِن كَانُوا لم يروه، وَلم يساووه فِي
الِارْتفَاع فِي علوه..."
قلت: إن عروج الملائكة وصعودها لم يفوضه أحد ولم يقل
أحدٌ بتأويله، فالملائكة صاعدةٌ عارجةٌ حقيقةً، ولكنهم تأولوا (إليه) فمنعوا
حقيقتها، فحين يستدل المحاسبي بعروج الملائكة الحقيقي باتفاق لإثبات علو الباري
وأنه في السماء= فإنه يقطع أي محاولة لتأويل كلامه.
ثم إن تمثيله بـ"قول القائل: صعدت إلى فلان في يوم أو ليلة" تمثيلٌ لا ينطق به مفوض أو متكلمٌ في علو المكانة، فهو
تمثيلٌ بصعودٍ حقيقيٍ إلى فلانٍ الموجودِ في الأعلى حقيقةً.
ثم إن العرش في العلو حقيقةً أيضًا، فحين يقول: "فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله" فإن هذا يقتضي علوه سبحانه على العرش حقيقةً أيضًا.
فكيف
إذا قال في النهاية: "وإن كانوا لم يروه، ولم يساووه في الارتفاع في علوه" أي أنهم وإن صعدوا
حقيقةً إلى العرش العالي حقيقةً والذي فوقه الله سبحانه حقيقةً، لم يستلزم ذلك أن
يروه أو أن يرتفعوا إلى علوٍ يساوون به في الارتفاع علوه سبحانه.
ثم قال: "وَقَالَ عَن فِرْعَوْن {لعَلي أبلغ
الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى} ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ {وَإِنِّي لأظنه
كَاذِبًا} فِيمَا قَالَ لي إِنَّه فِي السَّمَاء، فَطَلَبه حَيْثُ قَالَ
لَهُ مُوسَى، مَعَ الظَّن مِنْهُ بمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أنه كَاذِب، وَلَو
أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أخبرهُ أَنه فِي كل مَكَان بِذَاتِهِ لطلبه فِي
الأَرْض، أَو فِي بَيته وبدنه، وَلم يتعز ببنيان الصرح..."
قلت: إن الاستدلال ببناء الصرح وبأن فرعون طلب
الباري "حيثُ قال له موسى"= تحقيقٌ لكلامنا في أن المحاسبي يثبت
حقيقة العلو الذي أراد أن يناله فرعون بصعود الصرح جهلًا منه، واستدلاله بهذا
لإثبات علو الباري لا يصنعه مفوضٌ أو مريدٌ لعلو المكانة، والمتكلمون النفاة للعلو
الحقيقي يرفضون هذا الاستدلال ويشنعون على من يستدل به، ويرمونه بأنه فرعوني، أو
بأنه يعتقد عقيدة فرعون في علو الباري الحقيقي.
ثم قال: "وَأما
الْآيَات الْأُخَر الَّتِي نزعوا بهَا فقد أبان الله جلّ وَعز فِي تلاوتها أَنه
لَا يُرِيد أَنه كَائِن فِي الْأَشْيَاء بِنَفسِهِ، إِذْ وَصلهَا وَلم يقطعهَا
كَمَا قطع الْكَلَام الَّذِي أَرَادَ بِهِ كَونه فَوق عَرْشه، فَقَالَ عز وَجل
{ألم تَرَ أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} فَبَدَأَ بِالْعلمِ
وَأخْبر أَنه مَعَ كل مناج حَيْثُ وجد وَختم الْآيَة بِالْعلمِ وَقَالَ {أَن الله
بِكُل شَيْء عليم} ..."
قلت: فالفرق بين آيات المعية عند المحاسبي وبين آيات
العلو أن آيات المعية لم تنقطع لتدل على أن الباري كائنٌ في الأشياء بنفسه، بخلاف
آيات العلو والفوقية فقد انقطعت وحسمت الدلالة على معنى كون الله فوق عرشه بنفسه،
لذا اعتقدنا كونه فوق العرش ولم نعتقد كونه في كل مكان.
ثم قال: "فَبَدَأَ بِالْعلمِ وَختم بِالْعلمِ
فَبين أَنه أَرَادَ أَنه يعلمهُمْ حَيْثُ مَا كَانُوا لَا يخفون عَلَيْهِ وَلَا
يخفى عَلَيْهِ مناجاتهم تفردوا أَو اجْتَمعُوا، وَلَو اجْتمع قوم فِي السّفل،
وناظرٌ إِلَيْهِم فِي الْعُلُوّ وَيسمع كَلَامهم، فَقَالَ: إِنِّي لم أزل مَعكُمْ
أَرَاكُم وَأعلم مناجاتكم=
كَانَ صَادِقا، وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى عَن شبه الْخلق..."
قلت: يستعمل المحاسبي هنا قياس الأولى في الجمع بين
العلو الحقيقي والمعية.
فيقول بلغةٍ
أبسط: ليس شرطًا فيمن يقول إنه (مع) قومٍ أن يكونَ حالًا فيهم مختلطًا بهم، بل لو
كان فوقهم وينظر إليهم من فوق، ثم قال: إني لم أزل معكم أراكم وأسمعكم= لكان
صادقًا، فإن صح هذا في المخلوق، فيصح في الخالق من باب أولى، فهو فوقهم سبحانه
ومعهم في نفس الوقت دون تناقض ودون أن يقتضي هذا جعله في كل مكان كما هو فوق
العرش، كما فعل الحلولية الذين لم يفرقوا.
وهذا استدلالٌ
لا يصنعه مفوض أو متكلمٌ في علو المكانة.
ثم قال: "وَكَذَلِكَ قَوْله {فِي السَّمَاء
إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه} فَلم يقل فِي السَّمَاء ثمَّ قطع كَمَا قَالَ {ءأمنتم
من فِي السَّمَاء أَن يخسف بكم الأَرْض} فَقَالَ {فِي السَّمَاء إِلَه} فَأخْبر
أَنه إِلَه أهل السَّمَاء وإله أهل الأَرْض، وَذَلِكَ مَوْجُود فِي اللُّغَة، إِذْ
يَقُول الْقَائِل: من بخراسان؟ فَيُقَال: ابْن طَاهِر، وَإِنَّمَا هُوَ فِي
مَوضِع، فجايز أَن يُقَال ابْن طَاهِر أَمِير فِي خُرَاسَان، فَيكون أَمِيرا فِي
بَلخ وسمرقند وكل مدنها، هَذَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَوضِع وَاحِد يخفى عَلَيْهِ
مَا وَرَاء بَيته، وَلَو كَانَ على ظَاهر اللَّفْظ وَفِي معنى الْكَوْن= مَا
جَازَ أَن يُقَال أَمِير فِي الْبَلَد الَّذِي هُوَ فِيهِ، لِأَنَّهُ فِي مَوضِع
وَاحِد من بَيته أَو حَيْثُ كَانَ، إِنَّمَا هُوَ فِي مَوضِع جُلُوسه، وَلَيْسَ
هُوَ فِي دَاره أَمِير، وَلَا فِي بَيته كُله، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَوضِع مِنْهُ،
لَو كَانَ معنى هَذَا معنى الْكَوْن، فَكيف العالي فَوق كل شَيْء لَا يخفى
عَلَيْهِ شَيْء من الْأَشْيَاء يدبره، فَهُوَ إِلَه أهل السَّمَاء وإله أهل
الأَرْض، لَا إِلَه فيهمَا سواهُ، فَهُوَ فيهمَا إِلَه إِذْ كَانَ مُدبرا لَهما
وَمَا فيهمَا، وَهُوَ على عَرْشه فَوق كل شَيْء بَاقٍ"[2]
قلت: وها هو يستعمل قياسًا أولويًا آخرًا، فيقول: لا
تناقض بين ما ورد في آية {في السماء إله وفي الأرض إله} وبين كونه فوق عرشه،
فالأمير يقال فيه إنه أميرٌ في خُراسان وفي بَلخ وسمرقند، وإن كان موضعه في خراسان
فقط، بل وفي بعضها، فالله من باب أولى أن
يصح وصفه بأنه إلهٌ في السماوات وفي الأرض مع كونه على عرشه فوق كل شيء، وهذا
القياس الأولوي كالذي قبله، لا ينطق به مفوضُ أو مريدٌ لعلو المكانة.
هذا ما كان من كلام الحارث
المحاسبي.
الطبقة الثالثة- أبو الحسن الأشعري:
أما الأشعري فكلامه في الإبانة من أصرح ما يكون، فيقول رحمه
الله:
"فإن قال قائل:
ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله عز وجل مستوٍ على عرشه كما قال:
{الرحمن على العرش استوى}، وقد قال الملك عز وجل: {إليه يصعد الكلم الطيب}، وقال:
{بل رفعه الله إليه}، وقد قال عز وجل: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج
إليه}"
قلت: هذه الآيات لا يستدل بها أشعريٌ جاحدٌ لعلو الله الحقيقي، بل هي كلها عنده
مصروفة الظاهر مؤولةٌ
أو مفوضة، فلاحظ استدلال الأشعري بألفاظ مختلفة دالة على نفس المعنى (استوى) (إليه
يصعد) (رفعه إليه) (من السماء) فلو كان الاستواء مفوضًا، فما وجه الاستدلال بهذه
الآيات الدالة على العلو في إثبات كونه سبحانه مستويًا
على العرش؟
ولا يستقيم هذا
الاستدلال إلا إن أفاد الاستواء معنى علوه
سبحانه على العرش بحيث يُعرَجُ إليه ويُرفعُ إليه ويُصعدُ إليه في السماء، وإن
شككت في نسبة ما في الكتاب إلى الأشعري؛ تذكر أن نفس هذه الاستدلالات وردت عند
غيره من تلاميذه ومن سبقه وأن مجرد التشكيك في الكتاب لا ينجيهم بحال.
ثم قال: "وقال
تعالى حكايةً عن فرعون: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات
فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبًا}، كذَّب موسى عليه السلام في قوله: إن الله
عز وجل فوق السماوات. "
قلت: لقد ذكر المحاسبي عين هذا الاستدلال والتفسير كما نقلنا سابقًا، وجرى
استدلالًا وتفسيرًا مقبولًا من بعده
فذكره الأشعري وذكره أعظم المفسرين ابن جرير الطبري وغيرهما، وهو أن فرعون
كذب موسى في اعتقاده هذه العقيدة.
فهل تكون أخي القارىء مع فرعون في تكذيبه موسى، أم
مع موسى في إثباته للعلو؟ ولاحظ استدلال الأشعري بهذه الآية في مقام التدليل على
علوه سبحانه واستوائه على عرشه، أي أن فيها إفادة هذا المعنى المطلوب وأنها عقيدةُ موسى عليه السلام.
ثم قال:
"وقال عز وجل: {ءأمنتم
من في السماء أن يخسف بكم الأرض} فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق
السماوات قال: {ءأمنتم من في السماء} لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل
ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات. وليس إذا قال: {ءأمنتم من في السماء} يعني جميع السماوات،
وإنما أراد العرش الذي هو على السماوات... "
قلت: فاستدلاله في
مقام الكلام عن الاستواء بكونه سبحانه (في السماء) داحضُ لكل شبهة، إذ لا علاقة
بين الأمرين إلا العلو والفوقية، وقد صرح بلفظ (فوق) وأكد الترابط بين المعنيين.
ثم قال: "ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛
لأن الله عز وجل مستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على
العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يهبطونها (في نسخة: يحطّونها) إذا دعوا
إلى الأرض..."
قلت: وهذا استدلال
ابن كلّابٍ من قبله، وابن مجاهد وأبي الحسن الطبري والباقلاني والقاضي عبد الوهاب
من بعده كما سترى، فكما قلت في تعقيبٍ سابق: لا ينجيهم التشكيك في هذا الكتاب أو
بعض ما فيه، مادامت عين هذه الاستدلالات والمقالات عند من سبق المؤلف أو عند من
تابعه.
ثم قال: "ويقال لهم: إذا لم يكن مستويًا على العرش بمعنى يختص العرش دون
غيره، كما قال ذلك أهل العلم، ونقله الآثار، وحملة الأخبار، وكان الله عز وجل في
كل مكان، فهو تحت الأرض التي السماء فوقها... "
قلت: لاحظ أن
الأشعري يقول: لو لم يكن مستويًا على العرش بمعنى يختص بالعرش، لكان في كل مكان!
لاحظ المقابلة بين الأمرين لتعلم أن الرجل لا يفوض
الاستواء ولا يفهم منه إلا العلو والمباينة المقابلين للحلول والدخول في كل مكان،
وهذا شبيه باستدلال الباقلاني في رده على من قال بالحلول كما سيأتي، إذ رد عليهم
بإثبات الاستواء! إذن معنى الاستواء يقابله ويثبت مطلوب العلو والمباينة اللذين
نقول بهما.
ثم قال: "دليلٌ آخر: ومما يؤكد أن الله عز وجل مستوٍ على عرشه دون
الأشياء كلها، ما نقله أهل الرواية... عن النبي قال: (ينزل الله عز وجل كل ليلة
إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع
الفجر)... "
قلت: تذكر أن
الأشعري يتكلم في الاستواء على العرش، وكونه سبحانه (على العرش) ويستدل لذلك
بأحاديث النزول!
فحين يستدل للعلو بالنزول أيشكُ عاقلٌ أنه يثبت
العلو الحقيقي؟
ولسان حال الأشعري: وهل يَنزِلُ أو يُنزِلُ إلا
العلي المستوي على أعلى المخلوقات؟
ثم قال: "دليلٌ آخر: قال الله عز وجل: {يخافون ربهم من فوقهم}، وقال: {تعرج
الملائكة والروح إليه}، وقال: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان}، وقال: {ثم استوى
على العرش الرحمن فاسأل به خبيرًا}، وقال: {ثم استوى على العرش مالكم من دونه من
ولي ولا شفيع}، فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء على عرشه، والسماء بإجماع
الناس ليست الأرض..."
قلت: فالله في
السماء على عرشه، والسماء ليست الأرض، هذه عقيدته.
فهل يقول عاقلٌ إنه يفوض أو لا يعلم المراد بالسماء
والاستواء والعلو وهو يقابل صراحةً بينها وبين الأرض!
ثم قال: "دليلٌ آخر: وقال الله عز وجل: {وجاء ربك والملك صفًا صفًا}،
وقال: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة}...
وقال عز
وجل لعيسى ابن مريم عليه السلام: {إني متوفيك ورافعك إليّ}، وقال: {وما قتلوه
يقينًا، بل رفعه الله إليه}، وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل رفع عيسى إلى
السماء، ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر
النازل بهم يقولون جميعًا: يا ساكن العرش، ومن حلفهم جميعًا: لا والذي احتجب بسبع
سماوات...
دليلٌ
آخر: وقال الله عز وجل: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق}، وقال: {ولو ترى إذ وقفوا
على ربهم}، وقال: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم}، وقال عز وجل:
{وعرضوا على ربك صفًا}، كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه، ولا خلقه فيه، وأنه مستو
على عرشه سبحانه ... "
قلت: فهو يستدل برفع عيسى، وعيسى رُفعَ إلى الأعلى
حقيقةً، وكونه رفع (إليه) سبحانه يثبت معنى الاستواء والعلو، إضافةً لاستدلاله بقول من يقول "يا ساكن العرش" و "لا والذي احتجب بسبع
سماوات".
كما يستدل بأن أقوامًا (ردوا إليه) و (وقفوا عليه)
و (نكسوا رؤوسهم عنده) و(عرضوا عليه) لإثبات الاستواء على العرش وأنهم في (جهةٍ)
منه تقع لهم هذه الأمور.
ثم قال: "دليلٌ آخر: قال الله عزل وجل: {الله نور السماوات والأرض} فسمى
نفسه نورًا، والنور عند الأمة لا يخلو أن يكون أحد معنيين، إما أن يكون نورًا
يسمع، أو يكون نورًا يُرى، فمن زعم أن الله يسمع ولا يرى فقد أخطأ..."
قلت: واستدلال
الأشعري هنا بتسميةِ الله نورًا في إثبات الرؤية دليلٌ على الترابط بين المسألتين،
وأنه يُرى في علوه سبحانه وتعالى، وفيه رد على من فرق بين الأمرين فأثبت الرؤية
ونفى العلو، ولا أدل من ربطه بين الأمرين على إثباته العلو الحقيقي خلافًا لمن
قال: يُرى لا في جهة.
ثم قال: "وروت العلماء عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
(تفكروا في خلق الله عز وجل، ولا تفكروا في الله عز وجل، فإن بين كرسيه إلى السماء
ألف عام، والله عز وجل فوق ذلك)... وروت العلماء أن رجلًا جاء إلى النبي بأمة
سوداء فقال: يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة، فهل يجوز عتقها؟ فقال لها
النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، قال فمن أنا؟ قالت: أنت
رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة. وهذا يدل على أن
الله تعالى على عرشه فوق السماء."
قلت:
والاستدلال بحديث الجارية يقال فيه ما قيل
في استدلال من قبله، واستدلاله بهذا الأثر الصريح الذي تستنكره الجهمية وأتباعها
اليوم وتضعفه وتشنع على من صححه= يفيد مطلوبنا في بيان معتقد الأشعري.
فهذا ما
كان من أبي الحسن الأشعري.
الطبقة الرابعة- ابن مجاهد وأبي الحسن الطبري:
أما ابن مجاهد، فيقول في الإجماع التاسع من إجماعات أهل السنة:
"وأنه تعالى
فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وقد دل على ذلك بقوله: {ءأمنتم من في السماء أن
يخسف بكم الأرض} وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وقال: {الرحمن
على العرش استوى} وليس استواؤه على العرش استيلاءً كما قال أهل القدر، لأنه عز وجل
لم يزل مستوليًا على كل شيء."[3]
قلت: لاحظ
تقييده فوقية الله بأنها (على عرشه دون أرضه) واستدلاله للفوقية بــ(السماء)
و(إليه يصعد) و(استوى) مما يُبطِلُ أيَّ ادعاء بكونه مُفَوِّضًا أو يثبت كلامًا
بلا معنى واضح.
وأما أبو
الحسن الطبري فيقول ردًا على البلخي حين
زعم أن ارتفاع الأعمال إلى الله ورفع الأيدي للسماء إنما هو لأن مساكن الكرام
الكاتبين فيها ولأنها مهبط أرزاق العباد -وهي نفس تبريرات متأخري الأشعرية-: "قيل
له: إن كانت العلة في رفع أيدينا إلى السماء أن أرزاق العباد في السماء، وأن
الحفظة من الكرام الكاتبين مساكنهم فيها؛ جاز أن تخفض أيدينا في الدعاء نحو الأرض،
من أجل أن الله -تعالى- يحدث فيها النبات والأقوات والمعايش، وأنها قرارهم، ومنها
خلقوا، وإليها يرجعون، ولأنه يحدث فيها آيات، كالزلازل والرجف والخسف، ولأن
الملائكة معهم في الأرض الذين يكتبون أعمالهم، فإذا لم يجب خفض الأيدي نحو
الأرض لما وصفنا، لم تكن العلة في رفعها نحو السماء ما وصفه البلخي، وإنما أمرنا
الله -تعالى- برفع أيدينا قاصدين إليه برفعهما نحو العرش الذي هو مستوٍ عليه،
كما قال: {الرحمن على العرش استوى} وهذه علة مطردة، لأن البلخي لا يمكنه أن يقول:
فاستووا إلى الأرض؛ لأن العرش تحتها؛ إذ كان العرش فوق السماء وليس بتحت
الأرض"[4]
قلت: فلاحظ
دقة استدلاله برفع الأيدي لإثبات استواء الباري على العرش الذي هو فوق السماء،
وأنه هو المقصود برفعها في الدعاء وهو من ترفع إليه الأعمال سبحانه! وقل لي أي
تفويضٍ أو تأويلٍ ينفع بعد هذا!
الطبقة الخامسة- الباقلاني:
قال الباقلاني رحمه الله في كتابه
التمهيد[5]: "فإن قالوا: فهل تقولون إنه في كل
مكان؟ قيل: معاذ الله! بل هو مستو على العرش، كما خبر في كتابه فقال: {الرحمن
على العرش استوى} وقال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}؛
وقال: {ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض}..."
قلت: ورغم وضوح كلام
الباقلاني رحمه الله إلا أن بسطه وجب لكون المتعصبة لا يعدمون تأويلًا ولا تحريفًا
يخرجون به عن لازمٍ أي منقول، فوجب علينا دفاعاً عن الباقلاني رحمه الله -أن تنسب
إليه عقيدة لا يؤمن بها بل يَذكُرُ خلافها- أن نبين مواضع المفاصلة في كلامه بينه
وبين متأخري الأشعرية.
فحين يَرِدُ سؤال:
"هل الله في كل مكان؟"
فإن متأخري الأشعرية
يجيبون عادةً: "بل ليس له مكان ولا حيز ولا جهة من الجهات وليس بداخل العالم
ولا خارجه"
بينما نجد الباقلاني
هنا يجيب بما لا يجيبه أحد من المنتسبين إليه فيقول: "بل هو مستو على
العرش!"
لاحظ أن هذا جوابٌ
يضادُّ وينفَصِلُ ويَرُدُّ به على المقالة المقابلة وهي "أنه في كل
مكان" وليس الباقلاني في مقام إثبات صفةٍ مفوضة، أو فعلًا فعله الخالق في
العرش وسماه استواءً، وما إلى ذلك من تأويلات القوم، فمثل هذا لا علاقة له بالمقام
البتة، ويكون ذكره تأويلًا بعيدًا لكلام الباقلاني أقل ما يقال فيه إنه تجهيلٌ
ورمي بالعجمة عن البيان، فما هي العلاقة بين (كونه فَعَلَ فعلًا سماه استواءً) أو
إثبات (استواءٍ) مفوض، وبين الرد على الحلولية ومقالة (الله في كل مكان)؟ فمن الواضح إذن أنه يريد من الاستواء= العلو
والارتفاع الحقيقيين.
ولكن قد يقول قائل:
يريد بالعلو هنا العلو المعنوي لا العلو الحقيقي، أي: أثَبَتَ الاستواء الذي هو
علو العزة والمكانة ليبين أن الخالق يتنزه عن المخالطة والحلول، وأن هذا وجه
استدلاله بالآية.
فنقول: هذا من أقبح
التأويل وأبعده، فما وجه تخصيص (علوه المعنوي) بالعرش أصلًا؟ فمثل هذا التأويل
يرده أصغر الطلاب بلا شك، فضلًا عن الباقلاني، ثم يزيد رحمه الله كلامه بيانًا
فيستدل بقوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} فصعود العمل
الطيب والارتفاع يذكرهما في مقابل (أنه في كل مكان) وردًا على مقالة الحلولية.
فإن استمرأ مقرمطٌ
تأويل الاستدلال الأول بأنه فعل فعلًا في العرش سماه استواءً، أو بأنه علو معنوي،
فما هو التأويل الذي يرتضيه هنا لتوجيه استدلال الباقلاني بـ (إليه يصعد)
و(يرفعه)؟ ما علاقة ذلك بالرد على الحلولية ما لم يكن يريد إثبات العلو الحقيقي
المقابل للسفول، والفوقية المقابلة للتحتية، ولن يجد المخالف توجيهًا البتة.
هذا هو الوجه الأول
في بيان كلامه الواضح، وهو مبني على ما استدل به في الرد على الحلولية.
ثم قال رحمه الله
بعدها مستدلًا بغير النصوص: "ولو كان
في كل مكان، لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها –تعالى عن ذلك!- ولوجب
أن يزيد بزيادة الأماكن إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا
بطل منها ما كان؛ ولصح أن يُرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن
أيماننا وشمائلنا، وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافة وتخطئة قائله"
لاحظ هنا أمرًا
مهمًا، وهو أن الباقلاني يريد بالمكان: الوجودي المخلوق، وبهذا المعنى للمكان فإنه
لا يسمى خارج العالم مكانًا لأن العالم هو مجموع المخلوقات، إذن: لا يسمى خارج
العالم وما علا عليه وباينه مكانًا بهذا المعنى، وبهذا يندفع كلام من يستميت في
التأويل ممن استدل بكلامه في نفي المكان حين قال في الإنصاف: "استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول إن العرش له قرار، ولا
مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان"
فنحن معه ننفي المكان،
ونقول مثله رحمه الله، فهو بائن عن الأمكنة المخلوقة، ليس في مكان مخلوق سبحانه،
بل هو خارج العالم المكاني المخلوق وفوقه حقيقةً عز وجل.
والعجيب أن القوم
أصلًا يفرقون بين المكان والحيز، فليس كل ما هو في حيز يكون في مكان، والحيز عند
المتكلمين عدمي موهوم، فبطلت محاولتهم الاستدلال بنفي الباقلاني للمكان -الذي
يطلقه على المخلوق- في التدليل على نفيه المزعوم للعلو الذاتي الحقيقي، هذا ملحظ.
والملحظ الثاني
والأهم هو ما استدل به الباقلاني من دلالة الفطرة البشرية! ومثل هذا الاستدلال
-الذي يتكرر في كلام أصحابنا- لا يتردد الجهمية ومتأخرو الأشعرية في وصف من يستدل
به بالتشبيه والزيغ! وقد ظهر لك أنه استدلالٌ لطبقات سبقت الباقلاني من المتكلمين.
فحين يقول الباقلاني:
"ولصح أن يُرغب إليه إلى نحو الأرض
وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا، وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافة
وتخطئة قائله" فإن عاقلًا لا يتردد في كونه يثبت لله العلو الحقيقي، وأن
الناس ترغب إليه في العلو سبحانه.
ولا تنس أنه يستدل
هنا في مقام الرد على الحلولية، فهو يتكلم عما يقابل مقالة (في كل مكان) فيرد على
قائلها بأنه ليس في كل مكان ولا يرغب إليه لا نحو الأرض ولا إلى وراء ولا عن يمين
أو شمال، ولو كان في كل مكان لصح أن يرغب إليه في هذه الجهات، ولكنه يرغب إليه في
العلو كما هي فطر البشر، ولو كان لا يثبت العلو الحقيقي، لقال له الحلولي:
"وهل الرغبة الفطرية للبشر مما يحتكم إليها في معرفة وجوده سبحانه في كل مكان
أو لا؟ إذن يلزمك أن يكون الباري فوق العالمين لأن البشر ترغب إليه في العلو،
وبالتالي بنبغي أن يكون فوقهم، وأنت تنفي ذلك، فما دخل رغبة الناس وفطرتهم في
إبطال قولي بالحلول؟" اهـ
فلا يكون استدلال الباقلاني حينئذٍ إلا كلامًا فارغًا
من أي معنى.
فيتكرر السؤال المهم: ما هو وجه الاستدلال بفطرة الناس
ورغبة أنفسهم في الرد على الحلولية لو لم يرد بذلك إثبات الفوقية وأنه يرغب إليه
في العلو سبحانه؟ ولم استثنى العلو من الجهات الباقية؟
وقارن هذا بمن يمنعون الاستدلال بهذا الدليل، ويجبونك
بالجواب المكرر المتهافت: يرغبون إليها لأنها قبلة الدعاء كما أنك تضع جوارحك على
الأرض عند السجود، وكما تقابل الكعبة عند القيام.
مع أن الاستدلال لا بجهة الجوارح وإنما بقصد القلب،
فالقلب لا يقصد إلا العلو سواء كنت ساجدًا أو متجهًا إلى الكعبة المشرفة، لا تشرئب
نفسك في كل أحوالك إلا إلى الأعلى طالبًا ربك وخالقك.
فهل من يستدل بهذا الدليل كمن يدفعه ويمنع دلالته؟
جزمًا لا.
وقال رحمه الله
بعدها: "فإن قالوا: أفليس قد قال
الله عز وجل: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} فأخبر أنه في السماء وفي
الأرض؟ وقال: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}؛ وقال: {إنني معكما أسمع
وأرى}؛ وقال: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا
أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} في نظائر لهذه الآيات، فما أنكرتم أنه في كل
مكان؟
يقال لهم: قوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إليه}، المراد به
أنه إله عند أهل السماء، وإله عند أهل الأرض، كما تقول العرب "فلان نبيل مطاع
بالعراق ونبيل مطاع بالحجاز" يعنون بذلك أنه مطاع في المصرين وعند أهلهما،
وليس يعنون أن ذات المذكور بالحجاز والعراق موجودة"
قلت: العجيب أن رده
الواضح هذا لم يكن كافيًا لمنع استدلال أحد المعاصرين بقوله في الإنصاف: "وأن الله جل ثناؤه مستو على العرش
ومستول عليه وعلى جميع خلقه كما قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى}، بغير مماسة
وكيفية ولا مجاورة. وأنه في السماء إله وفي الأرض إله كما أخبر"
فاستدل بها لإثبات أن
الباقلاني يفسر الاستواء بالاستيلاء، وبأنه ينفي العلو بهذه الآية، بينما الآية
عنده هنا -في نقلنا عن التمهيد- لا تدل البتة على نفي العلو، بل رَدَّها على
الحلولية حين استدلوا بها، وبَيَّن المراد منها، كما أن نفي المماسة والكيفية
والمجاورة كلها أمور أخص من إثبات علو الذات الحقيقي، فالصحيح أن يقول المنصف:
"الباقلاني يثبت العلو الحقيقي من دون إثبات هذه اللوازم الخاصة
بالمخلوق"
فهذا أقصى ما يفهم من كلامه في الإنصاف.
لا أن يتسور صريحَ
كلامه بنفيه لهذه اللوازم لينفي بها ما أثبته صراحة قبلها بقوله "مستو على
العرش" وبما ذكره في بقية كلامه!
هذا من جهة، ومن جهة
أخرى فإن العاقل لا ينفي هذه اللوازم إلا إن كان يثبت معنى تلزمه هذه اللوازم في
الشاهد، فحين خشي أن يظن القارىء أنه يثبت هذه اللوازم مع العلو الحقيقي الذي
يثبته، بين أنه يثبت هذا المعنى بدون هذه اللوازم، إذن: نفي اللوازم المتوهمة فرع
إثبات المعنى الأصلي.
أما قوله "مستول
عليه" فمن التأويل البعيد أن يقال بأنه المعنى الوحيد عنده للاستواء، لماذا؟
لأن الاستواء خاص بالعرش، بينما هو يقول هنا "مستول عليه وعلى جميع
خلقه" إذن قوله "مستوٍ على العرش ومستولٍ عليه" أراد به أنه سبحانه
متصف بأمرين: الاستواء على العرش، والاستيلاء عليه وعلى جميع خلقه، لا أن الاستواء
هو الاستيلاء، فالاستواء خاص بالعرش، وأما الاستيلاء فعليه وعلى جميع خلقه كما هو
نص كلامه، وليسا أمرًا واحدًا.
ويرد ذلك ما يأتي من
كلامه في الرد على من يفسر الاستواء بالاستيلاء إذ قال رحمه الله بعد أن رد على الحلولية
ما استدلوا به من نصوص المعية: "ولا
يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيفٍ ودمٍ مهراق
لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادراً قاهراً عزيزاً
مقتدراً، وقوله {ثم استوى على العرش} يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل
ما قالوه"[6]
قلت: وفي هذا الكلام
فوائد:
الأولى: الرد على كل
من يؤول الاستواء بالاستيلاء من أصحابه، وقد سبقه برد هذا التأويل ونسبته إلى
المعتزلة والجهمية إمامه الأشعري أبو الحسن رحمه الله.
الثانية: أن الاستواء
عنده فعل لقوله "يقتضي استفتاح هذا
الوصف بعد أن لم يكن" إذن: بطل قول من قال بأن مراد الباقلاني من
الاستواء: العلو المعنوي، لأن العلو المعنوي ثابت لله أزلًا وأبدًا ولم يكن الله
دنيّ المكانة ثم صار عليّها والعياذ بالله!
فإن قيل: نعم هو يثبت
الاستواء فعلًا فعله الخالق بالعرش وسماه بهذا الاسم.
قلنا: هذا أقرب من
تأويله بالعلو المعنوي، ولكنه خلاف ظاهر كلامه أولًا وتأويلٌ لا موجب له من كلامه
بل هو محض تحريف ومحاولة للتهرب منه ثانيًا، وخلاف ما يفهم من استدلاله به للرد
على الحلولية ثالثًا، فما دخل إثبات الاستواء بهذا المعنى في الرد على الحلولية؟
فتخيل لو قال
الحلولي: هو في كل مكان.
فأجبناه: لا ليس في
كل مكان، لأنه قال سبحانه بأنه فعل فعلًا في العرش سماه استواءً!
أي جوابٍ ساقطٍ ينسب
لذكي كالباقلاني بعد هذا التأويل!
ونؤكد ما سبق بملحظٍ مهمٍ قاصمٍ لحجة كل مخالف وتأويل كل مناكف، وهو أن
كلام الباقلاني هذا لم يبتدعه من عند نفسه، بل سبقه إليه ابن كلاب والحارث
المحاسبي والأشعري وتلاميذ الأشعري كابن مجاهد وأبي الحسن الطبري كما سبق أن
بيَّنَّا.
وقد حاول بعض المعاصرين أيضًا أن يدفع كلام الباقلاني ودلالته بكون تلميذٍ
من تلاميذه ينفي العلو الحقيقي، وهو عبدالجليل الربعي القيرواني، وهذا بطبيعة
الحال لا دليلَ فيه بحالٍ من الأحوال لاسيما أن غيره من تلاميذه أثبتوا العلو الحقيقي كما سيأتي،
وسيأتي أيضًا إبطال الاستدلال بتلميذه الربعي.
الطبقة السادسة- ابن أبي زيد القيرواني والقاضي عبدالوهاب والمقبري و الداني:
أما القاضي فهو من طبقة تلاميذ الباقلاني، وقد قال في شرح قول القيرواني في
الرسالة: "وأنهُ فوقَ عرشِهِ المجيدِ
بذاتِه" كلامًا يكتب بماء
الذهب، وهو عين ما قاله الباقلاني في تمهيده وعنه أخذه القاضي بلا شك، ولكنه عبّر
عنه بأسلوبه فقال: "هذه
العبارة الآخرة التي هي قوله: على العرش، أحب إلي من الأولى التي هي قوله: وأنه
فوق عرشه المجيد بذاته، لأن قوله: على عرشه، وهو الذي ورد به النص، ولم يرد النص
بذكر فوق، وإن كان المعنى واحدًا، وكان المراد بذكر الفوق في هذا الموضع:
أنه بمعنى على، إلا أن ما طابق النص أولى بأن يستعمل، إذا ثبت هذا، والذي يدل على
صحة ما ذكره رحمه الله من أنه على عرشه دون كل مكان: ورود النص بذلك في عدة
مواضع، منها قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} وهذا يمنع أن يوصف بأنه على
غيره، وقوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وقوله تعالى
{استوى على العرش} وقوله تعالى {ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} وفي
الحديث المشهور في الرجل الذي أراد أن يعتق عن كفارته أمةً فجاء بها إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال لها: من أنا؟ فقالت: رسول الله، فقال: أين الله؟ فقالت: في
السماء. فلم ينكر عليها، وحكم بإيمانها، ولإجماع الأمة على أنا متعبدون في
الدعاء برفع أيدينا إلى جهة العلو دون السفل، ودون اليمين والشمال وسائر الجهات،
وهذا ينفي أن يكون في كل مكان، ولا يعترض على هذا بقوله تعالى {وهو الذي في السماء
إله وفي الأرض إله} لأنه إله في الموضعين، وذلك لا يوجب كونه في كل موضع كان فيه
إلهًا، وذلك كما يقال: فلان سيد بالعراق وبالشام"[7]
قلت: لاحظ أن انتقاد القاضي انتقادٌ لفظيٌ محض، وأنه
انصب على استعمال (فوق) بدلًا من (على)،
ولم ينبس ببنت شفة فيما يتعلق بقول القيرواني (بذاته) فهي عنده مصدقةٌ
للمعنى ولم يعترض عليها حتى لفظيًا!
وكلام
القاضي عبدالوهاب مهم لأسباب:
1- أنه أول شراح رسالة القيرواني وأنه تتلمذ على
شيوخ المالكية وفهم عن القيرواني إثبات هذه العقيدة المهمة التي ما كان ليثبتها
بهذا التفصيل مفتريًا عليه ما لم يكن يعلمه منه بالضرورة.
2- أنه تلميذ أبي بكر الباقلاني، تلميذُ تلامذةِ
الأشعري، وعنه نقل الكلام الذي في الأعلى ولكن بتفصيلٍ يدفع أي محاولةٍ بائسةٍ
للتأويل، ففي كلامه إثبات ما ننسبه للباقلاني وللأشعري تبعًا بناءً على نصوصهم
التي يتأولها أصحابهم.
3- أنه متكلمٌ يوافق الكلابية في مواضع من شرحه،
فليس الرجل أجنبيًا عنهم، فهو يصدّقُ ما نقوله من أن متقدمي متكلمة الأشاعرة كانوا
على هذه العقيدة مع السلف ولم يشذوا عنهم فيها.
4- أن فيه دفعًا للتأويل الذي يسلكه المتورطون
بكلام القيرواني، إذ يدَّعون أن الكلام من جملتين (وأنه فوق عرشه) أي فوقه في
المنزلة والمكانة، وأنه سبحانه (المجيدُ بذاته)!
وجعله سبحانه مجيدًا بذاته كلامٌ غير مفهوم! هل
يريد أن يدفع كونه مجيدًا بغيره مثلًا؟ فانظر ركاكة التأويل وتَمَحُلَ من تعلق به،
وقارنه بكلام القاضي عبدالوهاب رحمه الله وأجزل له الثواب.
وفي هذا تصديقٌ لما سيأتي في النص
القادم من نسبة القرطبي عقيدة العلو الحقيقي -بل ووصفها بالجهة في تفسيره- إلى
القيرواني والقاضي عبدالوهاب جامعًا إياهما مع الطبري والباقلاني وابن عبد البر
والسلف بعموم.
وممن شرحَ الرسالةَ -وقيلَ أن شرحه يسبق شرح القاضي- أبو بكر محمد بن موهب
المقبري، وقد نقل ابن القيم شيئًا من كلامه المؤيِّدِ لما ذكرناه، حيث يقول:
"وأما قوله إنه (فوق عرشه المجيد بذاته) فإن
معنى (فوق) و(علا) واحد بين جميع العرب وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم تصديق ذلك، وهو قوله تعالى: {ثم استوى على العرش الرحمن}، وقال تعالى:
{الرحمن على العرش استوى} وقال تعالى في وصف خوف الملائكة: {يخافون ربهم من فوقهم
ويفعلون ما يؤمرون} وقال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} ونحو
ذلك كثير، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأعجمية: أين الله؟ فأشارت إلى
السماء، ووصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه عرج به من الأرض إلى السماء، ثم
من سماء إلى سماء، إلى سدرة المنتهى ثم إلى ما فوقها حتى قال: لقد سمعت صريف
الأقلام، ولما فرضت الصلاة جعل كلما هبط من مكانه تلقاه موسى عليه السلام في بعض
السماوات وأمره بسؤال التخفيف عن أمته فرجع صاعدا مرتفعا إلى الله سبحانه وتعالى
فسأله حتى انتهت إلى خمس صلوات... وقد تأتي (في) في لغة العرب بمعنى فوق؛ وعلى ذلك
قوله تعالى: {فامشوا في مناكبها} يريد فوقها وعليها، وكذلك قوله تعالى {ولأصلبنكم
في جذوع النخل} يريد عليها، وقال تعالى: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض}
الآيات، قال (أهل) التأويل العالمون بلغة العرب يريد فوقها وهو قول مالك مما فهم
عن جماعة ممن أدرك من التابعين مما فهموه عن الصحابة رضي الله عنهم مما فهموه عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن الله) في السماء بمعنى: فوقها وعليها، فلذلك
قال الشيخ أبو محمد إنه فوق عرشه المجيد بذاته، ثم إنه بين أن علوه على عرشه إنما
هو بذاته ; لأنه بائن عن جميع خلقه بلا كيف وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة
بعلمه لا بذاته ; إذ لا تحويه الأماكن ; لأنه أعظم منها وقد كان ولا مكان ولم يحل
بصفاته عما كان ; إذ لا تجري عليه الأحوال لكن علوه في استوائه على عرشه هو عندنا
بخلاف ما كان قبل أن يستوي على العرش ; لأنه قال: {ثم استوى على العرش} [الأعراف:
54] وثم أبدا لا تكون إلا لاستئناف فعل يكون بينه وبين ما قبله فسحة... وقوله:
{على العرش استوى} فإنما معناه عند أهل السنة على غير الاستيلاء والقهر والغلبة
والملك الذي ظنت المعتزلة ومن قال بقولهم إنه بمعنى الاستيلاء، وبعضهم يقول: إنه
على المجاز دون الحقيقة، قال: ويبين سوء تأويلهم في استوائه على عرشه على غير ما
تأولوه من الاستيلاء وغيره ما قد علمه أهل المعقول أنه لم يزل مستوليا على جميع
مخلوقاته بعد اختراعه لها، وكان العرش وغيره في ذلك سواء، فلا معنى لتأويلهم
بإفراد العرش بالاستواء الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاء وملك وقهر وغلبة، قال:
وكذلك بين أيضا أنه على الحقيقة بقوله عز وجل: {ومن أصدق من الله قيلا} فلما رأى
المنصفون إفراد ذكره بالاستواء على عرشه بعد خلق سماواته وأرضه وتخصيصه بصفة
الاستواء علموا أن الاستواء هنا غير الاستيلاء ونحوه فأقروا بصفة الاستواء على
عرشه وأنه على الحقيقة لا على المجاز، لأنه الصادق في قيله، ووقفوا عن تكييف ذلك
وتمثيله، إذ ليس كمثله شيء من الأشياء"[8]
وكلام المقبري
الصريح هذا حدا بالكوثري إلى أن يقول فيه: "وأبو بكر محمد
بن وهب شارح رسالة ابن أبي زيد مسكين مضطرب بعيد عن مرتبة الحجة"[9]
ومن مؤكدات فهمنا وفهم القاضي عبدالوهاب والمقبري
لكلام القيرواني ما نقله عن القيرواني تلميذه مكي بن ابي طالب قائلًا: " وأحسن الأقوال في هذه: (علا)، والذي
يعتقده أهل السنة، ويقولونه في هذا: إن الله جلّ ذكره، سماواته على عرشه دون
أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه، وله تعالى ذكره كرسي وسع السماوات والأرض كما
قال جل ذكره. وكذلك ذكر شيخنا أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله."[10]
والنص الذي يريد مكي بن أبي
طالب هو ما قاله ابن أبي زيد القيرواني في الجامع: "وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه"[11]
وقوله: "على عرشه دون
أرضه" صريحٌ في إرادة العلو الحقيقي، فقدرة الله وتدبيره وقهره وكل
تأويلاتهم لظواهر العلو= لا تستثنى منها أرضه سبحانه، بل استثناء أرضه منها كفرٌ
صراح، إذ من أوَّل العلو أو الفوقية بعلو وفوقية المكانة ثم استثنى الأرض فهو
كافرٌ قولًا واحدًا!
فلا يفهم من كلامه إلا إرادة العلو
الحقيقي والاستواء الحقيقي على العرش حصرًا وفوق السماوات.
فهذا ما نسبه مكي بن ابي طالب إلى ابن
أبي زيد رحمه الله، موافقًا ما ورد عنه بنصه، ولم ينسب إليه قولًا آخر، فأيًا كان
رأي مكي بن أبي طالب فإن ما يهمنا هو ما نسبه فقط إلى ابن أبي زيد، لا ما يراه هو
ويميل إليه، فكيف إن كان له هو نفسه كلمات واضحة في إثبات العلو الحقيقي -كهذا
الموضع- وإن كانت له كلمات أخرى موهمة؟
بل ممن ذكر كلام القيرواني منكرًا
إياه:
1- القاضي ابن العربي، فقال: "ثم
جاءت طائفة ركبت عليه، فقالت: إنه فوق العرش بذاته، وعليها شيخ المغرب أبو محمد
عبدالله بن أبي زيد، فقالها للمعلمين فسدكت بقلوب الأطفال والكبار"[12]
2- وكذلك ذكره
القرافي فقال: "فقال جماعة عن ابن أبي زيد وعن ابن عبدالبر وجماعة من
المجتهدين: إنهم يعتقدون الجهة لأجل هذه الإطلاقات"[13]
ثم ذكر بأنهم
أرادوا إثبات فوقيةٍ مفوضة، ولا يهمنا ما أوَّل به القرافي كلامهم، ولكن يهمنا أنه
جمعهم معًا، وابن عبدالبر كلامه صريحٌ حتى أن متأخري الأشعرية يعدونه من المجسمة،
فجمع ابن أبي زيد معه له دلالته الواضحة، كما يهمنا أن القرافي لم يفهم التأويل
البارد لكلام القيرواني وأنه أراد علو المكانة والعلو المعنوي وأن قوله (المجيد
بذاته) جملة مستأنفة، و(المجيد) فيها خبرٌ مرفوع، بل هو يثبت علوًا لله بذاته وراءَ
ذلك باعتراف القرافي وإن زعم أنه مفوض وحاول أن يبرر له هذا الإطلاق.
3- وكذلك العز
بن عبدالسلام، ونقله ابن حجر الهيتمي
قائلًا: "وفي أسئلة الشيخ عز الدين: ما تقول في قول ابن أبي زيد،
وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه هل يفهم منه القول بالجهة وهل
يكفر معتقدها أم لا؟ .
فأجاب الشيخ
عز الدين: بأن ظاهره ما ذكر من القول بالجهة، لأنه فرق بين كونه على العرش وكونه
مع خلقه بعلمه، والأصح أن معتقد الجهة لا يكفر لأن علماء المسلمين لم يخرجوهم عن
الإسلام"[14]
4- وصرح أيضًا أبو العباس أحمد زروق بإشكال ظاهره وأنه مما
يجب تأويله فقال: "وبالجملة فإخراجه عن ظاهره المحال واجب، وعذر الشيخ في
ذكره واضح"[15]
5- وبمثله أبو عبدالله الأبي فقال: "ما نسب من القول بالجهة إلى
الدهماء ومن بعدهم من الفقهاء والمتكلمين لا يصح، ولم يقع إلا لأبي عمر في
الاستذكار ولابن أبي زيد في الرسالة، وهو عنهما متأول"[16]
6- وبمثله الكوثري فقال: "على أن لفظ
الجهة لم يقع في كلام أبي عمر ولا في كلام ابن أبي زيد وإن كان ظاهر كلامهما يوهم
ذلك. وقد تأول كلامهما المالكية ليكونا مع الجمهور في هذه المسألة الخطرة ولو ترك
كلامهما على الظاهر لهويا في هاوية التجسيم وذلك عزيز عليهم أيضاً"[17]
وأنت تعلم بأن تأويل كلام غير المعصوم لا قيمةَ له هنا، وأن النظرية
التأويلية الكلامية لا تتناوله، فاعترافهم بأن إثبات العلو الحقيقي ظاهر كلام هؤلاء يكفينا، وتأويلهم لا يقبل بلا دليل.
ثم إن بعض
المعاصرين حاول دفع كل ما سبق برجلين اثنين، وهما تلميذان للقيرواني، الأول مكي بن
أبي طالب، والثاني عبدالجليل الربعي، أما الأول فذكرنا أنه لم ينسب لشيخه شيئًا
سوى ما يدل على فهمنا على الأقل بظاهره، وإن جردناه عن أي قرينة أخرى، فكيف به
مجموعًا إلى بقية القرائن المذكورة؟
وأما الثاني
فيقول في شرحه لتمهيد الباقلاني: "كونُه تعالى
فوقهم ليس هو كون السماء فوق الأرض جسمان من الأجسام، وإنما معنى وصف الله تعالى
بأنه فوق عباده أنه قاهر لهم وغالب لهم وحاكم فيهم، وليس معنى ذلك أنه فوقهم بمكان
أعلى من أماكنهم لأنه تعالى هو محدِثُ الكلِّ وخالقه، فكيف يفتقِرُ إلى المكان من
لولاه لم يكن المكان؟!"[18]
وقد كان ينقل رأي الباقلاني ورأي الأشعري حتى وصل
إلى مسألة العلو هذه، فتكلم فيها برأيه المحض، ولم ينسب إليهما حرفًا واحدًا مما
قاله فضلًا عن أن ينسبه للقيرواني، ولو كان يشرح كلامهم أو يؤكده لنص على ذلك أو
نماه إليهم، لاسيما وأن كلامهم موجودٌ مشكلٌ عند نفاة العلو الحقيقي، فكيف
إذا كان كلام عبدالجليل هذا نفسه محتملًا
أيضًا، إذ هو ينفي أن يكون علو الله علو الجسم على الجسم أو أن يكون في مكانٍ لأنه
خالقُ المكان، فهو يتكلمُ عن مكانٍ وجوديٍ إذن، وعن علوٍ خاصٍ مقيدٍ هو علو الجسم
على الجسم، وهذان ينفيهما ابن تيمية ومثبتة العلو بعموم من غيرِ غلاةِ المجسمة والحلولية.
إنما وقع الإشكال في كلام الربعي عند مناقشته لأدلة العلو،
فالأدلة التي يستدل بها من سبق نقل كلامهم -كابن كلاب والمحاسبي والأشعري
والباقلاني وتلاميذه- يدفعها بخلافهم، ويصرفها للقهر والحكم، ونفي العلو عمومًا
كان موجودًا في هذه الطبقة من الأشعرية ومن أبرز من يمثلهم ابن فورك في أحد قوليه
-والثاني في شرح أوائل الأدلة-، فبهذا تعلم أن اهتبالَ بعض الباحثين لكلام عبدالجليل الربعي
وكأنه ممثلٌ لموقف القيرواني أو الباقلاني أو أبي الحسن= مما لا قيمة له البتة، لاسيما
حين نجد في مقابله القاضي عبدالوهاب والمقبري والداني والذين يثبتون العلو الحقيقي بلا شائبة أو غبش،
ويستدلون بالأدلة عينها التي صرفها عبدالجليل للقهر والحكم، ومن قلة العلم
والتحقيق أن تطوي كشحك عن كلامِ عالمٍ حين تعجز عن دفعه مكتفيًا بأن تلميذه قالَ
ما يعجبك، مُصيِّرًا الإمامَ تلقائيًا على قولِ هذا التلميذ وإن لم ينسِبِ
التلميذُ قولَهُ إلى هذا العالم، فلا عَبَثَ فوق هذا.
ولم ينسب الربعي لمن سبقه فيما يتعلق بإثبات العلو الحقيقي إلا
ما ذكره في نقاش مسألة نزول القرآن، فقال: "وأما
القاضي رحمه الله قال: قد اتفقنا نحن والمعتزلة على أن حقيقة النزول إنما يكون من
علو إلى سفلٍ، والقرآن الذي هو كلام الله القائم بذاته الذي ليس بمخلوق لا يجوز أن
يكون في علوٍ ينزلُ منه إلى سفل، وإنما نزول القرآن على معنى أن الملك (...)
الله"
قلت: لاحظ أنني وضعت (...) في آخر جملة بين (الملك) و (الله)، وهذه
الجملة متصلة في المخطوط كجملةٍ واحد، ولكن لا يستقيم بحال أن يقال: "وإنما
نزول القرآن على معنى أن المَلَك الله"!
فلا شك أن هاهنا سقطًا من قبل الناسخ، وهو معهود منه في
المخطوطة كثيرًا، ولا يمكن تقدير السقط إلا بالتالي: "وإنما نزول القرآن على معنى أن الملك (نزل به من عند) الله"
أو ما كان بمعنى ذلك.
فيكون الملك قد سمعه في العلو من الله، لأن الكلام عن كلام
الله الذي هو صفته القائمة بذاته كما في نص الباقلاني الذي ينقله الربعي، ويؤكد
هذا ما نقله الربعي بعد ذلك قائلًا:"وقال
الشيخ أبو عبدالله الأدري [ولعله الأزدي] رحمه الله: صحبت القاضي رحمه الله ثلاث
عشرةَ سنةً فما رأيته ولا سمعت منه طول هذه السنين قولًا إن القرآن ما نزل، قال
رحمه الله: وصحبت شيوخ أهل الري وطبرستان فكلهم يقولون القرآن نزل، قال: وما علمت
أحدًا من شيوخ أهل السنة يقولون إن القرآن لم ينزل، بل كلهم مجمعون على أن القرآن
نزل، قال: وإنما يوجد عنهم أن القرآن لم ينزل ومعناه أنه لم ينزل نزول مفارقة
وانتقال، وإنما نزل نزول بلاغ، وأن الملك سمعه في علو فأداه في سفل إلى النبي صلى
الله عليه وسلم"[19]
قلت: فانظر إلى قوله: "سمعه في علو" وإلى نص
الباقلاني في تفسير النزول بأنه: "أن الملك (...) الله" واستحضر
تصريح الباقلاني بما يملأ السقط في كتب أخرى كقوله في الإنصاف: "أن جبريل عليه السلام علم كلام الله وفهمه، وعلمه الله
النظم العربي الذى هو قراءته، وعلم هو القراءة نبينا"[20] وغير ذلك من كلامه= يثبت عندك ما قدرناه في السقط، ويكون مؤكدًا معضدًا لما ثَبَتَ
سابقًا -بمعزلٍ عن الربعي وغير الربعي- من كون الباقلاني مثبتًا لعلو الله
الحقيقي، وأن جبريل يسمع منه القرآن في
علوه ثم ينزل به إلى خلقه مبلغًا ورسولا.
ونختم هذه
الطبقة بأبي عمرو الداني -وهو تلميذٌ آخرُ للباقلاني- إذ لهُ كلامٌ صريحٌ لا يحتمل
التأويل وتمحل التبرير، إذ قال:
"ومن قولهم: أنه سبحانه فوق سماواته، مستوٍ على عرشه، ومستول على جميع
خلقه، وبائن منهم بذاته، غير بائن بعلمه، بل علمه محيط بهم، يعلم سرهم وجهرهم،
ويعلم ما يكسبون، على ما ورد به خبره الصادق، وكتابه الناطق، فقال تعالى: {الرحمن
على العرش استوى} ، واستواؤه عز وجل: علوه بغير كيفية، ولا تحديد، ولا مجاورة ولا
مماسة.
قال مالك رحمه الله للذي
سأله عن كيفية الاستواء: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب،
والسؤال عنه بدعة. قال عز وجل: {ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها} الآية يعني أن علمه محيط بهم
حيثما كانوا، بدليل قوله: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل
شيء علما}. وقال عز وجل: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}. وقال:
{أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض}، {أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم
حاصباً}، وقال: {تعرج الملائكة والروح إليه}، وقال: {يدبر الأمر من السماء إلى
الأرض} الآية.
وقال: {وهو القاهر فوق
عباده}، وقال: {يخافون ربهم من فوقهم}، وقال: {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي}،
وقال: {بل رفعه الله إليه} وقال مخبراً عن فرعون: {وقال فرعون يا هامان ابن لي
صرحاً} الآية."
قلت: فهذا كلامه الصريح،
فافهمه بما سبق وقررناه في الطبقات السابقة، وانظر كيف يستدل بآيات ليس فيها لفظ
"فوق سمواته" أو "بائنٌ منهم بذاته" وإنما فيها الاستواء والسماوية وصعود الكلم
الطيب وعروج الملائكة ورفع عيسى وأمر فرعون! مما يصب في نفس المعنى ولا يتفق مع
التفويض لأن فيه استدلالًا بالمفهوم والمعنى إذ ليس في ألفاظها ما أثبته، كما لا
يتفق مع التأويل بعلو المكانة والشرف لنفس هذه الأسباب ولتخصيص ذلك بالعرش
والسماوات ولكونه يستدل بهذه النصوص على أنها دالةٌ على مطلوبه لا مشكلةً محتاجة
للتأويل.
ثم عرض الداني آيات المعية
ودفع دلالتها على معية الذات كما فعل الباقلاني شيخه وختم مبحث العلو والمباينة
بنقلين شريفين: "وروى مقاتل بن حيان عن الضحاك في الآية قال: هو تعالى فوق
عرشه، وعلمه معهم. أي: محيط. فسبحان من لا يبلغه وصف واصف، ولا يدركه وهم عارف. حدثنا
خلف بن إبراهيم المالكي، قال: نا محمد بن عبد الله بن حيويه النيسابوري، قال: نا
إبراهيم بن جميل، قال: نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: [حدثني أبي] نا سريج بن
النعمان قال: نا عبد الله بن نافع قال: قال مالك: الله في السماء، وعلمه في كل
مكان." [21]
تصريح القرطبي:
من النصوص المتأخرة
المهمة أيضًا= نصُ القرطبي المفسر، حيث يقول:
"قوله تعالى: {ثم
استوى على العرش} هذه مسألة الاستواء، وللعلماء فيها كلام وإجراء. وقد بينا أقوال
العلماء فيها في الكتاب (الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى) وذكرنا
فيها هناك أربعة عشر قولًا. والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه
الباري سبحانه عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة
العلماء المتقدمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة
فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم
على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين.
وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل
نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من
السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما
جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم-
يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله
عنها. وهذا القدر كاف، ومن أراد زيادة عليه فليقف عليه في موضعه من كتب
العلماء."[22]
وفي هذا النقل فوائد:
1- أن القرطبي يفرق تفريقًا صريحًا واضحًا بين قول
المتكلمين وقول السلف بالجهة، فالمتكلمون ينفونها، والسلف يثبتونها، وتنبه لقوله:
"نطقوا هم والكافة بإثباتها لله" وأنهم أثبتوا الاستواء
"حقيقة" عنده، وليس كما يزعم سيف العصري بأن مراد القرطبي أنهم سكتوا
وأثبتوا الألفاظ فقط! فهل المتكلمون كفار ولم يثبتوا الألفاظ ليثبت القرطبي فرقًا
صريحًا بينهم وبين السلف!
2- أن نسبة (تفويض العلو) أو (العلو المعنوي وعلو
المكانة) للسلف عبثٌ محض يستحيل الجمع بينه وبين ما نسبه القرطبي لهم من إثبات
(الجهة)، إذ لفظ (الجهة) ليس له وجود في الوحي ليثبتوه مفوضًا أو يريدوا به العلو
المعنوي، فلم يثبتوها إذن إلا لأنهم فهموا أن مقتضى تلك الآيات إثباتها، وأنهم
عبروا تعبيرات صريحة في إثباتها، لذا نسب القرطبي إليهم إثبات الجهمة، كما أنه نقل
في سياق نسبة القول بــ(الجهة) إلى السلف ما قاله الإمام مالك، وبين أنه أثبت أن
الاستواء معلوم لغةً وليس مفوضًا، وتذكر أنه أورد كلام الإمام مالك في سياق نسبة
القول بالجهة للسلف، فهو مثال من الأمثلة.
3- أنه أحال على كتابه "الأسنى" الذي
فرّق فيه تفريقًا واضحًا بين قول السلف وبين كل المجازات المستعملة من قبل متأخري
أهل الكلام، فنقل متصرفًا ومضيفًا عن رسالة أبي بكر محمد الحضرمي المرادي
القيرواني "الإيماء إلى مسألة الاستواء" وقال: "باب اختلاف الناس في الاستواء وذكر الصحيح من ذلك.
والمحفوظ من ذلك
الدائر بين أهل العلم عشرة أقوال:
الأول: قول الشيخ أبي
الحسن الأشعري رضي الله عنه قال: أثبته مستويًا على عرشة وأنفي كل استواء يوجب
حدوثه، فجعل الاستواء في هذا القول من مشكل القرآن الذي لا يعلم تأويله على
التفصيل. [وهذا قولٌ المفوضة]
والثاني: قوله إنه
فعل في العرش فعلًا سماه مستويًا. [وهذا قولٌ للمفوضة]
والثالث: ذهبت إليه
طائفة من الناس وهو أن الاستواء صفة فعل وهذا هو القول الذي قبل هذا أو دونه
بيسير. قال الشبلي والجنيد بذلك.
والرابع: أن الاستواء
بمعنى العلو بالعظمة والعزة، وأن صفاته تعالى أرفع من صفات العرش على جلالة قدره،
وهو قول أبي جعفر السمناني وأبي منصور رضي الله عنهما. [وهذا هو قول من يؤول العلو
بعلو المكانة]
والخامس: أنه سبحانه
قهر العرش على عظمته واتساع حرمه، فتضمن ذل القهر والغلبة لما كان من دونه وهذا
قول أبي المعالي... [وهذا تأويلٌ من
تأويلات المؤولة]
والسادس: قول الطبري
وابن أبي زيد والقاضي عبدالوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه وهو ظاهر بعض
كتب القاضي أبي بكر [أي الباقلاني] رضي الله عنه وأبي الحسن [أي الأشعري]،
وحكاه عنه - أعني عن القاضي أبي بكر-
القاضي عبدالوهاب نصًا، وهو أنه سبحانه مستوٍ على العرش بذاته،
وأطلقوا في بعض الأماكن: فوق عرشه. قال الإمام أبو بكر: وهو الصحيح الذي
أقول به من غير تحديد ولا تمكين في مكان[23]، ولا كون فيه ولا مماسة.
قلت: هذا قول القاضي
أبي بكر في كتاب تمهيد الأوائل له. وقد ذكرناه، وقاله الأستاذ أبو بكر بن فورك
في شرح أوائل الأدلة، وهو قول ابن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من
الأندلسيين، والخطابي في كتاب شعار الدين وقد تقدم ذلك.
والسابع: قول القدري
أنه قدر على العرش، قال: والفرق بين هذا القول وقول أبي المعالي رضي الله عنه أن قول أبي المعالي تحصل منه صفة
فعل وهو القهر، وقولهم يخرج منه صفة ذات وهي القدرة.
والثامن قول المجسم:
أنه سبحانه على العرش بمعنى استقرار الكائن في المكان سبحانه عن ذلك.
والتاسع: قول لقوم لا
يلتفت إليهم قالوا: المرا بالآية الملك، والمعنى: الرحمن على الملك مستوٍ بمعنى غالب
وقاهر. وهو عندي قريب ممن يقول استوى بمعنى استعلى... [وهو تأويلٌ من تأويلات المؤولة وما بعدها تأويلاتٌ أخرى]
والقول العاشر من
الأقوال: أن الوقف على (علا) و (العرش) كلامٌ مستأنف. قال الإمام أبو بكر المرادي:
وهذا مما لا ينبغي أن يحكى لاستحالته وبعد عما نقله أهل التواتر.
وقول ثاني عشر: وهو
الاستواء بعنى العلو بالغنى عن العرش وهذا فاسد...
وقول ثالث عشر: أن
المراد بالاستواء انفراده بالتدبير إذ قد استوى له جميع ما خلقه لعدم من يشاركه،
وهذا غير صحيح أيضًا لأنه يقال: انفرد
بكذا، ولا يقال: انفردت على كذا...
وقول رابع عشر: أن
المراد بالعرش جملة المملكة وهذا غير صحيح أيضًا..
وأظهر هذه الأقوال
وإن كنت لا أقول به ولا أختاره، ما تظاهرت عليه الآي والأخبار أن الله سبحانه على
عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه، هذا جملة مذهب
السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات حسب ما تقدم"[24]
فلاحظ بم عبّر عن مذهب ابن جرير الطبري وابن أبي
زيد القيرواني والقاضي عبدالوهاب والباقلاني وابن فورك والخطابي وابن عبد البر
والطلمنكي، عبر عنه بألفاظٍ واضحة لا يقبلها أدنى تأويل، وهي (مستوٍ على العرش
بذاته) و (فوق عرشه) و (ما تظاهرت عليه الآية والأخبار أن الله سبحانه على عرشه)
و(بائن من جميع خلقه) وتذكر أنه عبر عنه في تفسيره بــ (الجهة)، فهذا هو مذهب
السلف كما نسبه القرطبي وهو من هو، والعجيب أنه يخالفه بعد أن استظهره، فغفر الله
له هذه الزلة بما قدم من شهادة منصفة تخرس ألسن المخالفين.
وقد حاول أحد المعاصرين إزالة إحراجهم بهذا الكلام[25]،
فقال بأن الضمير المذكور فيما أثبته القرطبي للسلف عائدٌ للاستواء لا للجهة، ولاشك
أن هذا باردٌ ساقط، لأن القرطبي قال "بإثباتها"
في سياق كلامه عن "الجهة"
فلا السياق معه، ولا الضمير يسعفه، لأنه لو أراد الاستواء لقال "بإثباته" لا "بإثباتها".
وحاول أيضًا التشكيك
في المنقول، فذكر احتمال أن تكون الجملة مدسوسة وأنها غير واردة في نُسخ، وفضلًا
عن كونه تبريرًا لا دليل عليه، فهو أيضًا تبريرٌ ساقطٌ بارد، لإن القرطبي أحالنا
إلى كتابه الأسنى، وما في الأسنى تصديقٌ لما قاله في التفسير بل هو أصرح، أم أن
الدس طال الكتابين؟
ولو فرضنا أن الدس
طال الكتابين، فإن القرطبي ينقل في الأسنى عن رسالة للحضرمي المرادي مقرًا تقسيمه
ومبينًا رأيه في النهاية، والرسالة نقل منها الذهبي في كتابه العلو الموضع المختص
بمقالة السلف منها تحديدًا، أفكل هذا طاله الدس؟
ومن التبريرات
الغريبة أيضًا ما حاول به الكوثري دفع تصريح القرطبي بنسبة إثبات الجهة للسلف، وذلك
في قوله: " وذِكْر الجهة سبق قلم منه"[26]
وهذا لعمري تخرصٌ وظنٌ لا
قيمة له، لاسيما بعد ما ذكرناه سابقًا من إحالته لكتابه الأسنى وما نقله فيه عن
المرادي مصرحًا بمخالفة من نسب إليهم القولَ بالجهة والعلو الحقيقي.
تصريح العلماء بأن إثبات العلو الحقيقي قولٌ ثانٍ للمتكلمين:
من العلماء الذين ذكروا بأن إثبات العلو الحقيقي قولٌ ثانٍ للمتكلمين:
1- عبدالقاهر البغدادي، حيث قال: " ومنهم من قال: إن استواءه على
العرش كونه فوق العرش بلا مماسة، وهذا قول القلانسي وعبدالله بن سعيد"[27]
2- القاضي عياض، حيث قال: "لا خلاف بين المسلمين قاطبة
-محدِّثِهم وفقيههم ومتكلمهم ومقلدهم ونُظَّارِهم- أَنَّ الظواهر الواردة بذكر
الله فى السماء كقوله: {ءأمنتم مَّن فِي السَّمَاء}، أنها ليست على ظاهرها، وأنها
متأولة عند جميعهم، أما من قال منهم بإثبات جهة فوق لله تعالى من غير تحديد ولا تكييف من دهماء[28]
المحدثين والفقهاء، وبعض
المتكلمين منهم، فتأول (في السماء) بمعنى (على)" [29]
هذا
ما ورد في طبعة كتاب القاضي عياض، وفيه سقطٌ أثبته غيرما واحد، فمنهم أبو عبدالله
الأبي، والذي نقل كلام القاضي كالتالي: "لم يختلف المسلمون في تأويل ما
يوهم أنه تعالى في السماء كقوله تعالى {ءأمنتم من في السماء} ثم من صار من دهماء
الفقهاء والمحدثين وبعض متكلمي الأشعرية وكافة الكرامية إلى الجهة، أوَّلَ (في) بـ
(على)"
بل
نقل حادثةً جرت في مجلس تضمنت ذكر موقف القاضي عياض ونقله، فقال: "فاتفق
أن نقل كلام القاضي هذا بعض الطلبة، فأنكره جميع أهل المجلس، فأتى الطالب بالإكمال
من الغد وقرىء بمحضر الجميع، فكلهم أنكروه وربما قال بعضهم: الله حسيبه فيما
نقل"[30]
كما
نقل ابن عرفة كلامَ القاضي عياض متضمنًا التصريح بنسبة المقالة لبعض متكلمي
الأشعرية[31] فقال: "تأمل
ما تقدم من جعل (الإرشاد) القول بالجهة ملزومًا للكفر... مع نقل (عياض) في أواخر
كتاب الصلاة من (الإكمال) في حديث قوله صلى الله عليه وسلم للجارية (أين الله) ما
نصه: الظواهر الواردة بذكر الله في السماءكقوله تعالى (ءأمنتم من في السماء)
أوَّلها من قال بإثبات جهة فوق له تعالى -من غير تحديد ولا تكييف- من دههماء
المحدثين والفقهاء وبعض المتكلمين من الأشعريين والمشبهة بمعنى (على)"[32]
ثم
أنكر ابن عرفة ذلك على القاضي عياض وقال: "فعزا [أي القاضي عياض] ما جعله الإمام [أي
الجويني] ملزومًا للكفر إلى من ذكر من الأشعرية وغيرهم. وما أدري على ما اعتمد في
نقله هذا!"
وذكر
بعدها أن بعضهم احتج عليه بكلام القاضي عياض وختَمَ قائلًا: "وأعوذ بالله من زلة العالم قولًا
ونقلًا." وقد أنكر كلام القاضي عياض
البُرزُلي المالكي وسيأتي كلامه عند نقل كلام ابن حجر.
وكذلك
نسب الكوثري للقاضي عياض ما ذكرناه، وأنكره عليه فقال: "إنما ذكر القاضي عياض من صار من الدهماء إلى
القول بالجهة، وأين في ذلك نسبة ذلك إلى الدهماء؟... وقول القاضي عياض ليس يشمل
المشارقة حيث لم يرحل إلى الشرق؛ وإنما قوله بالنظر إلى معنى كلام بعض الفقهاء
والمحدثين والمتكلمين من أهل بلاده من أصحاب الطلمنكي وابن أبي زيد وأبي عمر...
وأما تأويل القائلين بالجهة ما يوهم كونه (في) السماء بمعنى (على) السماء، كما ذكر
القاضي عياض، فلا ينجيهم من ورطة التجسيم"[33]
ومرادي
مما سبق إثبات ما ورَدَ عن القاضي عياض، إذ ربما احتجَّ بعضهم بسقوط موقف القاضي
عياض في نسبة هذا القول لعامة الفقهاء والمحدثين وبعض الأشعرية في الطبعة
الموجودة، مع كونها نسبةً منقولة مشهورة.
3- القرطبي والمرادي فيما نقلنا سابقًا.
4- ابن بزيزة
التونسي، حيث قال: "ثم يجب بعد ذلك التنبيه إلى مغلطة: ذهب القلانسي من
مشايخ الأشعرية إلى إطلاق القول بأنه تعالى في مكان دون مكان، وأنه في السماء
تمسّكًا بظاهر ما ورد في الشرع."[34]
5- ابن حجر الهيتمي:
فبعدما نقل المذهب الأول -وهو مذهب المانعين من إطلاق جهة الفوقية- قال في ذكر
المذهب الثاني: "والمذهب
الثاني: جواز إطلاق فوق من غير تكييف ولا تحديد نقله أبو المعالي إمام الحرمين في
الإرشاد عن الكرامية وبعض الحشوية، ونقله القاضي عياض عن الفقهاء والمحدثين
وبعض المتكلمين من الأشعرية، قال الإمام البرزلي المالكي: وأنكر عليه شيخنا
الإمام نقله عن بعض الأشعرية إنكارا شديدا، وقال: لم يقله أحد منهم فيما علمته
واستقريته من كتبهم، وسمعته يقول القاضي ضعيف في علم الأصول ويعرف ذلك من تأليفه...
وحكاه ابن بزيزة في شرح الإرشاد عن القلانسي من مشايخ الأشعرية وعن البخاري
وغيره، غير أن هذا محدث، واختار هذا المذهب ابن عبد البر في (الاستذكار)... وهو
ظاهر كلام الشيخ أبي محمد بن أبي زيد في رسالته."[35]
ثم ذكر كلام العز بن
عبدالسلام الذي نقلناه سابقًا في التأكيد على أن الظاهر من كلام القيرواني إثبات
الجهة وأن مثبتها لا يكفر، وقد تكلم ابن حجر بعدها في تكفير أصحاب المذهب الثاني هذا، وأن تكفيرهم مسألةٌ خلافية،
وأذكر هذا هنا لأن متأولًا قد يتمحل في دفع كلام أصحاب المذهب الثاني هنا لحرفه
إلى مقالة أهل التفويض كي يقبل بعدها كونه مذهبًا ثانيًا قال به أئمةٌ له، مع أن
ابن حجر واضحٌ في كلامه وقد فرق بين مقالة المفوضة وبين مقالة أهل هذا المذهب،
وذكر أنها مقالة للكرامية والحشوية كذلك، ثم ذكر الخلاف في تكفير القائلين بها،
فليست مقالةَ المفوضة قطعًا، وليست مقالةً مقبولة عندهم، بل هي مستلزمةٌ للتجسيم
والحدوث وغير ذلك مما يزعمونه.
6- الغرسي، حيث قال:"هذا
ما عليه السلف من أهل السنة والجماعة، وهو مذهب الغمام الأشعري ومتقدمي أصحابه كما
قدمنا نقله عنهم. وأما المتأخرون من الأشاعرة فقد أثبتوا العلو بمعنى علو المكانة،
والفوقية بمعنى فوقية الرتبة فقط، ونفوا العلو والفوقية بالمعنى الذي أثبته السلف
من أهل السنة، وهم في ذلك متأثرون بالمعتزلة"[36]
والنصوص كثيرة عند
غير هؤلاء[37]،
ولكنني أوردت هذه النصوص وناقشتهما لأهميتهما عند المخالف، ولكون نقاشها تطبيقًا عمليًا
لمنهجية استنباط عقيدة المؤلف من كلامه ودفع التأويلات الممكنة التي يتكلفها من
يقتاتون على التأويل، كما أن فيها ما يثبت مواطن الخلاف بين أهل السنة ومخالفيهم
من معتزلة وجهمية، وأنها كانت معركة حامية مستعرة بين أهل السنة وبين هؤلاء لإثبات
هذه المعاني التي يجحدها متأخرو المتكلمين.
فإن كان هذا كلام من
ذكرنا من متقدمي المتكلمين يتوارد على حقيقةٍ واحدة، فماذا يبقى للمؤول المعاند؟ فكيف بي
لو نقلت كلام السلف الذي جمعها في كتب أمثال اللالكائي والآجري والذهبي وابن القيم
وغيرهم؟
[1] نقله شيخ
الإسلام عن ابن فورك الذي نقله نصًا عن ابن كلاب في كتابه الصفات (الدرء (6/193)
ولا أظن أحدًا يزعم أن ابن تيمية اخترع كل هذا الكلام من رأسه ونسبه لكتاب ابن
فورك، أو أن تلاميذه إنما أخذوه منه بتقليدٍ أعمى دون أن يكونوا قرأوا ما قرأه، ثم
حاجوا به المخالفين بوثوقية بالغة وتحدٍ واضح وهو اختلاقٌ محضٌ يجيزون به
لمخالفيهم أن يسقطوا عدالتهم وأمانتهم العلمية وأن يفضحوهم في العالمين إن كان
كذلك، لاسيما وأن لابن تيمية وأصحابه أعداء كانوا أولى بتكذيب هذا الكلام من أي
أحدٍ يتجرأ على تكذيبه من المتأخرين، وأحد ألد أعداء ابن تيمية تكلم في عقيدة ابن كلاب في بعض دروسه
على اليوتيوب، ونقل عن ابن فورك بواسطة ابن تيمية ولم يكذبه ولله الحمد، لاسيما وأن نقل ابن
تيمية وابن فورك نقلٌ حرفيٌ لا نقلٌ بالفهم.
[2] فهم القرآن
(346-356)
[3] رسالة إلى
أهل الثغر (232-234)
[4] تأويل
الآيات المشكلة (150)
[5] العجيب أنهم
كانوا ينزهون الباقلاني عن أن يقول هذا الكلام، ورموا من نسب إلى الباقلاني هذا
الكلام بالكذب أو النقل عن غير كتابه، فقد ذكر الشيخ عبدالرحمن المحمود " أن
محققَي إحدى طبعات التمهيد –الناقصة- (وهما الخضيري وأبي ريدة) قد ارتكبا جرمًا
بتجنيهما على شيخ الاسلام وتلميذه ابن القيم عندما كذباهما في هذا العزو
للباقلاني! وتابعا شيخهما الكوثري في قوله لهما: (لاوجود لشيء مما عزاه ابن القيم إلى
كتاب التمهيد في كتاب التمهيد هذا ، ولا أدري ما إذا كان ابن القيم عزا إليه ما
ليس له زورًا ليُخادع المسلمين في نحلته، أم ظن بكتاب آخر أنه كتاب التمهيد
للباقلاني)! فقالا بتبجح: (نحن نثق على كل حال بنسخة التمهيد التي بين أيدينا ثقة
أقوى من ثقتنا بنقل ابن تيمية وابن القيم)!!
ثم يشاء الله أن يُطبع "
التمهيد " للباقلاني طبعة كاملة بتحقيق رجل نصراني ! وفيه الفصل الذي عزاه
إليه شيخ الإسلام وتلميذه ! ولله الحمد .
أما المحقق الآخر لإحدى طبعات
" التمهيد " ؛ وهو المدعو عماد الدين حيدر فقد قام بحذف هذا الفصل الذي
يُثبت فيه الباقلاني صفة العلو لله عز وجل ! لأنه لا يوافق مذهبه الأشعري الخلَفي
. نسأل الله العافية من الخيانة وقلة الأمانة."
نقلًا عن:
موضوع في منتدى أهل الحديث
للشيخ سليمان الخراشي بعنوان: انحرافات أهل التحقيق.
[7] شرح عقيدة القيرواني
للقاضي عبدالوهاب (26-27)
[8] اجتماع الجيوش الإسلامية (2/156) و (2/187)
[9] السيف
الصقيل (91)
[10] الهداية (7/4610)
[11] الجامع في
السنن والآداب والمغازي والتاريخ (108)
[14] الفتاوى
الحديثية (111)
[23] وقد بينا أن
المكان في عرفهم هو الوجودي، فنفي المكان لا يعني نفي العلو الحقيقي، أقول هذا كي
لا يتحذلق متحذلقٌ ويستدل بنفي المكان على أن العلو هنا مفوضٌ أو مجازي
[24] الأسنى في
شرح الأسماء الحسنى (2/122-132)
[25] نقل هذه
المحاولات عنه تلميذه في منتدى الأصلين:
http://www.aslein.net/archive/index.php/t-780.html
[26] السيف الصقيل (88)
[27] أصول الدين
(113)
[28] الدهماء: عامة الناس وجماعتهم.
[29] إكمال
المعلم بفوائد مسلم (2/465)
[31] ويبدو أنه مما أزالته الأيادي من كتاب القاضي، ولكن حفظه لنا إنكار من
أنكره عليه من الأشعرية ولله الحمد.
[32] المختصر الكلامي (723-724)
[34] الإسعاد في
شرح الإرشاد (225)
[35] الفتاوى
الحديثية (111)
[36] عقيدة الإمام الأشعري أين هي من
عقائد السلف (196-198) وتتمة كلامه مهمةٌ جدًا في تأكيد ما ذكرناه، وفيها يقول: "ثم إنه لا ريب
فيه ولا ينبغي أن يختلف فيه اثنان أن ما وراء العالم فوقٌ لبي آدم كلهم بحسب
العرف، كما أنه فوق لهم بحسب الوهم، لأنه مقابل لرؤوسهم، كما أن الأرض
تحتٌ لهم لأنها مقابلة لأرجلهم، وإن لم يكن ما وراء العالم فوقًا لهم بحسب التحقيق
والتدقيق الفلسفي، لانقطاع الجهات بانقطاع العالم، والعرف هو الذي يقع به التخاطب
في اللغة بين أهلها دون التدقيقات الفلسفية، والله تعالى بائن من خلقه، فهو
فوقه بحسب العرف، فالفوقية العرفية والوهمية تؤولان إلى البينونة التي أثبتها
العلماء لله تعالى، فالمعبر عنه بالبينونة في كلام العلماء هو المعبر عنه بالفوقية
والعلو أو بما يفيدهما في كلام الشارع. وبهذا المعنى أثبت السلف العلو والفوقية
لله تعالى، كما قال الإمام أبو الحسن الأشعري فيما نقله البيهقي: (وأنه فوق
الأشياء بائنٌ منها) ومن أجل ذلك لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الجارية
إشارتها إلى فوق. وبهذا المعنى جاء إثبات العلو والفوقية لله في نصوص الكتاب
والسنة مما يصعب حصره، وهذه النصوص وإن كان حمل بعضها على الفوقية بحسب المكانة،
والعلو بحسب الرتبة مما لا بأس به، لكن حمل بعضها الآخر على ذلك، أو نقول: حمل هذه
النصوص البالغة الكثرة كلها على ذلك مما يأباه المقام والسياق، كما تأباه طبيعة
اللغة العربية... ثم إن الفوقية بهذا المعنى مركوزة في فطرة بني آدم، لا
يستطيع أحدٌ منهم أن يتخلص من الشعور بها مهما حاول التخلص من هذا الشعور، ومهما
اعتقد خلافه. وليت شعري لماذا خص العلماء المشكلة بحديث الجارية، وما من أحد من
المؤمنين بالله تعالى إلا وهو على حال الجارية وعلى مذهبها، لا يقول أحد من
المؤمنين الله، إلا وهو يشير إلى فوق إما بإحدى جوارحه أو بقلبه. وقصة الهمداني
مع إمام الحرمين الجويني ليست ببعيدة عنا، وإن انتقدها بعض متأخري
الأشاعرة" اهـ
[37] وقد جمعت مثلًا ما قاله
الطبري رحمه الله في العلو وغيره من مسائل العقيدة تحت عنوان: "الطبري السلفي : بحث في عقيدة الإمام الطبري كما ظهرت
في تفسيره جامع البيان" وهو في مدونتي على الشبكة.