الأربعاء، 8 أكتوبر 2014

الوحدانية... ضرورة عقلية لا مرحلة زمنية


"النتيجة العامة التي انتهت إليها اللجنة من البحث في أربعة آلاف من الآلهة في الهند هي أن كثرة الهنود الغالبة تعتقد عقيدة راسخة في كائن واحد أعلى "
قصة الحضارة - ول ديورانت

 لا زلنا نواجه باحثين تسيرهم حمولة فكرية ثقيلة، تؤزهم إلى استنتاجاتهم أزًا، مفكرين يحاولون بعد تبنيهم نظرية التطور الدارويني أن يجرّوا تطورهم إلى الأديان، لتشعر وأنت تقرأ لهم وتتابع برامجهم ويصطبغ عقلك اللاواعي -والواعي- بما يريدونه منك في إعلامهم= بشعور من فاته ركب الحضارة، وأن عليك أن تتطور وتدع تخلفك في حقبة التدين لتلحق بهم إلى حيث تجري بهم أهواؤهم راكبًا سفينتهم إلى حقبتهم الحديثة، فيكون مآلك أن تغرق معهم في بحر الجهل والظلمات وجحد الضروريات، وأن تنتحر عقليًا كمقدمة لانتحار حقيقي عادةً! 
فمما تبنوه حقيقةً –بدوغمائية لا تقل عن تلك التي وسموا بها العقلاء– أن الدين تطور وترقى بشكل مرحلي، ومن نظرياتهم في هذا التطور= قولهم إنه تطور من مرحلة بدائية سمتها تعدد الآلهة والوثنية أو عبادة الأرواح أو عبادة أسباب مظاهر الطبيعة المتكثرة -على اختلاف بينهم في حبك منشأ خرافتهم- وأن هذا التوحيد كان غائبًا عن البشرية حتى وقت قريب، ثم ظهر التوحيد لينقذ الموقف، ويرتقي المسرح بديلًا عن تلك المرحلة الأولى مناهضًا لها وابنًا عاقًا لأبيه، نتج عنه ثم تنكب له، فكان هذا التوحيد عندهم مرحلةً يجب أن ترتقي منها البشرية إلى تصفير عداد الآلهة، وفي هذا المقال، لا أتطرق للبحث التاريخي في هذه القضية، فهو من تخصص علماء التاريخ والأنثروبولوجيا، وشهادة أفذاذهم كلانج وماكس مولر وستيفن لانقدون وشميدت وآرثر كوستانس وإدوين أوليفر وغيرهم كافية في مخالفة هذه النظرية ونصرة القول بأن التوحيد ومقالة الكائن الأعلى هي الأصل، وأن الوثنية هي الانحراف، وأنها نتيجة نصب الجاهليين صفات الله أو الملائكة أو بعض أسباب مظاهر الطبيعة آلهةً عبدوها من دون الله وجعلوها إليه وسائط بشُبَهٍ ما أنزل الله بها من سلطان، ولكنني سأتطرق لأحد الأدلة العقلية في إثبات الوحدانية، ولن أتطرق معه إلى تلك الأطروحات المتهافتة التي تشكك في العقل وأولياته وتخضعها لذات التطور البيلوجي الذي زعموه، وسأنطلق من الضرورة القائلة إن أوليات العقل هي هي في كل زمان ومكان وحال، وأن دعوى التطور أيًا كان مصداقها في الخارج فإنها لا تعني تغير الحق والبدهيات اللازمة لتعقل الوجود.

لقد تعددت أدلة إثبات وحدانية الله سبحانه بين طوائف المثبتين لوجوده، وتكلم فيها المتدينون فرعًا عن إثباتهم أن لهذا العالم ربًا أزليًا خالقًا مطلق القدرة والعلم والإرادة، وتقدمةً للكلام في إثبات النبوة والنص.
فقد ذكر قوم أنهما -النبوة والنص- يثبتان من غير حاجة لإثبات الوحدانية أصلًا، وقد يستدل بالنص بعدها على الوحدانية.
واكتفى آخرون في إثباتها أيضًا بما يقفز إلى ذهن الإنسان فطرةً،
الفطرة التي تدفع كل ناظر في هذا العالم المتسق بنظام لا تتخلف سننه إلى أن يعتقد وحدانية خالقه ومسيره
وإلى أن فرض إلهين لهما حق الربوبية والعبادة يلزم منه التنازع وفساد العالم،
فالرب المستقل بهذا الحق= كامل لا يرضى منازعته حقه الخاص بحقيقة وجوده، فإن رضي بالنزاع فهو ناقصٌ أو غير مستقلٍ بحق هذا الكمال وهو نقصٌ آخر لازم.
فلو وجد مستحقان للربوبية (لابتَغَوا إلى ذِي العَرشِ سَبِيلا)،
وبتنازعهما في هذه الأحقية ونتيجةً لاختلاف إراداتيهما وتمايزها مع تأثيرهما في محل واحد = ينتج الفساد (لَو كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا الله لَفَسَدَتا) وهو خلاف المشاهد 
واستُدِلَّ أيضًا بتواتر شهادة الأنبياء الذين ثبتت نبوتهم بآيات بينات: أن الإله واحد وأنه مرسلهم دون أن ينازعه في دعوى الألوهية أو في إبطال آيات أنبيائه إله آخر.
وإضافةً لما سبق فقد أثبت وحدانية الله بأدلة عقلية أخرى عددٌ من الفلاسفة كسقراط وأفلاطون وأرسطو واكزينوفان فضلًا عن المليين والمسلمين منهم تحديدًا، فالكندي ومن تبعه -كالفارابي وابن سينا- وبعض المتكلمين -كالرازي ومن تأثر به- استدلوا بدليل التركيب، وهو أن إثبات ربين واجبي الوجود يستلزم وقوع الاشتراك والامتياز بينهما، وأن يتركب كل منهما مما به اشتركوا في الربوبية ومما به يقع التغاير بينهما، مما يعني عدم كون أحدهما واحدًا بالذات ونقض ربوبيتهم جميعًا، وبمثل هذا استدل أرسطو قبلهم -بلزوم التركب من جنس به يقع الاشتراك وفصل به تقع المغايرة-، وهذا دليلٌ فاسدٌ أورثهم لوازم في إثبات الصفات وفي غيرها.
وهناك مقاربات أخرى حاولها الفلاسفة والمتكلمون ولم يخل شيء منها من مقال واعتراض واستدراك، كما ألزمتهم لوازم قبيحة في باقي مسائل الاعتقاد كالدليل الأخير.
ولكن كان فوق تلك المحاولات دليل هو أبرز الأدلة في إثبات الوحدانية عقلًا، وهو: دليل التمانع، وهذا الدليل :
١- أداته سبر وتقسيم منحصر
٢- تبطل أقسامه بقطعيات العقل
٣- نتيجته قطعية عقلية

والدليل يظهر في جواب سؤال:
لو فرضنا إلهين مطلقي القدرة، واختلفا كأن يريد أحدهما مثلًا إحداث العالم ولا يريده الآخر، من سيغلب ؟
عندنا احتمالات ثلاث لا رابع لها:
١- إن قلنا (لن يغلب واحدٌ منهما) كان هذا انتقاصًا لقدرتهما كليهما، فكلاهما عجز عن إنفاذ إرادته، وهو أيضًا جمع بين نقيضين (أن يوجد العالم وأن لا يوجد)
٢- وإن قلنا (كلاهما سيغلب) لزم الجمع بين النقيضين كالأول.
٣- وإن قلنا (غلب الأول وأحدث العالم المشاهد في الواقع)= كان هو اللإله المطلق القدرة والإرادة وكان الثاني ناقصًا مفتقرًا إليه لا يملك إنفاذ مراده إلا إن سمح له الأول وأعانه فهو تابعٌ له كما سيتبين أكثر فيما يلي.
و لربما يرى مسفسط أن الجمع بين النقيضين -كوجود الشيء وعدمه- أمرٌ جائز، ولكن المقال يخاطب العقلاء ممن يمنع أن تلد المرأة أمها أو ينجب الشخص أباه!
وقد يجادل من هو أقل سفسطة بأنهما –الإلهين المفروضين- قد يلزمان التوافق فلا يختلفان -لاتفاقهما في الحكمة مثلًا- فنقول :
الكلام في فرض أنهما اختلفا لا في وقوعه، واختلافهما جائز، وما كان لازمه تجويز المحال فهو محال. 
فإن قيل إنهما لا يقدران على الخلاف وإن أراداه، كان كلاهما عاجزًا وبطلت ألوهيتهما كليهما.
فإن قيل: قد يلزمان الوفاق لوجود ما يمنعهما من الاختلاف، كما لا يريد زيد خلاف ما يريد عمرو لكونهما مؤتمران بأمر سيف.
فنقول: هذا إن جاز في مخلوقين، فإنه لا يجوز في الإلهين المفروضين، فتَأثر أحدهما أو كليهما بسبب خارجي ينقضُ فرض ربوبيتهما، ويكون السبب الذي منعهما من الاختلاف هو الإله المطلق، ومن أين لهما هذا التدخل الخارجي ونحن نفرضهما أزليين لا أحد معهما أو فوقهما في التأثير؟
ولعل أحدهم يقول : ما الذي يمنع من وجود احتمال رابع لم نحط به؟
فنجيب : هذه قسمة عقلية قائمة على النفي والإثبات وتدور بين وجود وعدم –سبر وتقسيم منحصر- ، فالعالم موجود، ولا بد له من محدث بأدلة إثبات الخالق اليقينية المعروفة، والمحدِث واحدٌ أو أكثر، ولنفرض أقل الكثرة هنا ونفرضهما اثنين، وبالتالي: إما أنهما أوجداه سوية أو لم يوجداه سوية.
فهي قسمة منحصرة، كما لو قلنا: رُكلت الكرة بدليل الحس اليقيني، راكلها واحدٌ أو أكثر، فإن كانوا أكثر من واحد فإما ركلوها معا أو لم يركلها أحدٌ منهم أو استقل أحدهم بركلها.
فهي قسمة حصرية عقلية، وكذلك الأمر هنا، ومن ينازع في حصر احتمالات المثال ينازع في حصر احتملات الدليل وهو مسفسط.
بالتالي: إما نفاذ مراد أحدهما أو كليهما أو لا أحد منهما، وإنك عقلًا لا تتصور خروج شيء عن هذه الاحتمالات.
فإن قيل: القسمة منحصرة، ولكن إبطال الأقسام ظني ولعل بعض ما أبطلناه صحيح؟
أجبنا: بل أبطلناها بقطعيات العقل الضرورية –امتناع الجمع بين النقيضين- فدل ذلك على امتناع وجود إلهين متكافئين، وأنه لابد من وجود إله يعلو على الآخر قدرةً وإرادة، والثاني دونه فيهما، ويلزم عن هذا أن هذا الثاني مخلوق للإله الأول وليس بإله في نفسه.
فإن قيل: كيف هذا؟
قلنا: لأنه إن جاز أن يمنع الإله التام القدرة الثاني الذي هو دونه في أمر، جاز أن يمنعه في كل أمر، فصارت إرادة الثاني مشروطة بأن يأذن له الأول، ومن كانت قدرته مفتقرة إلى غيره افتقار المشروط إلى شرطه الذي يسبقه= لا يكون مطلق القدرة، والمسبوق بشيء لا يكون قديمًا فلابد وأن يكون وجوده حادثًا بعد عدم، كما أن الإحراق يكون بعد وجود الأوكسجين، وكما أن الخطوة الثانية تكون بعد الأولى، فكل ما هو مشروط بشيء، يكون مفتقرًا إلى شرطه المؤثر فيه وحادثًا بعده، فيمتنع وجود إله أزلي قدرته مشروطة بإله آخر ومفتقرة إليه، فكل ما عدا الإله الخالق الكامل= مخلوقٌ مفتقرٌ إليه، ولا إله سواه سبحانه.
و في الدليل الذي حررناه رد على من قال بأن العبد يخلق فعله، وعلى من يدَّعي اكتفاء مكونات الطبيعة بنفسها، وعلى من ينكر افتقار العالم إلى رب يدبره، فيدعي أنه صار بعد خلقه مسيرًا بقوانين مستقلة عن خالقها، فنفرض لمن زعم ذلك أن الله أراد مخالفة قانون منها، ونجري الدليل السابق ليظهر افتقارها إليه في بقائها كما افتقرت إليه في وجودها ابتداءً، فهو دليل يهدم أي دعوى تدعي وجود أكثر من مكتفٍ بذاته مستقلٍ عن غيره  خالقٍ لموجود سواه، وأن هذه الصفات لا تكون إلا لواحدٍ أحدٍ قادرٍ مريدٍ لا إله إلا هو.





والدليل -رغم بداهته- قصدنا إلى التفصيل فيه بلغة مبسطة لتقريبه إلى القارىء وللإحاطة بأبرز ما دار حوله من جدليات، وهو دليل تضمنه قوله تعالى (وَمَا كانَ مَعَهُ مِن إلهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُ إلهٍ بِما خَلَق وَلعَلا بَعضُهُم عَلى بَعض) فلا بد أن يعلو أحدهما بقدرته على الآخر ويمتنع التكافؤ، ونجد القرءان مع هذا اللازم يتطرق إلى لازم آخر (لذَهَبَ كُلّ إلهٍ بِما خَلق) فلو فرضنا أنهما متكافئا القدرة ومستقلان، للزم  استقلال كل إله بمخلوقاته، لم؟
لأنهما إن لم يستقلا واختلطت مخلوقاتهما وعاون كل منهما الآخر= كان كل واحد منهما غير تام القدرة ومحتاجًا إلى من يعينه، فلزم أن ينفرد كل إله بمخلوقاته فلا تختلط ولا يكون لها بمخلوقات الآخر أي علاقة يلزم منها التعاون والاشتراك فيما يربط بين مخلوقيهما.
فإن استقلا، أيمكن وجودهما؟
إن استقلا بمخلوقاتهما ولكن جوزنا قدرة أحدهما على التأثير في مخلوقات الثاني، كان كل واحد منهما غير مستقل بمخلوقاته خلافًا لما فرضناه، وكان غيره قادرًا عليها معه، وشملهما بذلك دليل التمانع بأن نفرض إرادة أحدهما تدبيرًا في مخلوقات الثاني على خلاف إرادته، ولهذا نجد الآية ذكرت اللازمين متصلين، فيلزم أن يذهب كل إله بما خلق، وإن ذهب، لزم أيضًا أن يعلو بعضهم على بعض، وكلا الأمرين باطل.
فإن قيل : يؤثر أحدهما في مخلوقات الثاني بإذنه ورضاه؟
قلنا : نرجع إلى دليل التمانع ونفرض أنه لم يأذن واختلفا، فيظهر البطلان، فإن قيل: يمتنع الاختلاف، قلنا: منع الاختلاف نقص وتعجيز لهما.
فإن جاء بعدها أحدهم وقال: حسنًا، ذهب كل إله بما خلق فكان لكل إله عالمه الخاص، ولم يؤثر أحدهما في مخلوقات الثاني، أين الإشكال؟
قلنا: هذا منقوض بدليل التمانع أيضًا فنسأل: هل يجوز أن يريد إله تغيير شيء في عالم الإله الثاني أم لا؟ إن قيل "نعم" دخلنا في الاحتمالات الثلاث التي يلزم منها نفوذ إرادة أحدهما وكون الثاني مفتقرًا مربوبًا لا ربًا، وإن قيل "لا"، تكون إرادتيهما محدودة فكلاهما عاجز عن إرادة تغيير شيء من مخلوقات الثاني، وليس واحدٌ منهما تام القدرة والإرادة، كما أن هذا اللازم خلاف ما هو واقع في الخارج، من ارتباط العالم ومن كون كل شيء فيه مفتقرًا إلى غيره، وأنك كيفما تصورت العالم لم تتصوره إلا مجموعة أمور تؤثر وتتأثر في نفس الوقت، وأن لا شيء فيه يستقل عن شيء آخر استقلالًا تامًا يقتضي كون خالق الأول مستقلًا عن خالق الثاني، بل مجموع ما في العالم يرجع إلى قوانينَ وسننٍ كبرى هي في نفسها تؤثر وتتأثر وتتصل ببعضها من غير استقلال، ولا بد لها من مدبر مفعّل يخرجها من حيز القانون النظري إلى ظرف التأثير الكوني، بل ها هم يبحثون عن القانون الأوحد الذي يجمع هذه القوانين، فعود الكثرة إلى الواحد مما فطرت عليه العقول التي لم يطمس نورها الجهل والتقليد.

وهذا البرهان وغيره من البراهين تضمنها القرءان بأوجز عبارة وأدلها على المطلوب، بعيدًا عن تشقيق الاحتمالات البعيدة المكررة المعنى المختلفة الألفاظ، وفعلنا ذلك هنا دفعًا لأي استدراك، إضافة لكونه لم يكتف بالتدليل على وحدانية الخالق سبحانه في ذاته وأفعاله وصفاته، بل أسس على هذه الوحدانية= بُنيانَ التوحيد العبادي، ودعوة الأنبياء والمرسلين، فكما أن كل مخلوق يتحرك بالإرادة، ولا بد له من مراد وسعي في تحصيل هذا المراد بأسبابه، وكما ثبت أن الرب الخالق مسبب هذه الأسباب ومنتهاها الأول الآخر= واحدٌ سبحانه في ذاته -كما أثبتنا أعلاه-، لزم أن يكون الله هو المُراد لذاته المطلوبُ بالتأله، الواحدُ الذي ليس فوقه أحدٌ عز وجل، وهو المُعين بذاته استقلالًا على هذا المُراد لذاته وعلى كل مُراد.
فهنا أمور نرتبها وهي:
١- الإنسان مريد بالضرورة.
٢- مسبب الأسباب واحد بدليل الوحدانية وبطلان التسلسل.
٣- المُرادات كثيرة وإما أن تراد لذاتها أو تكون أسبابًا لغيرها، ولو بقيت تُسأل: لم تفعل كذا ويعاد عليك السؤال في جوابك، ستصل إلى نهاية لا جواب لها إلا (الله)
٤-  فهو المراد لذاته سبحانه لأن كل ما عداه سبب لمطلوب فوقه، إلا مسبب الأسباب الذي ليس فوقه أحد، فلا يراد سواهُ ولا يُطلب إلاه، لافتقار كل من عداه إليه في علاه.

أيضًا: بما أن كل مراد سواه إنما هو مراد لغيره وكل مخلوقاته مرادة لغيرها وأسباب غير مستقلة في تحصيل المطلوب، فهو وحده المستحق للتذلل والخضوع المتجاوزين لحدود الأسباب الطبيعية -التي تراد لغيرها ولا تعين بذاتها- فلا يُصرَف هذا النوع من الخضوع و التذلل إلا لله -المراد لذاته والمعين بذاته- المستحق الوحيد للعبادة سبحانه دون ما عداه مما يفتقِرُ إليه أصلًا وبقاءً، ويعبُدُه حالًا أو مقالاً، ولا يملك من دونه ضرًا ولا نفعًا.
فعبادة غيره وصرف أنواع التذلل  والخضوع الغيبية المتجاوزة لحدود تسببنا الحياتي المعتاد المعقول المعنى إلى غيره سبحانه= ظلمٌ وسفه، فلا يُطلب تجاوز الأسباب إلا من مسببها وإن طلبت من غيره كان ذلك شركًا وكذبًا في العقل والواقع والفطرة، وانتكاسًا يتجاوز انتكاس طلب الأسباب القبيحة التي رغم قبحها= توصل إلى المطلوب، فطلب ما لا يوصل إلى المطلوب بل يقتضي النقيض ويُغضِبُ المطلوب لذاته سبحانه -لما تضمن من سبه ونسبة الشريك له في خصائصه وتفرده بالعلو على الأسباب- أقبح في عقول الأسوياء.
وأيًا كانت أسباب عبادة المخلوق، فهي في الله أكمل وأعلى بما لا يُدرَكُ له حد في المباينة،
والسيد من البشر لا يرضى شراكة عبده في شيء من ملكه، فكيف يرضى الغني المستقل بملكه وخلقه أن يُدَّعى له شريك في العبادة، فيُراد كما يُراد، ويُحب كما يُحب، و يُدعا من وراء الأسباب كما يُدعا الله، إذ كما تنزه سبحانه أن تشاركه أرباب في الوجود= تنزه سبحانه أن تشاركه آلهة في العبادة.