الأحد، 21 سبتمبر 2014

أيها الملحد ... حريتك ... دليل عبوديتك !


إن من الثابت المحكم، أن السائل عن وجود الله، المهتم بتلقي الجواب، ذو وعي واختيار وحرية تفكير ومشيئة تحمله على السؤال، وإلا ما كان ليهتم بالمسألة -أو بأي شيء-، وما كان ليبحث عن جواب أو ينشىء السؤال عنه!
و حرية الاختيار والمشيئة أمر وجداني ضروري كضرورة الحس وكضرورة صدق المبادىء العقلية البدهية!
و هذه الحرية التي حيرت الفلاسفة والمتكلمين وخاض فيها البشر أحيانًا بحق وكثيرًا بباطل= لا تجد من ينكرها، ومن يدعي إنكارها -من القائلين بالجبر- تجده بممارسته للإنكار يثبتها عمليًا! وتجده لا يعمل بمقتضى هذا الجبر البتة، فلا يقبل منك صفعه أو ركله على قفاه مثلاً!
و حرية الاختيار تنافي وتناقض القولَ بإحدى الخستين :
-
وجود العالم الصدفي بلا سبب أو علة غائية.
-
وجود العالم بطبيعة مادية تحكم كل شيء بقوانين مادية حسية مستقلة عن أي تدخل غيبي.

فالأولى يلزم منها انعدام مشيئتك كما تنعدم مشيئة كل شيء واقع بالصدفة، وإلا:
أي صُدفةٍ في أمرٍ شاءَه أحدٌ ما مسبقًا؟ إن خططت لرحلة بحرية، ثم انطلقت حتى وجدت نفسك في عرض البحر، أتقول أو يقول عاقل أنك صرت هناك صدفةً؟

فسبق المشيئة والاختيار والتفكر في الفعل = يناقض صدفيته وظهوره إلى الوجود لا عن سبب أو غاية، وكونك حرًا تتردد في اختيار الفعل وتدرك ضرورةً أن فعلك لم يصدر عنك بصدفة تفاجئك بنتيجتها اللاغائية = يوجب سؤالًا مهمًا:
لم استثنيت اختياراتك التي تتخذها بنفسك بداهةً من الصدفية؟
ولم كنت أنت المميز عن باقي - المصادفات
- في الكون؟

أما الثانية: فتتناقض مع الحرية لغةً وعقلًا، فالطبيعة المادية جبرية وهي نقيضُ حرية الاختيار والمشيئة، والقانون الطبيعي الجبري معلوله ونتائجه لا تتخلف، ولابد وأن يقع بتحقق شروطه وانتفاء موانعه - الطبيعية والمندرجة في القانون الطبيعي كذلك -، فكيف يا ترى تشاء أنت الشيء؟ وتغير رأيك فيه؟ وتتقلب بك القناعات؟ قبل أن تنشىء فعلًا عن اختيار أدتك إليه خبرة الماضي، وإدراك الواقع الحاضر، واستشراف المستقبل، وآلية تفكير واتخاذ قرار حرة؟

قد يقول قائل : خياري مادي جبري بحت لأنه بني على معلومات ذهنية مأخوذة من خبرتي المادية ومشاهدتي للمادة، وقام ذهني - المادي - بترتيبها - أي الخبرة والمشاهدات- وفق قانون تفكير بيلوجي نفعي مادي، لينتج عنها اختيارًا هو نتيجة طبيعية ومادية لما سبق من الماديات؟ ثم إن كل ما في العالم محكوم بالأسباب، وكذلك أفعالنا، إلا أن تزعموا  أننا ننشئها من العدم!

وجوابنا: أن قائل ما سبق  لا يدرك بقوله مدى انحرافه عن محل البحث والسؤال الحقيقي!
فنحن لا نتكلم عن مجرد تحقق الاختيار في الخارج كتحقق أي حدث مادي نتيجة أسبابه المادية؟
و إنما نتكلم عن آليته -أي آلية اختيار الفعل الاختياري - والمشيئة وحرية التفكير التي كانت وراء إنتاجه، فالكلام في: ما الذي أعطاك حرية الاختيار وكيف كنت مختارًا ؟ فالتسوية بين اختيار الانسان وبين الورقة التي تطبعها الطابعة بكون الإنسان أنتج الفعل بعد معطيات مادية كما أنتجت الطابعة الورق بعد أن زودت بالحبر والخام اللازم أو تسويته بالبرامج الحاسوبية التي تكتب إليها بشيء فتجيبك = خارج موطن النزاع.
فقد حصل خلط بين الإنسان الشائي الحر الاختيار، وبين البرامج الحاسوبية -أو الطابعة- التي تستقبل المعطيات، فتمرها على ما برمج فيها سابقًا من معلومات قبلية، وتقيس وتقارن، وتلحق النظير بنظيره، وتخالف بين الضد وضده، وكل هذا وفق منهجية وآلية ثابتة برمجت عليها مسبقًا، لتعطي مخرجًا هو نتيجة لكل تلك الأمور (المعلومات المستقبَلة + المعلومات الأصلية+ آلية العمل)، وإن كنا نسلم أن الإنسان يتلقى أيضًا الأحداث والمشاهدات الحسية ويحفظ ذهنه خبرات سابقة ومعلومات حصولية وحضورية يقيس وفقها وعليها ويبني، فإن محك الخلاف في الآلية وليس في معطيات هذه الآلية! وفي مصحح الاختيار وهل يسمى منتج هذه الآلات اختيارًا بلا تفريق  ضروري بينها وبين ما يختار الإنسان أم لا؟

و هذه الآلية والكيفية التي تفردنا بها وأنيط بها التكليف هي ما نسميه : الإرادة أو المشيئة.
فبينما لا يخرج الحاسوب عن آلية ومنهجية واحدة لا تتزعزع إلا بتدخل خارجي من مبرمجها أو خلل داخلي تقني، نجد الإنسان تنازعه نفسه ويتردد ويختار شيئًا ثم يعود عنه، ويغير رأيه في آخر لحظة، ويبقى حائرًا ريثما يتخذ القرار، وتجري في داخله معارك عقلية وعاطفية تكون الغلبة فيها لما يختاره، بل ويختار أحيانًا بعشوائية ولا مبالاة بالعواقب، بل قد يختار ما يدرك خطأه لعناد أو شهوة أو عاطفة، وكل هذا حاصل من نفسه وفي ذاته دون تأثير خارجي!
فأين هذا من الأول الأوتوماتيكي الذي لا تختلف نتائجه إن تساوت المعطيات، ويبقى على نسق واحد وفق آلية واحدة نتائجها ثابتة بثباتها!
أليس في هذا مساواة بين مختلفين أيما اختلاف؟ وهو كالمساواة بين الحركات غير الاختيارية -كالارتعاش ونبض القلب- وبين الاختيار الحر عن مشيئة وإرادة -كسؤال الجبري المجاب عنه هنا-
وهذه إحدى حجج أهل السنة في الرد على الجبرية ممن لا يذكر فرقًا وجوديًا بين الأمرين مع تسليمهم بالفرق، فبكل ما سبق ندرك أن هذه المشيئة لا تكون إلا بخلق وإيجاد من يعلو فوق الأسباب الطبيعية المادية، من يملك هو وحده أن يجرد مشيئة الإنسان -نسبيًا لا مطلقًا- عن تلك السنن المادية، لكونه هو فوقها سبحانه وحاكم عليها لا محكوم بها.

أما الاعتراض بكونها مسببة عن الأسباب وإلا كان في ذلك ترجيح بلا مرجح، أو كنا نحن من أوجدناها من العدم وهو محال فضلًا عن كونه مخالفًا للمعلوم من ديننا بالضرورة ، وما سوى ذلك فجبر، فإننا لا ننكر تأثر خياراتنا بالأسباب الخارجية، وكون بعضها مما يقارب أن يكون إجبارًا، بل بعضها نجبر عليه، ولكن مجرد تفريقنا بين المجبر  عليه والمخير فيه يوجب إثبات الثاني في أفعالنا وإن كنا لا ندرك كيف حصلناه وكنا فيه مختارين، بل هذا هو أصل مقالنا من أن خروج اختيارنا عن الطبيعة الجبرية والصدفة العمياء = دليل على وجود إله هو السبب الوحيد في كونها هكذا وتميزها وتفردها ضرورة عما سواها من الأفعال وعن سواها مما يجري في هذا الكون الذي تحكمه السنن، ثم إن الفعل الاختياري لم نزعمه صادر من العدم ليحاجنا الجبري ببطلان ذلك، ولكنها صادرة عن سبب مركب من المؤثرات الخارجية والفطرة ثم الخبرة البشرية ثم استقلالية نسبية عن كل ما سبق لا ندري كيف خلقت فينا، والجهل بالكيفية لا يلزم منه نفي الوجود عن العقلاء  لاسيما بعد أن ثبت الوجود ضرورةً، ثم نختم بأن خالقها سبحانه وحده كما جرد إرادتنا -نسبيًا - عن تلك الأسباب المادية، جعل لها تعلقًا غيبيًا بمشيئته سبحانه (وما تَشَاؤونَ إلا أن يَشَاءَ اللهُ رَبُ العَالَمين) فمشيئته هي النافذة دون أن ينافي ذلك اختيارنا وتأثيرنا فيما نفعل ونرجح، الفرق فقط أن الله جعل إرادتنا المخلوقة -التي لا ندري كيف خلقت وكيف يكون لها استقلال عن المؤثرات الجبرية- واسطة في إنفاذ مشيئته سبحانه، وأمدها بالتأثير فليست مؤثرة بذاتها، فهو العالم بكل شيء سنفعله، الذي لا يكون في ملكه إلا ما يشاء سبحانه.

السبت، 20 سبتمبر 2014

حمزة تزورتزس ... وخطآن في تقرير حدوث العالم


حمزة تزورتزس، مناظر الملاحدة الشاب الذكي الفذ، ترى تأثير ابن تيمية والتراث التيمي في طرحه، بل يذكره ويقتبس منه صراحةً في مقام حجاج الملاحدة، وهنا أتناول خطئين متكررين في مناظراته بل وفي بعض تقريرات الأخوة المهتمين بالجانب الإلحادي وتقرير حدوث العالم وهما:

الخطأ الأول:
وغالبًا يذكره حمزة عند افتتاحه للمناظرة بتقرير حدوث العالم، ومنها ما ذكره في
Rick Lewis المناظرة بينه وبين ، فيقول من بعد الدقيقة الخامسة : " من غير المنطقي أن يكون العالم قديمًا لأنه يلزم من ذلك أن يكون عندنا زمن قديم لامتناهي من الحوادث، فيكون تاريخنا قديمًا! و لكن هل هذا ممكن؟ هل يمكن أن يوجد اللامتناهي حقيقةً في الخارج؟ أنا أقول : لا! ... المثال الأول: تخيل أن عندك عدد لامتناهي من الموز، إذا أخذت منه موزة، كم يبقى عندك من الموز؟ الجواب : عدد لانهائي! ... المثال الثاني:تخيل لو كنت جنديًا وتريد أن تطلق النار على حائط، لكنك في نفس الوقت تنتظر إذنًا ممن هو خلقك كي تفعل، وهكذا إلى ما لا نهاية (من يأذن يحتاج إلى من يأذن له) ...  فلا وجود حقيقي للانهائية في الخارج!" اهـ مختصرًا
الإشكال هنا في المثال الأول، أما المثال الثاني فصحيح في الدلالة على امتناع تسلسل العلل والفاعلين وامتناع أن يكون لكل مسبب سبب إلى ما لا نهاية دون مسبب أول لا سبب له، ولكنه لا يدل على ما يريده في منع وجود اللامتناهي، ولننظر في المثال الأول: فأخذ موزة يوجب أن يكون اللامتناهي قل مع كونه بقي على حاله لانهائيًا! وأنك أنقصته ولم تنقصه، وهذا محال.
التعليق : ما ذكره يفيد أن اللانهائي لا يوجد في الخارج مجتمعًا مرة واحدة أو دفعة واحدة  وهذا لا إشكال فيه و يدل عليه المثال المذكور، ولكنه لا يفيد ما استدل به عليه من امتناع تاريخ لامتناهي من الحوادث، ولكنه تصور التاريخ القديم من الحوادث أمرًا متعينًا موجودًا في الخارج مرة واحد!
و ليس هذا مما يقول به أحد، بل الأحداث يتلو بعضها بعضًا ويعدم الواحد منها وهو مسبوق بعدم نفسه، وليست موجودة بمجموعها في الآن مرة واحد لكي يطبق عليها المثال الذي ذكره،
يقول شيخ الإسلام رحمه الله : " ثم للناس في هذا جوابان أحدهما قول من يقول ما مضى من الحوادث فقد عدم وما لم يحدث لم يكن فالتطبيق في مثل هذا أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج كتضعيف الأعداد فإن تضعيف الواحد أقل من تضعيف العشرة وتضعيف العشرة أقل من تضعيف المائة وكل ذلك لا نهاية له لكن ليس هو أمرا موجودا في الخارج , ومن قال هذا فإنه يقول إنما يمتنع اجتماع ما لا يتناهى إذا كان مجتمعا في الوجود سواء كانت أجزاؤه متصلة كالأجسام أو كانت منفصلة كنفوس الآدميين ويقول كل ما اجتمع في الوجود فإنه يكون متناهيا ومنهم من يقول المتناهى هو المجتمع المتعلق بعضه ببعض بحيث يكون له ترتيب وضعي كالأجسام أو طبيعي كالعلل وأما ما لا يتعلق بعضه ببعض كالنفوس فلا يجب هذا فيها.
منهاج السنة (1|435)
فشيخ الإسلام يبين في هذه القطعة أن الممتنع = وجود لامتناهي حقيقي أنطلوجيًا في الخارج، لا تسلسل الحوادث اللامتناهي، فالأول وجودي خارجي، والثاني تسلسل في الذهن لا أن هناك سلسلة حقيقية وجودية لامتناهية، فما حدث وانتهى ليس موجودًا الآن كحلقة من حلقات تلك السلسلة الوجودية، وهذا كتضعيف الأعداد، فإنك لا تمنع تضاعفها إلى ما لا نهاية، ولكن ذلك كله في ذهنك لا أن هناك أعداد لامتناهية في الوجود الخارجي، و حمزة يثبت إمكان حوادث لا أول لها ولكنه أراد نقض القول بقدم العالم فاستدل بما ينقض أزلية فاعلية الله، وقد تنبه لهذا أحد الحضور وسأله عنه في الدقيقة ال40 وألزمه بتسلسل الحوادث في المستقبل وأبديتها بخلود أهل الجنة والنار، فأجاب حمزة: "قلت تحديدًا أن اللانهائية غير موجودة في العالم الحقيقي وفي هذا الكون الذي نشهده ... فالكلام في هذا العالم لا في أمران غيبيان كالجنة والنار"
و تفريقه تحكم ونتيجة لخلطه بين الكلام عن حكم العقل القطعي بامتناع وجود اللامتناهي، والكلام عن الحكم العادي أو الاستقرائي المبني على المشاهَد الخاص بالعالم المخلوق، فاللانهائية غير موجودة لا في العالم المشاهد ولا في الجنة والنار، لامتناع وجود اللامتناهي قطعًا، وإنما خلود أهل الجنة وأهل النار تسلسلٌ في الأحداث حدثٌ بعد آخر، لا أن هناك شيئًا أنطولوجيًا لامتناهيًا يسمى "أبدية الجنة وأبدية النار".

الخطأ الثاني:
 قوله بحدوث الزمان بإطلاق، وعدم تفريقه بين الزمان الوجودي وبين الزمان الذهني الاعتبار الذي ليس له وجود في الخارج،
فتنبه لذلك مخاصمه ريك لويس وألزمه مستدلًا بكلام ستيفين هوكينج قائلًا :"سؤالك: ماذا كان قبل الانفجار الكوني -الذي أوجد الزمان الوجودي كما سلم حمزة- غير منطقي كقولك: ما هو شمال القطب الشمالي!"
مشيرًا إلى تناقض القول بوجودية الزمان ووجود شيء قبله، كون القبلية نسبة زمانية أيضًا،
و الحق = التفريق بين الزمان المخلوق والزمان الاعتباري فالأول مخلوق وهو ما توصف به مقادير الحركة المخلوقة المعينة كحركة الأفلاك وحركة عقارب الساعة، والثاني وهمي اعتباري ليس شيئًا موجودًا في الخارج ليكون مخلوقًا وإنما هو اعتبار ذهني يقدره الذهن عند نسبة حادث إلى حادث، وهو أمر سهلٌ تقريره عند معتقدي أزلية فاعلية الله، وأنه يفعل فعلًا قبل فعل وفعلًا بعد فعل سبحانه، فله أفعال من الأزل تقع النسبة الزمانية الذهنية بينها، وليس الدهر أو الزمن بهذا المعنى موجودًا أو مخلوقًا، لكونه اعتباريًا محضًا، ومن قال بأن الزمن مخلوق، يريد الأول لا الثاني،
يقول شيخ الإسلام رحمه الله : " هذا المذهب مبني على إثبات دهر غير مقدار الحركة، وخلاء موجود، وهذا باطل عند جمهور العقلاء، ومن قال ببعض ذلك من المسلمين فإنه يجعله مخلوقا لله تعالى ولا يقول إنه قديم " الأصفهانية (292)
و القول بالزمان الاعتباري لا يفيد أن هناك شيء يسمى (زمان) قديم مع الله يؤثر فيه، بل هو مجرد وصف واعتبار لأفعاله سبحانه التي لا بداية لها ولا تنتهي،
يقول شيخ الإسلام رحمه الله : " والمقصود أن التقدم بالزمان لا يشترط أن يكون الزمان مؤثرا فيه."
بيان تلبيس الجهمية (5|218)

وهذه ملاحظة دونتها منذ زمن بخصوص هذين الخطأين اللذين رأيتهما يتكرران في مناظراته وكانا مما أشكل علي حينها، ولا يسعني إلا أن أدعو له وقد ذكرته فأقول : وفقه الله ونصره ونفعنا به، ومثلي دون أن ينتقد مثله من العاملين ممن تعلمنا منهم الكثير ولا نزال.