الخميس، 4 ديسمبر 2014

مسائل في التحسين والتقبيح العقليين


1- القبيح العقلي هو الذي يستحق صاحبه الذم، ويضيع نظام العالم ومعيار رجحان العمل إن لم يتميز، وأبرز القبائح -وهو الكافي إثبات قبحه في عقدنا-: الظلم والكذب، فكيف تعرف نبوة وكيف يؤمن بغيب وكيف ينتظم شيء في السماوات والأرض إن جوز العقل حاكما يفعل أي شيء لا لشيء ويضع الأمور حيث يضعها بلا إحكام ولا غاية حسنة.

2- الحسن والقبح العقليان ضروريان، منكرهما بإطلاق= مكابر.

3- المدح والذم منفكان عن الثواب والعقاب ولا يلزم من إثبات الأولين إثبات الآخرين، وفرق بين استحقاق العقاب والحكم بوقوعه.

4- من أثبت حسنًا وقبحًا عقليين بمعنى ملائمة الطبع وصفة الكمال والنقص؛ لزمه إثباتهما بمعنى استحقاق الذم والمدح ضرورةً، فمجرد وصف خلاف الملائم والنقص بالقبح يعني أن هاهنا ذمًا، ولو التزمت هذه القسمة على الحقيقة لرفع الخلاف. 

5- من أثبت حسنًا وقبحًا عقليين بمعنى ملائمة الطبع وصفة الكمال والنقص؛ لزمه إثباتهما في الغائب بعد إثبات تعليل الأفعال، فالعلة التي لأجلها يفعل الغائب تكون حكمة محبوبة له، وفعله الحكمة المحبوبة له حسن عقلًا كما أن فعل الملائم حسن عقلًا، وليس في ذلك جلب مصلحة أو لذة أو دفع مضرة وألم كما في الشاهد، وإنما حصول الحكمة المحبوبة المرادة، ونفي أمرٍ سابقٍ على الفعل يرجحه (الحكمة/المحبة) قول بالترجيح بلا مرجح، وهو ممتنع.

6- التفريق بين الأفعال وبين الصفات في الحكم بالنقص والكمال في التحسين والتقبيح العقليين ليس بشيء، فإن فعل القبائح فرع الاتصاف بالنقص في الحكمة أو العلم أو القدرة، فمنع صفة النقص القبيحة عقلًا يلزم تفريعه إلى المنع من الأفعال المرتبطة بهذا النقص، فكل فعل يلزم عنه وصف بنقص= فهو فعل قبيح عقلًا في الشاهد والغائب.

7- ليس كل ما حسن أو قبح في الشاهد= حسن وقبح في الغائب، ولكن بعض ما يحسن ويقبح في الشاهد يحسن ويقبح في الغائب، كالكذب والظلم، ويفرق بينهما بالإدراك الضروري حال التجريد قدر الاستطاعة، وبما لا يفعله إلا ناقصٌ مشتهٍ له، أو جاهل بقبحه، أو محتاجٌ إليه، أو عاجزٌ عن خلافه، فقد يكذب الكذّاب الذي يشتهي الكذب وقد اعتاده، أو الطفل الجاهل، أو من لا يحصّل مصلحته إلا بالكذب، ولا يكذب غيره هؤلاء في حكم العقل.

-8بعض الأفعال يحسنها الشرع، وبعضها حسن لذاته، وبعضها لصفة لازمة، وبعضها لاعتبار ما، والتفريق بين هذه الأوجه ضروريٌ بعد أن يوضع في سياق معين، ومدرك الفرق يلزمه إثبات حسن وقبح عقليين.

-9 تعليل ضرورة إدراك الحسن والقبح بالأغراض -قياسًا على الشاهد- ليس بشيء، فإنهما يتصوران منفكين عن الغرض، ويحكم بهما بحكم كلي حال تجريدهما عن الجزئيات والمواقف المعينة التي تظهر فيها الأغراض،كما أن الحكم بهما حاصل حال علم الحاكم بانتفاء المنفعة والمصلحة، وإن أريد بالغرض تحقق المحبوب المراد والحكمة الباعثة فهو حق.

-10 إرجاع التحسيين والتقبيح العقليين إلى رقة في النفس ليس بشيء، حتى تفسر هذه الرقة، هل هي نفس هذا الإدراك والصفة القائمة بالعالم والتي تجعله مدركًا للحسن والقبح العقليين فاعلًا للحسن تاركًا للقبيح؟ إذن لا جديد، ونثبت هذه الصفة في الغائب وهي الحكمة، وإن أريد أي شيء آخر رفضنا لزومه.

 -11 القبيح أو الحسن العقلي لا بد من التزامه فإنه لو لم يقبح أو يحسن شيء عقلا لما قبح أو حسن شرعا، فكيف تستحسن تصديق النبي الصادق وتقبح تصديق المتنبىء الكاذب أو تستحسن شرعة وتقبح ضدها ولا حكم عقلي هاهنا؟ وكيف تبطل دينا باطلا وتحق دينا حقا ومخالفك في الديانة قد يقول: لا أحاكم ديني بتحسين أو تقبيح عقليين، ولا أحاكمه بتحسين أو تقبيح مصدرهما شرعتك.

12- لو لم يكونا عقليين؛ لجاز تحسين الكذب وتقبيح الصدق، وهو خلاف ما ثبت في وصفهما شرعا، وبالتالي جاز كذب الشارع وأن يكونا خلاف ما أخبر من قبح بعض الأفعال وحسن بعضها، فإن قال الشرع: الكذب فجور والشرك ظلم، يكون من تكذيبه أن يقال: قد يكون الكذب برًا والشرك عدلا.

13- لو لم يكونا عقليين، لكان الصدق كالكذب، والشرك كالتوحيد، والظلم كالعدل، وتماثل المتضادات من الممتنعات، وكونها مختلفة في ذاتها -بل ومتضادة- يلزم منه اختلافها في الحكم الأخلاقي العقلي.

14- إثبات حسن وقبح عقليين بمعنى حسن صفة الكمال وقبح صفة النقص دون طرد حكم العقل فيما تقتضيه هذه الصفات من أفعال= تناقض، فلا بد من تحسين العقل ما تقتضيه صفة الكمال من أفعال و لا بد من تقبيحه ما هو ضدها.
15- التحسين والتقبيح العقليان من البدهيات، فكما أن الأدلة تنتهي إلى ضروريات لا يدلل عليها، فكذلك تعليل حكمنا على الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة بسبب كذا وكذا، لا بد وأن ينتهي إلى قبيح أو حسن ضروري، فـ (أ) قبيح لأنه (ب)، و(ب) قبيح لأنه (ج) .. وهكذا إلى قبيح مو مرجع حكمك بالقبح على الأشياء، وكذلك الأمر في التحسين، فثبت بكل ما سبق ثبوت القبح والحسن العقليين.

16- لامتناع ترجيح بلا مرجح؛ فإنه لا بد لكل فاعل مختار من حكمة وغاية في فعله يفعل لأجلها وتنتج عن فعله، وإلا كان سفيها عابثا، وحتى العابث لا نسلم صدور فعله لا عن مرجح وإنما كان مرجحه أمر غير الحكمة والعلم، كمستفز داخلي أو خارجي، فوجب كون فعل الفاعل كامل العلم لغاية وحكمة يعلمها ومحبوبة لذاتها أو لمآلها عنده، فثبت تعليل الأفعال.

17- الغرض لفظ مجمل، إن أريد به الغاية والحكمة فمقبول، وإن أريد به الاستكمال بالغير والتأثر به فباطل، فمن قال: استكمل بفعله وبحكمته وتأثر بغيره، كمن قال: استكمل بذاته وبصفته وتأثر بعلمه.

18- كما تنتهي المعلولات إلى علة غير معلولة= تنتهي الحكم والغايات المرادة لغيرها إلى حكمة مرادة لذاتها.

19- تسلسل الحكم بحيث أن تحققت حكمة يلزم منها تحقق أخرى وهكذا فيما لا يزال= تسلسل في المستقبل نثبته كنعيم الجنة.

20-كل من أثبت التعليل والحكمة؛ لزمه إثبات الحسن والقبح العقليين، فإنما اختار الفاعل أحد المرادين لكونه موافقًا لحكمته ومحققًا لغايته.

21-بعد ثبوت التعليل ثم إثبات القبح أو الحسن اللازم لبعض الأفعال؛ فإن الغاية والحكمة التي لأجلها يفعل الفاعل= إما حسنة وإما قبيحة.

22- إن ثبت أن القبح لازم لفعل معين = فإن فاعله يذم ضروروة إن كان غنيا عنه عالما بقبحه.

23- الكذب في الجملة قبيح مذموم، وأكثر أفراده قبيحة، ولا يفعله إلا من لا يتوصل إلى مطلوبه إلا به، والخالق عالم بقبحه غني عن الحاجة إليه فلا يفعله.

24- القبيح محل النقاش ليس هو القبيح النسبي وإنما ما لا ينفك عنه القبح، ويفرق بينهما بأن الثاني يدرك قبحه حال تجرده من العوارض، بحيث لا تتصوره حال عدم تقييده بموقف أو محل إلا قبيحا لا يفعل إلا اضطرارًا أو لمرجح خارجي من مصلحة أو عجز عن سواه.

25- الفعل القبيح عقلا يكون القبح ملازمًا لعنوانه ولمسماه المطلق بمجرد إطلاق اللفظ، فإنك تذم شخصا قائلا يا كاذب ولا تذمه إن قلت يا ضارب.

26- من القبيح ما تعلم كل جزئياته وتجزم بقبحها كالكذب، فكل خبر تدرك بداهةً أنه: إما كذب أو صدق، وأنه إن كان كذبًا فهو قبيح.

27- من القبيح ما لا تعلم كل جزئياته ويكفيك إثباته إجمالا وإثبات القطعي من جزئياته كالظلم، فليس كل فعل يمكنك أن تدرك وجه العدل أو الظلم فيه، وإن كنت تدرك الظلم والعدل في أمور معينة، ككون الأخذ بجريرة الغير وإخلاف الوعد والمساواة بين المختلفين في الجزاء ظلمًا، وعكسه عدل.

28-جاءت آيات في الإنكار على بعض من حكم بشيء من هذا في حق الخالق، ويستدل بها على نفاة الحسن والقبح العقليين لأنها جاءت في سياق الإنكار على من حكم بهذا مطلقًا، أو في سياق بيان قانون عدل، ولم تجئ إخبارًا عن عدم الوقوع والحكم الشرعي فقط.


29-القبيح العقلي قد يوجد ما هو أقبح منه فيصير أرجح إن حصل التخيير بينه وبين ذلك الأقبح المرجوح المصلحة، ولكنه يبقى قبيحًا، وللتقريب: أكل الميتة قبيح حتى عند نفاة التحسين والتقبيح العقليين بمعنى تعلق الذم والمدح، لمخالفته الغرض وعدم ملاءمته وإضراره بالنفس، ولكنه أحسن من الموت جوعًا قطعًا، ولم ينقلب حسنًا بالذات بسبب هذا الطارىء.

30-التحسين والتقبيح العقليين اللذين ينازع فيهما لا علاقة لهما بالثواب والعقاب بل إقحام الثواب والعقاب مغالطة وحصر للنقد في مقالة قوم جعلوهما لوازم لتعلق الذم والمدح، ولسنا منهم.

31- امتناع الفعل القبيح لا لكونه لا قبح أصلا، وليس امتناعه ذاتيا فيوجب عجزا، وإنما هو ممتنع لغيره، لكمال الفاعل وحكمته وعلمه بقبحه وغناه عنه، وبهذا يفهم الوجوب في إفعال الله حيث لا موجب سواه.
 
32- القول بوجوب الأفعال الحسنة فرع القول بوجوب الصفات الكمالية، فلا إيجاب حكمي للمخلوق على الخالق، وإنما هو إدراك العقل للوجوب الثابت في نفس الأمر واللازم عن كمال الخالق.

33- لا يجب فعل واجب على المولى إلا بأحد أمرين: بإيجابه على نفسه سبحانه، وهذا متفق عليه، أو بمقتضى كماله بحيث لا يفعل قبيحا ثبت قبحه عقلا ألبتة، وهذا محل النزاع، ومن أنكره فقد الثقة بالوجوب المتفق عليه.

34- نخالف بعض المعتزلة في ترتيب ثواب أو عقاب قبل الشرع والجزم بذلك.

35- نخالف المعتزلة في تقبيحهم أفعالا لا يعلم قبحها إلا نسبيا وبأمثلة ومواقف معينة يذكرونها في المخلوق خاصة به، وليس القبح لازما لها عقلا حال تجردها.

36-ما نثبته من قبائح أو محاسن عقلية= قليلٌ محصورٌ عضَّدَه الشرع ولم يستقل به العقل.

37- الثقة بتحسين العقل وتقبيحه فرع ثقتنا ببدائه عقولنا و أولياتها، فالطعن في هذه طعن في تلك، وكلاهما من تعليم الإله وفطرته التي فطر الناس عليها، فلا تكون كاذبة فيما تكشفه وتحكم به.

الأربعاء، 8 أكتوبر 2014

الوحدانية... ضرورة عقلية لا مرحلة زمنية


"النتيجة العامة التي انتهت إليها اللجنة من البحث في أربعة آلاف من الآلهة في الهند هي أن كثرة الهنود الغالبة تعتقد عقيدة راسخة في كائن واحد أعلى "
قصة الحضارة - ول ديورانت

 لا زلنا نواجه باحثين تسيرهم حمولة فكرية ثقيلة، تؤزهم إلى استنتاجاتهم أزًا، مفكرين يحاولون بعد تبنيهم نظرية التطور الدارويني أن يجرّوا تطورهم إلى الأديان، لتشعر وأنت تقرأ لهم وتتابع برامجهم ويصطبغ عقلك اللاواعي -والواعي- بما يريدونه منك في إعلامهم= بشعور من فاته ركب الحضارة، وأن عليك أن تتطور وتدع تخلفك في حقبة التدين لتلحق بهم إلى حيث تجري بهم أهواؤهم راكبًا سفينتهم إلى حقبتهم الحديثة، فيكون مآلك أن تغرق معهم في بحر الجهل والظلمات وجحد الضروريات، وأن تنتحر عقليًا كمقدمة لانتحار حقيقي عادةً! 
فمما تبنوه حقيقةً –بدوغمائية لا تقل عن تلك التي وسموا بها العقلاء– أن الدين تطور وترقى بشكل مرحلي، ومن نظرياتهم في هذا التطور= قولهم إنه تطور من مرحلة بدائية سمتها تعدد الآلهة والوثنية أو عبادة الأرواح أو عبادة أسباب مظاهر الطبيعة المتكثرة -على اختلاف بينهم في حبك منشأ خرافتهم- وأن هذا التوحيد كان غائبًا عن البشرية حتى وقت قريب، ثم ظهر التوحيد لينقذ الموقف، ويرتقي المسرح بديلًا عن تلك المرحلة الأولى مناهضًا لها وابنًا عاقًا لأبيه، نتج عنه ثم تنكب له، فكان هذا التوحيد عندهم مرحلةً يجب أن ترتقي منها البشرية إلى تصفير عداد الآلهة، وفي هذا المقال، لا أتطرق للبحث التاريخي في هذه القضية، فهو من تخصص علماء التاريخ والأنثروبولوجيا، وشهادة أفذاذهم كلانج وماكس مولر وستيفن لانقدون وشميدت وآرثر كوستانس وإدوين أوليفر وغيرهم كافية في مخالفة هذه النظرية ونصرة القول بأن التوحيد ومقالة الكائن الأعلى هي الأصل، وأن الوثنية هي الانحراف، وأنها نتيجة نصب الجاهليين صفات الله أو الملائكة أو بعض أسباب مظاهر الطبيعة آلهةً عبدوها من دون الله وجعلوها إليه وسائط بشُبَهٍ ما أنزل الله بها من سلطان، ولكنني سأتطرق لأحد الأدلة العقلية في إثبات الوحدانية، ولن أتطرق معه إلى تلك الأطروحات المتهافتة التي تشكك في العقل وأولياته وتخضعها لذات التطور البيلوجي الذي زعموه، وسأنطلق من الضرورة القائلة إن أوليات العقل هي هي في كل زمان ومكان وحال، وأن دعوى التطور أيًا كان مصداقها في الخارج فإنها لا تعني تغير الحق والبدهيات اللازمة لتعقل الوجود.

لقد تعددت أدلة إثبات وحدانية الله سبحانه بين طوائف المثبتين لوجوده، وتكلم فيها المتدينون فرعًا عن إثباتهم أن لهذا العالم ربًا أزليًا خالقًا مطلق القدرة والعلم والإرادة، وتقدمةً للكلام في إثبات النبوة والنص.
فقد ذكر قوم أنهما -النبوة والنص- يثبتان من غير حاجة لإثبات الوحدانية أصلًا، وقد يستدل بالنص بعدها على الوحدانية.
واكتفى آخرون في إثباتها أيضًا بما يقفز إلى ذهن الإنسان فطرةً،
الفطرة التي تدفع كل ناظر في هذا العالم المتسق بنظام لا تتخلف سننه إلى أن يعتقد وحدانية خالقه ومسيره
وإلى أن فرض إلهين لهما حق الربوبية والعبادة يلزم منه التنازع وفساد العالم،
فالرب المستقل بهذا الحق= كامل لا يرضى منازعته حقه الخاص بحقيقة وجوده، فإن رضي بالنزاع فهو ناقصٌ أو غير مستقلٍ بحق هذا الكمال وهو نقصٌ آخر لازم.
فلو وجد مستحقان للربوبية (لابتَغَوا إلى ذِي العَرشِ سَبِيلا)،
وبتنازعهما في هذه الأحقية ونتيجةً لاختلاف إراداتيهما وتمايزها مع تأثيرهما في محل واحد = ينتج الفساد (لَو كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا الله لَفَسَدَتا) وهو خلاف المشاهد 
واستُدِلَّ أيضًا بتواتر شهادة الأنبياء الذين ثبتت نبوتهم بآيات بينات: أن الإله واحد وأنه مرسلهم دون أن ينازعه في دعوى الألوهية أو في إبطال آيات أنبيائه إله آخر.
وإضافةً لما سبق فقد أثبت وحدانية الله بأدلة عقلية أخرى عددٌ من الفلاسفة كسقراط وأفلاطون وأرسطو واكزينوفان فضلًا عن المليين والمسلمين منهم تحديدًا، فالكندي ومن تبعه -كالفارابي وابن سينا- وبعض المتكلمين -كالرازي ومن تأثر به- استدلوا بدليل التركيب، وهو أن إثبات ربين واجبي الوجود يستلزم وقوع الاشتراك والامتياز بينهما، وأن يتركب كل منهما مما به اشتركوا في الربوبية ومما به يقع التغاير بينهما، مما يعني عدم كون أحدهما واحدًا بالذات ونقض ربوبيتهم جميعًا، وبمثل هذا استدل أرسطو قبلهم -بلزوم التركب من جنس به يقع الاشتراك وفصل به تقع المغايرة-، وهذا دليلٌ فاسدٌ أورثهم لوازم في إثبات الصفات وفي غيرها.
وهناك مقاربات أخرى حاولها الفلاسفة والمتكلمون ولم يخل شيء منها من مقال واعتراض واستدراك، كما ألزمتهم لوازم قبيحة في باقي مسائل الاعتقاد كالدليل الأخير.
ولكن كان فوق تلك المحاولات دليل هو أبرز الأدلة في إثبات الوحدانية عقلًا، وهو: دليل التمانع، وهذا الدليل :
١- أداته سبر وتقسيم منحصر
٢- تبطل أقسامه بقطعيات العقل
٣- نتيجته قطعية عقلية

والدليل يظهر في جواب سؤال:
لو فرضنا إلهين مطلقي القدرة، واختلفا كأن يريد أحدهما مثلًا إحداث العالم ولا يريده الآخر، من سيغلب ؟
عندنا احتمالات ثلاث لا رابع لها:
١- إن قلنا (لن يغلب واحدٌ منهما) كان هذا انتقاصًا لقدرتهما كليهما، فكلاهما عجز عن إنفاذ إرادته، وهو أيضًا جمع بين نقيضين (أن يوجد العالم وأن لا يوجد)
٢- وإن قلنا (كلاهما سيغلب) لزم الجمع بين النقيضين كالأول.
٣- وإن قلنا (غلب الأول وأحدث العالم المشاهد في الواقع)= كان هو اللإله المطلق القدرة والإرادة وكان الثاني ناقصًا مفتقرًا إليه لا يملك إنفاذ مراده إلا إن سمح له الأول وأعانه فهو تابعٌ له كما سيتبين أكثر فيما يلي.
و لربما يرى مسفسط أن الجمع بين النقيضين -كوجود الشيء وعدمه- أمرٌ جائز، ولكن المقال يخاطب العقلاء ممن يمنع أن تلد المرأة أمها أو ينجب الشخص أباه!
وقد يجادل من هو أقل سفسطة بأنهما –الإلهين المفروضين- قد يلزمان التوافق فلا يختلفان -لاتفاقهما في الحكمة مثلًا- فنقول :
الكلام في فرض أنهما اختلفا لا في وقوعه، واختلافهما جائز، وما كان لازمه تجويز المحال فهو محال. 
فإن قيل إنهما لا يقدران على الخلاف وإن أراداه، كان كلاهما عاجزًا وبطلت ألوهيتهما كليهما.
فإن قيل: قد يلزمان الوفاق لوجود ما يمنعهما من الاختلاف، كما لا يريد زيد خلاف ما يريد عمرو لكونهما مؤتمران بأمر سيف.
فنقول: هذا إن جاز في مخلوقين، فإنه لا يجوز في الإلهين المفروضين، فتَأثر أحدهما أو كليهما بسبب خارجي ينقضُ فرض ربوبيتهما، ويكون السبب الذي منعهما من الاختلاف هو الإله المطلق، ومن أين لهما هذا التدخل الخارجي ونحن نفرضهما أزليين لا أحد معهما أو فوقهما في التأثير؟
ولعل أحدهم يقول : ما الذي يمنع من وجود احتمال رابع لم نحط به؟
فنجيب : هذه قسمة عقلية قائمة على النفي والإثبات وتدور بين وجود وعدم –سبر وتقسيم منحصر- ، فالعالم موجود، ولا بد له من محدث بأدلة إثبات الخالق اليقينية المعروفة، والمحدِث واحدٌ أو أكثر، ولنفرض أقل الكثرة هنا ونفرضهما اثنين، وبالتالي: إما أنهما أوجداه سوية أو لم يوجداه سوية.
فهي قسمة منحصرة، كما لو قلنا: رُكلت الكرة بدليل الحس اليقيني، راكلها واحدٌ أو أكثر، فإن كانوا أكثر من واحد فإما ركلوها معا أو لم يركلها أحدٌ منهم أو استقل أحدهم بركلها.
فهي قسمة حصرية عقلية، وكذلك الأمر هنا، ومن ينازع في حصر احتمالات المثال ينازع في حصر احتملات الدليل وهو مسفسط.
بالتالي: إما نفاذ مراد أحدهما أو كليهما أو لا أحد منهما، وإنك عقلًا لا تتصور خروج شيء عن هذه الاحتمالات.
فإن قيل: القسمة منحصرة، ولكن إبطال الأقسام ظني ولعل بعض ما أبطلناه صحيح؟
أجبنا: بل أبطلناها بقطعيات العقل الضرورية –امتناع الجمع بين النقيضين- فدل ذلك على امتناع وجود إلهين متكافئين، وأنه لابد من وجود إله يعلو على الآخر قدرةً وإرادة، والثاني دونه فيهما، ويلزم عن هذا أن هذا الثاني مخلوق للإله الأول وليس بإله في نفسه.
فإن قيل: كيف هذا؟
قلنا: لأنه إن جاز أن يمنع الإله التام القدرة الثاني الذي هو دونه في أمر، جاز أن يمنعه في كل أمر، فصارت إرادة الثاني مشروطة بأن يأذن له الأول، ومن كانت قدرته مفتقرة إلى غيره افتقار المشروط إلى شرطه الذي يسبقه= لا يكون مطلق القدرة، والمسبوق بشيء لا يكون قديمًا فلابد وأن يكون وجوده حادثًا بعد عدم، كما أن الإحراق يكون بعد وجود الأوكسجين، وكما أن الخطوة الثانية تكون بعد الأولى، فكل ما هو مشروط بشيء، يكون مفتقرًا إلى شرطه المؤثر فيه وحادثًا بعده، فيمتنع وجود إله أزلي قدرته مشروطة بإله آخر ومفتقرة إليه، فكل ما عدا الإله الخالق الكامل= مخلوقٌ مفتقرٌ إليه، ولا إله سواه سبحانه.
و في الدليل الذي حررناه رد على من قال بأن العبد يخلق فعله، وعلى من يدَّعي اكتفاء مكونات الطبيعة بنفسها، وعلى من ينكر افتقار العالم إلى رب يدبره، فيدعي أنه صار بعد خلقه مسيرًا بقوانين مستقلة عن خالقها، فنفرض لمن زعم ذلك أن الله أراد مخالفة قانون منها، ونجري الدليل السابق ليظهر افتقارها إليه في بقائها كما افتقرت إليه في وجودها ابتداءً، فهو دليل يهدم أي دعوى تدعي وجود أكثر من مكتفٍ بذاته مستقلٍ عن غيره  خالقٍ لموجود سواه، وأن هذه الصفات لا تكون إلا لواحدٍ أحدٍ قادرٍ مريدٍ لا إله إلا هو.





والدليل -رغم بداهته- قصدنا إلى التفصيل فيه بلغة مبسطة لتقريبه إلى القارىء وللإحاطة بأبرز ما دار حوله من جدليات، وهو دليل تضمنه قوله تعالى (وَمَا كانَ مَعَهُ مِن إلهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُ إلهٍ بِما خَلَق وَلعَلا بَعضُهُم عَلى بَعض) فلا بد أن يعلو أحدهما بقدرته على الآخر ويمتنع التكافؤ، ونجد القرءان مع هذا اللازم يتطرق إلى لازم آخر (لذَهَبَ كُلّ إلهٍ بِما خَلق) فلو فرضنا أنهما متكافئا القدرة ومستقلان، للزم  استقلال كل إله بمخلوقاته، لم؟
لأنهما إن لم يستقلا واختلطت مخلوقاتهما وعاون كل منهما الآخر= كان كل واحد منهما غير تام القدرة ومحتاجًا إلى من يعينه، فلزم أن ينفرد كل إله بمخلوقاته فلا تختلط ولا يكون لها بمخلوقات الآخر أي علاقة يلزم منها التعاون والاشتراك فيما يربط بين مخلوقيهما.
فإن استقلا، أيمكن وجودهما؟
إن استقلا بمخلوقاتهما ولكن جوزنا قدرة أحدهما على التأثير في مخلوقات الثاني، كان كل واحد منهما غير مستقل بمخلوقاته خلافًا لما فرضناه، وكان غيره قادرًا عليها معه، وشملهما بذلك دليل التمانع بأن نفرض إرادة أحدهما تدبيرًا في مخلوقات الثاني على خلاف إرادته، ولهذا نجد الآية ذكرت اللازمين متصلين، فيلزم أن يذهب كل إله بما خلق، وإن ذهب، لزم أيضًا أن يعلو بعضهم على بعض، وكلا الأمرين باطل.
فإن قيل : يؤثر أحدهما في مخلوقات الثاني بإذنه ورضاه؟
قلنا : نرجع إلى دليل التمانع ونفرض أنه لم يأذن واختلفا، فيظهر البطلان، فإن قيل: يمتنع الاختلاف، قلنا: منع الاختلاف نقص وتعجيز لهما.
فإن جاء بعدها أحدهم وقال: حسنًا، ذهب كل إله بما خلق فكان لكل إله عالمه الخاص، ولم يؤثر أحدهما في مخلوقات الثاني، أين الإشكال؟
قلنا: هذا منقوض بدليل التمانع أيضًا فنسأل: هل يجوز أن يريد إله تغيير شيء في عالم الإله الثاني أم لا؟ إن قيل "نعم" دخلنا في الاحتمالات الثلاث التي يلزم منها نفوذ إرادة أحدهما وكون الثاني مفتقرًا مربوبًا لا ربًا، وإن قيل "لا"، تكون إرادتيهما محدودة فكلاهما عاجز عن إرادة تغيير شيء من مخلوقات الثاني، وليس واحدٌ منهما تام القدرة والإرادة، كما أن هذا اللازم خلاف ما هو واقع في الخارج، من ارتباط العالم ومن كون كل شيء فيه مفتقرًا إلى غيره، وأنك كيفما تصورت العالم لم تتصوره إلا مجموعة أمور تؤثر وتتأثر في نفس الوقت، وأن لا شيء فيه يستقل عن شيء آخر استقلالًا تامًا يقتضي كون خالق الأول مستقلًا عن خالق الثاني، بل مجموع ما في العالم يرجع إلى قوانينَ وسننٍ كبرى هي في نفسها تؤثر وتتأثر وتتصل ببعضها من غير استقلال، ولا بد لها من مدبر مفعّل يخرجها من حيز القانون النظري إلى ظرف التأثير الكوني، بل ها هم يبحثون عن القانون الأوحد الذي يجمع هذه القوانين، فعود الكثرة إلى الواحد مما فطرت عليه العقول التي لم يطمس نورها الجهل والتقليد.

وهذا البرهان وغيره من البراهين تضمنها القرءان بأوجز عبارة وأدلها على المطلوب، بعيدًا عن تشقيق الاحتمالات البعيدة المكررة المعنى المختلفة الألفاظ، وفعلنا ذلك هنا دفعًا لأي استدراك، إضافة لكونه لم يكتف بالتدليل على وحدانية الخالق سبحانه في ذاته وأفعاله وصفاته، بل أسس على هذه الوحدانية= بُنيانَ التوحيد العبادي، ودعوة الأنبياء والمرسلين، فكما أن كل مخلوق يتحرك بالإرادة، ولا بد له من مراد وسعي في تحصيل هذا المراد بأسبابه، وكما ثبت أن الرب الخالق مسبب هذه الأسباب ومنتهاها الأول الآخر= واحدٌ سبحانه في ذاته -كما أثبتنا أعلاه-، لزم أن يكون الله هو المُراد لذاته المطلوبُ بالتأله، الواحدُ الذي ليس فوقه أحدٌ عز وجل، وهو المُعين بذاته استقلالًا على هذا المُراد لذاته وعلى كل مُراد.
فهنا أمور نرتبها وهي:
١- الإنسان مريد بالضرورة.
٢- مسبب الأسباب واحد بدليل الوحدانية وبطلان التسلسل.
٣- المُرادات كثيرة وإما أن تراد لذاتها أو تكون أسبابًا لغيرها، ولو بقيت تُسأل: لم تفعل كذا ويعاد عليك السؤال في جوابك، ستصل إلى نهاية لا جواب لها إلا (الله)
٤-  فهو المراد لذاته سبحانه لأن كل ما عداه سبب لمطلوب فوقه، إلا مسبب الأسباب الذي ليس فوقه أحد، فلا يراد سواهُ ولا يُطلب إلاه، لافتقار كل من عداه إليه في علاه.

أيضًا: بما أن كل مراد سواه إنما هو مراد لغيره وكل مخلوقاته مرادة لغيرها وأسباب غير مستقلة في تحصيل المطلوب، فهو وحده المستحق للتذلل والخضوع المتجاوزين لحدود الأسباب الطبيعية -التي تراد لغيرها ولا تعين بذاتها- فلا يُصرَف هذا النوع من الخضوع و التذلل إلا لله -المراد لذاته والمعين بذاته- المستحق الوحيد للعبادة سبحانه دون ما عداه مما يفتقِرُ إليه أصلًا وبقاءً، ويعبُدُه حالًا أو مقالاً، ولا يملك من دونه ضرًا ولا نفعًا.
فعبادة غيره وصرف أنواع التذلل  والخضوع الغيبية المتجاوزة لحدود تسببنا الحياتي المعتاد المعقول المعنى إلى غيره سبحانه= ظلمٌ وسفه، فلا يُطلب تجاوز الأسباب إلا من مسببها وإن طلبت من غيره كان ذلك شركًا وكذبًا في العقل والواقع والفطرة، وانتكاسًا يتجاوز انتكاس طلب الأسباب القبيحة التي رغم قبحها= توصل إلى المطلوب، فطلب ما لا يوصل إلى المطلوب بل يقتضي النقيض ويُغضِبُ المطلوب لذاته سبحانه -لما تضمن من سبه ونسبة الشريك له في خصائصه وتفرده بالعلو على الأسباب- أقبح في عقول الأسوياء.
وأيًا كانت أسباب عبادة المخلوق، فهي في الله أكمل وأعلى بما لا يُدرَكُ له حد في المباينة،
والسيد من البشر لا يرضى شراكة عبده في شيء من ملكه، فكيف يرضى الغني المستقل بملكه وخلقه أن يُدَّعى له شريك في العبادة، فيُراد كما يُراد، ويُحب كما يُحب، و يُدعا من وراء الأسباب كما يُدعا الله، إذ كما تنزه سبحانه أن تشاركه أرباب في الوجود= تنزه سبحانه أن تشاركه آلهة في العبادة.

الأحد، 21 سبتمبر 2014

أيها الملحد ... حريتك ... دليل عبوديتك !


إن من الثابت المحكم، أن السائل عن وجود الله، المهتم بتلقي الجواب، ذو وعي واختيار وحرية تفكير ومشيئة تحمله على السؤال، وإلا ما كان ليهتم بالمسألة -أو بأي شيء-، وما كان ليبحث عن جواب أو ينشىء السؤال عنه!
و حرية الاختيار والمشيئة أمر وجداني ضروري كضرورة الحس وكضرورة صدق المبادىء العقلية البدهية!
و هذه الحرية التي حيرت الفلاسفة والمتكلمين وخاض فيها البشر أحيانًا بحق وكثيرًا بباطل= لا تجد من ينكرها، ومن يدعي إنكارها -من القائلين بالجبر- تجده بممارسته للإنكار يثبتها عمليًا! وتجده لا يعمل بمقتضى هذا الجبر البتة، فلا يقبل منك صفعه أو ركله على قفاه مثلاً!
و حرية الاختيار تنافي وتناقض القولَ بإحدى الخستين :
-
وجود العالم الصدفي بلا سبب أو علة غائية.
-
وجود العالم بطبيعة مادية تحكم كل شيء بقوانين مادية حسية مستقلة عن أي تدخل غيبي.

فالأولى يلزم منها انعدام مشيئتك كما تنعدم مشيئة كل شيء واقع بالصدفة، وإلا:
أي صُدفةٍ في أمرٍ شاءَه أحدٌ ما مسبقًا؟ إن خططت لرحلة بحرية، ثم انطلقت حتى وجدت نفسك في عرض البحر، أتقول أو يقول عاقل أنك صرت هناك صدفةً؟

فسبق المشيئة والاختيار والتفكر في الفعل = يناقض صدفيته وظهوره إلى الوجود لا عن سبب أو غاية، وكونك حرًا تتردد في اختيار الفعل وتدرك ضرورةً أن فعلك لم يصدر عنك بصدفة تفاجئك بنتيجتها اللاغائية = يوجب سؤالًا مهمًا:
لم استثنيت اختياراتك التي تتخذها بنفسك بداهةً من الصدفية؟
ولم كنت أنت المميز عن باقي - المصادفات
- في الكون؟

أما الثانية: فتتناقض مع الحرية لغةً وعقلًا، فالطبيعة المادية جبرية وهي نقيضُ حرية الاختيار والمشيئة، والقانون الطبيعي الجبري معلوله ونتائجه لا تتخلف، ولابد وأن يقع بتحقق شروطه وانتفاء موانعه - الطبيعية والمندرجة في القانون الطبيعي كذلك -، فكيف يا ترى تشاء أنت الشيء؟ وتغير رأيك فيه؟ وتتقلب بك القناعات؟ قبل أن تنشىء فعلًا عن اختيار أدتك إليه خبرة الماضي، وإدراك الواقع الحاضر، واستشراف المستقبل، وآلية تفكير واتخاذ قرار حرة؟

قد يقول قائل : خياري مادي جبري بحت لأنه بني على معلومات ذهنية مأخوذة من خبرتي المادية ومشاهدتي للمادة، وقام ذهني - المادي - بترتيبها - أي الخبرة والمشاهدات- وفق قانون تفكير بيلوجي نفعي مادي، لينتج عنها اختيارًا هو نتيجة طبيعية ومادية لما سبق من الماديات؟ ثم إن كل ما في العالم محكوم بالأسباب، وكذلك أفعالنا، إلا أن تزعموا  أننا ننشئها من العدم!

وجوابنا: أن قائل ما سبق  لا يدرك بقوله مدى انحرافه عن محل البحث والسؤال الحقيقي!
فنحن لا نتكلم عن مجرد تحقق الاختيار في الخارج كتحقق أي حدث مادي نتيجة أسبابه المادية؟
و إنما نتكلم عن آليته -أي آلية اختيار الفعل الاختياري - والمشيئة وحرية التفكير التي كانت وراء إنتاجه، فالكلام في: ما الذي أعطاك حرية الاختيار وكيف كنت مختارًا ؟ فالتسوية بين اختيار الانسان وبين الورقة التي تطبعها الطابعة بكون الإنسان أنتج الفعل بعد معطيات مادية كما أنتجت الطابعة الورق بعد أن زودت بالحبر والخام اللازم أو تسويته بالبرامج الحاسوبية التي تكتب إليها بشيء فتجيبك = خارج موطن النزاع.
فقد حصل خلط بين الإنسان الشائي الحر الاختيار، وبين البرامج الحاسوبية -أو الطابعة- التي تستقبل المعطيات، فتمرها على ما برمج فيها سابقًا من معلومات قبلية، وتقيس وتقارن، وتلحق النظير بنظيره، وتخالف بين الضد وضده، وكل هذا وفق منهجية وآلية ثابتة برمجت عليها مسبقًا، لتعطي مخرجًا هو نتيجة لكل تلك الأمور (المعلومات المستقبَلة + المعلومات الأصلية+ آلية العمل)، وإن كنا نسلم أن الإنسان يتلقى أيضًا الأحداث والمشاهدات الحسية ويحفظ ذهنه خبرات سابقة ومعلومات حصولية وحضورية يقيس وفقها وعليها ويبني، فإن محك الخلاف في الآلية وليس في معطيات هذه الآلية! وفي مصحح الاختيار وهل يسمى منتج هذه الآلات اختيارًا بلا تفريق  ضروري بينها وبين ما يختار الإنسان أم لا؟

و هذه الآلية والكيفية التي تفردنا بها وأنيط بها التكليف هي ما نسميه : الإرادة أو المشيئة.
فبينما لا يخرج الحاسوب عن آلية ومنهجية واحدة لا تتزعزع إلا بتدخل خارجي من مبرمجها أو خلل داخلي تقني، نجد الإنسان تنازعه نفسه ويتردد ويختار شيئًا ثم يعود عنه، ويغير رأيه في آخر لحظة، ويبقى حائرًا ريثما يتخذ القرار، وتجري في داخله معارك عقلية وعاطفية تكون الغلبة فيها لما يختاره، بل ويختار أحيانًا بعشوائية ولا مبالاة بالعواقب، بل قد يختار ما يدرك خطأه لعناد أو شهوة أو عاطفة، وكل هذا حاصل من نفسه وفي ذاته دون تأثير خارجي!
فأين هذا من الأول الأوتوماتيكي الذي لا تختلف نتائجه إن تساوت المعطيات، ويبقى على نسق واحد وفق آلية واحدة نتائجها ثابتة بثباتها!
أليس في هذا مساواة بين مختلفين أيما اختلاف؟ وهو كالمساواة بين الحركات غير الاختيارية -كالارتعاش ونبض القلب- وبين الاختيار الحر عن مشيئة وإرادة -كسؤال الجبري المجاب عنه هنا-
وهذه إحدى حجج أهل السنة في الرد على الجبرية ممن لا يذكر فرقًا وجوديًا بين الأمرين مع تسليمهم بالفرق، فبكل ما سبق ندرك أن هذه المشيئة لا تكون إلا بخلق وإيجاد من يعلو فوق الأسباب الطبيعية المادية، من يملك هو وحده أن يجرد مشيئة الإنسان -نسبيًا لا مطلقًا- عن تلك السنن المادية، لكونه هو فوقها سبحانه وحاكم عليها لا محكوم بها.

أما الاعتراض بكونها مسببة عن الأسباب وإلا كان في ذلك ترجيح بلا مرجح، أو كنا نحن من أوجدناها من العدم وهو محال فضلًا عن كونه مخالفًا للمعلوم من ديننا بالضرورة ، وما سوى ذلك فجبر، فإننا لا ننكر تأثر خياراتنا بالأسباب الخارجية، وكون بعضها مما يقارب أن يكون إجبارًا، بل بعضها نجبر عليه، ولكن مجرد تفريقنا بين المجبر  عليه والمخير فيه يوجب إثبات الثاني في أفعالنا وإن كنا لا ندرك كيف حصلناه وكنا فيه مختارين، بل هذا هو أصل مقالنا من أن خروج اختيارنا عن الطبيعة الجبرية والصدفة العمياء = دليل على وجود إله هو السبب الوحيد في كونها هكذا وتميزها وتفردها ضرورة عما سواها من الأفعال وعن سواها مما يجري في هذا الكون الذي تحكمه السنن، ثم إن الفعل الاختياري لم نزعمه صادر من العدم ليحاجنا الجبري ببطلان ذلك، ولكنها صادرة عن سبب مركب من المؤثرات الخارجية والفطرة ثم الخبرة البشرية ثم استقلالية نسبية عن كل ما سبق لا ندري كيف خلقت فينا، والجهل بالكيفية لا يلزم منه نفي الوجود عن العقلاء  لاسيما بعد أن ثبت الوجود ضرورةً، ثم نختم بأن خالقها سبحانه وحده كما جرد إرادتنا -نسبيًا - عن تلك الأسباب المادية، جعل لها تعلقًا غيبيًا بمشيئته سبحانه (وما تَشَاؤونَ إلا أن يَشَاءَ اللهُ رَبُ العَالَمين) فمشيئته هي النافذة دون أن ينافي ذلك اختيارنا وتأثيرنا فيما نفعل ونرجح، الفرق فقط أن الله جعل إرادتنا المخلوقة -التي لا ندري كيف خلقت وكيف يكون لها استقلال عن المؤثرات الجبرية- واسطة في إنفاذ مشيئته سبحانه، وأمدها بالتأثير فليست مؤثرة بذاتها، فهو العالم بكل شيء سنفعله، الذي لا يكون في ملكه إلا ما يشاء سبحانه.