الجمعة، 14 أغسطس 2015

الطبري السلفي : بحث في عقيدة الإمام الطبري كما ظهرت في تفسيره جامع البيان ج3- القدر وأفعال العباد والحكمة والعدل والتحسين والتقبيح والإيمان قول وعمل


القدر وأفعال العباد ومباحث العدل والحكمة والتحسين والتقبيح

1- تفسير قوله تعالى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} الخلق بالتسبيب والقوة المودعة المخلوقة:
"وكذلك قوله لنبيه عليه السلام: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، فأضاف الرمي إلى نبي الله، ثم نفاه عنه، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي، إذ كان جل ثناؤه هو الموصل المرمي به إلى الذين رموا به من المشركين، والمسبب الرمية لرسوله.
فيقال للمنكرين ما ذكرنا قد علمتم إضافة الله رمي نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه، بعد وصفه نبيه به، وإضافته إليه، وذلك فعل واحد، كان من الله تسبيبه وتسديده، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذف والإرسال، فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب، ومن الخلق الاكتساب بالقوى؟ فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله ."

ماهر: فالطبري هنا على عقيدة أهل السنة، وسطٌ بين الجبرية والقدرية، بين نفاة تأثير إرادة العبد وقدرته وبين من ينسبون للعبد خلق فعله والاستقلال به وكمال تدبيره، فالعبد هو الفاعل بقوة جعلها الله فيه كما ذكر، وحين يثبت الطبري الاكتساب بالقوى فإنه لا يثبت قوةً شكلية، قوةً ما لها نصيبٌ من اسمها، بل قوة متعدية يكتسب بها ويفعل، فيُنسب فعله إليه اكتسابًا وترجيحًا بقدرته، ولكنه في الوقت نفسه ينسبها إلى الله خلقًا، فتكون للفعل جهتان، جهة اكتساب العبد وجهة خلق الرب، وينص الطبري على أن خلق الله لفعل العبد يكون بالتسبيب، وهذا ضابط فيصلٌ بين الجبرية وأهل السنة، فعند الجبرية لا يكون خلق الله لفعل العبد إلا مباشرةً بلا واسطة اختيارٍ مؤثرٍ وقدرةٍ مؤثرةٍ من العبد، بل يخلق الله فعل العبد عنده وفيه، لا بسببية اكتساب العبد الحقيقي، فلا تأثير لشيء من الأسباب والوسائط، بخلاف ما ذكره الطبري هاهنا موافقةً للعقل والنقل، وتوسطًا بين الفرق  المتناحرة، التوسط الذي يسلم من كل باطل ترمي به الفرق بعضها مع جمع الحق الذي قال به كل طرفٍ في النزاع.

فخلاصة ما يستفاد: الطبري يثبت الخلق بالتسبيب ولا يحصر الخلق بالتكوين المباشر من عدم أو ما يعرف بالخلق المتجدد من عدم دون توسط سبب مؤثر، ويثبت فاعلية الأسباب وتوسطها، ويثبت قوى في العبد يكتسب بها ويفعل، والعبد وقوته وفعله ومفعوله كل ذلك مخلوقٌ لله لأنه هو مسببُ الأسباب ومبقيها ومفعّل أثرها الساري في الوجود.


2- قال أبو جعفر في تفسير {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وفي التفريق بين المفعول المباشر وما يكون بالتسبيب:
"وذلك أنه غيرُ مستحيل أن يكون الله عز وجل مكنها من تسويم أنفسها نحو تمكينه البشر من تسويم أنفسهم، فسوَّموا أنفسهم نحو الذي سوَّم البشر، طلبًا منها بذلك طاعة ربها، فأضيف تسويمها أنفسهَا إليها. وإن كان ذلك عن تسبيب الله لهم أسبابه. وهي إذا كانت موصوفة بتسويمها أنفسهَا تقرٌّبًا منها إلى ربها، كان أبلغ في مدحها لاختيارها طاعة الله من أن تكون موصوفة بأن ذلك مفعول بها"
ماهر: فانظر كيف جعل مدحها باختيارها طاعة الله مقابلًا لكونها مفعولٌ بها تلك الطاعة، فليست طاعتها مخلوقةً ومفعولةً بها مباشرة، وإنما بتوسط وتسبب اختيارها، وهنا إثبات لتوسط الأسباب والخلق بالتسبيب مرة أخرى مع تفريق واضح بينه وبين الخلق المباشرة المفعول بالشيء دون يدٍ له فيه.
3- تفسير {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} إثبات القوة المودعة والاختيار والتفريق بين الاكتساب بالقوة وخلق عين الفعل:
"فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبًا، ويُوجِده الله جلّ ثناؤه عَيْنًا مُنْشَأةً؟ بل ذلك أحرى أن يُضاف إلى مكتسبِه؛ كسبًا له، بالقوة منه عليه، والاختيار منه له -وَإلى الله جلّ ثناؤه، بإيجاد عينِه وإنشائها تدبيرًا"

4- تفسير }يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} والقبح قبل الشرع:
"يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك، مما كنتم عليه من معصيته في فعلكم ذلك قبلَ الإسلام، وقبل أن يوحي ما أوحىَ إلى نبيه من ذلك ="عليكم"، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك ..."

وتفسير {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} والقبح قبل الشرع، فقال رحمه الله:
"فتأويل الكلام إذًا: وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله، الذين جعل الله الشياطين لهم أولياء، قبيحًا من الفعل، وهو"الفاحشة"، وذلك تعرِّيهم للطواف بالبيت وتجردهم له، فعُذِلوا على ما أتوا من قبيح فعلهم وعوتبوا عليه، قالوا:"وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا، فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون، ونقتدي بهديهم، ونستنّ بسنتهم، والله أمرنا به، فنحن نتبع أمره فيه".
يقول الله جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهم:"إن الله لا يأمر بالفحشاء"، يقول: لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويها ="أتقولون"، أيها الناس،"على الله ما لا تعلمون"، يقول: أتروون على الله أنه أمركم بالتعرِّي والتجرد من الثياب واللباس للطواف، وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك؟"
وتفسير {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} حيث قال رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: وبالحق أنزلنا هذا القرآن: يقول: أنزلناه نأمر فيه بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة الحميدة، وننهى فيه عن الظلم والأمور القبيحة، والأخلاق الردية، والأفعال الذّميمة"

ماهر: فانظر كيف أثبت الطبري تعلق الذم بها وتسميتها فاحشة وقبحًا قبل ورود الشرع، وأنها مما يستحقون عليه العقاب فيتاب عنها ويغفرها الله لهم، وأثبت معاتبتهم على فعلهم قبح التعري وتعبد الله بذلك طوافا، وأنه من القبح الذي سلف وتقدم على نزول الشريعة، ثم انظر كيف يفسر ما رد به الوحي على دعواهم أن هذا من مأمورات الله التي تتابع على فعلها الأجيال، بأن الله لا يأمر بالفحشاء! عقلًا لا يأمر بالفحشاء! فكيف تزعمون أنه أمركم بهذا القبح؟ ولو كان القبح والحسن لا يثبتان إلا شرعًا لاحتج بذلك الكفار، ولقالوا: ليست قبيحةً ولا حسنةً فكيف تحتجون علينا بأن الله لا يأمر بالقبائح الفاحشة ونحن لا نسلم لكم أصلًا أنها يثبت لها هذا الوصف أو أنه يمكن التوصل لوصفها بذلك عقلًا وقبل ثبوت الشرع؟
فيتبين لك بعد ما سبق من تفسير  الطبري أن للأفعال صفاتٍ ولوازم واعتبارات بها يحكم عليها بالحسن أو القبح، نعم يتوقف في بعضها، ولكن لا يتوقف فيها كلها ويحصر إدراك حسنه وقبحه بالشرع، وليست مجردة من صفة القبح أو الحسن حتى يضفي عليها الشرع هذا الوصف، ولا ننكر أنه أضفى ذلك على أفعالٍ استقل بتقبيحها وتحسينها الشرع، ولكنه لم ينشىء تحسين الأشياء كلها وتقبيحها من العدم، بل أسس على ما يدرك بالعقل من هذه الأوصاف وتممه وأقر ما استقر منه قبل الشرع، بل جعل الوحي قبحها العقلي دليلًا على أن الله لا يأمر بها (إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون)، فالطبري هنا موافقٌ لما عليه أهل العقل من استحقاق بعض الأفعال لوصف القبح أو الحسن لذاتها أو لصفة من صفاتها أو لاعتبار ملازمٍ لها، ويفهم هذه الآيات على هذا المنوال، فيفهم رد الوحي عليهم بأن دليل بطلان هذه الأفعال أنها فاحشة قبيحة وبالتالي لا يأمر الله بها، لا أنها صارت كذلك بنهيه عنها سبحانه! ويفهم تمدح الوحي بكونه حقًا وبالحق نزل، وبأنه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء  ذي  القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا يجعل الأفعال والأمور كلها على مستوىً واحدٍ في نظر العقل بحيث يجوز أن يأمر الشرع بأي شيء منها -أي الأفعال- دون أن يمدح بموافقة حسنٍ أو مخالفة قبيحٍ لأنهما وصفان لا تحقق لهما قبله، بل جعل موافقة الشرع لذلك ممدحةً ودليل حقية، ولا تزال موافقة الشرع للفطرة البشرية وللحسن والقبح العقليين الصريحين= من أدلة صدق مبلغه وكونه وحيًا إلهيًا لا يأمر بالفحشاء بل بالحق الحسن.

5- كلامه في الحكمة، ونبدأ بتفسير الطبري قوله تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}:

"فأولى في حكمة الله جل جلاله، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبَر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم، دون ما لم يَجْرِ له ذكر من أفعالهم. إذْ كان سائرُ آيات تنزيله بذلك نزل، وهو: أن يَفتتِح ذكر محاسن أفعالِ قومٍ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكره من أفعالهم، ويفتتح ذِكْر مساوي أفعالِ آخرين، ثم يختم ذلك بالوعيدِ على ما ابتدأ به ذكرَه من أفعالهم."

ماهر: فالطبري من مثبتي الحكمة كما يظهر، وهي الصفة التي لأجلها يفعل الله الأولى من الأفعال، ولا يقول: ليس هنالك أولوية أصلًا وكل ما جاز في قدرته جاز في فعله! بل لا يفعل الله إلا على وفق حكمته سبحانه.

وقال في تفسير قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}:
"فتأويل الكلام: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم، فتكفروا -إن مُنِعتموه- في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه"
ماهر: فإعطاؤهم ما طلبوه جائزٌ في قدرة الله، وسيعطون رؤية الله يوم القيامة إن ماتوا على الإيمان، ولكن رغم كونه من المقدور عليه إلا أن الله لا يفعله لحكمته، فهناك إذن ما يجوز إعطاؤه في القدرة، ولا يجوز في الحكمة التي موافقتها شرطٌ في الإعطاء.
فالطبري على معتقد أهل السنة من أنه لا يجب على الله فعلٌ من الأفعال أو عدم فعلٍ من الأفعال إلا: ما كتبه الله على نفسه سبحانه، أو ما اقتضته حكمته وكمال صفاته عز وجل، فللحكمة ترجيح ومنع، وتسبق الفعل وعلى وفقها يكون أو لا يكون.

وليس يقول ما قالته الأشعرية من أن الله يجوز أن يفعل كل ما تتعلق به القدرة من الممكنات، وأنه لو لم يخبرنا بأنه لا يؤاخذ أحدًا بجريرة غيره لجاز أن يفعل ذلك! ولو لم يخبرنا أنه لا يجعل المسلمين في النار والكافرين في الجنة لجاز أن يفعل!
بل يثبت الطبري لله الحكمة التي لأجلها يفعل أو لا يفعل، وينفي عنه ضد ذلك من العبث وجواز فعل أي ممكن والتسوية بين المختلفات والتفريق بين المتماثلات والفعل لا لغاية محمودة أو غير محمودة.

وقال في  تفسير قوله تعالى {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}:
" لا يخطئ ربي (ولا يَنْسَى) فيترك فعل ما فعْله حكمة وصواب. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل"
ماهر: فالحكمة تقتضي أفعالًا لا يتركها سبحانه، وعند الطبري- إن كان الفعل صوابًا وحكمةً فإن الله لا يتركه لكماله سبحانه، وإن لم يكن كذلك لم يفعله لتنزهه عنه، ولا يقول الطبري: يفعل أي شيء لا لشيء ما دام يمكنه فعله وشاء ذلك! ولا يقول إن فعله بمحض المشيئة دون حكمة وغاية وأولوية للفعل على عدمه، فهذا ليس من الكمال الثابت لله عقلًا في شيء، وهذا يتصف به العابث، سبحانه وتعالى عن ذلك.

وقال الطبري في تفسير قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :
"وهو العزيز في نِقمته ممن انتقم منه من خلقه بحبس رحمته عنه وخيراته، الحكيم في تدبير خلقه وفتحه لهم الرحمة إذا كان فتح ذلك صلاحًا، وإمساكه إياه عنهم إذا كان إمساكه حكمة"
ماهر: فيفسر الطبري الآية بأن الله حكيم في تدبير خلقه فيفتح لهم إن كان صلاحًا ويمسك إن كان حكمة! فأين هذا من قول من نسبوا لله أنه لا يفعل لغاية ولا يفعل إلا لمحض المشيئة؟ ولا يظنن القارىء بالطبري أنه وافق المعتزلة في إثبات فعل الصلاح والأصلح، فإنه يثبت في فعل الله تحقيق الصلاح العام والحكمة العليا، ولا يخوض في ذلك تفصيلًا كما خاصت المعتزلة، ولا يقيس على مخلوقات الله فيما ينفعها ويضرها، وإنما يثبت الصلاح العام في حكمة الإله مما فيه ظهور آياته وتجلي كمالاته في أفعاله ومخلوقاته.
6- العدل الإلهي ونفي الظلم، حيث قال أبو جعفر في قول تعالى {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}:
"وذلك أنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا بجريرته، ولا يأخذه بذنب أحدٍ، ولا يعذِّب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وأنذر وتابع عليه الحجج."
ماهر: فالظلم عنده فعل هذه الأمور -المعاقبة على جريرة الغير والتعذيب قبل رفع العذر- وهي التي عددها وفسر نفي الظلم في الآية بعدم فعلها، وإن نظرنا إلى هذه الأمور وجدنا أنها ممكنة لذاتها، فالله قادر على أن يخلق فلانًا في النار يُعذب فيها دون جريرة سبقت أو قيام حجة من أي نوع، أو أن يخلق في كفة ميزانه ذنوبَ غيره ويؤاخذه بها، ولكنه لا يفعله لأنه لا يظلم سبحانه، فالظلم ممكنٌ لذاته بالنظر للقدرة، ممتنعٌ لغيره بالنظر للحكمة الإلهية وامتناع العبث عليه سبحانه، وكلاهما يثبت عقلًا وبهما نعرف كمال عدله وعدم ظلمه عبيده عز وجل، فبطل قول من قال إن الظلم ممتنع لذاته وأنه تصرف الفاعل في غير ملكه، وأنه لا تتعلق قدرته بالظلم أصلًا وأنه من قبيل الممتنعات العقلية بناءً على تفسير الظلم بمفهوم خاص مع إهمال ما تسميه العرب ظلمًا مما هو أعم من: تصرف الفاعل في غير ملكه.


الإيمان

1- قال رحمه الله في صريح السنة:

"وأما القول في الإيمان هل هو قول وعمل؟ وهل يزيد وينقص، أم لا زيادة فيه ولا نقصان؟ فإن الصواب فيه قول من قال: هو قول وعمل، يزيد وينقص، وبه جاء الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل.
حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سألنا أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله عن الإيمان، في معنى الزيادة والنقصان، فقال: حدثنا الحسن بن موسى الأشيب، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي، عن أبيه، عن جده عمير بن حبيب قال: «الإيمان يزيد وينقص» ، فقيل: وما زيادته، وما نقصانه؟ فقال: «إذا ذكرنا الله فحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا، وضيعنا، ونسينا فذلك نقصانه»
حدثنا علي بن سهل الرملي، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز، رحمهم الله، ينكرون قول من يقول: إن الإيمان إقرار بلا عمل، ويقولون: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان."

2- وقال في تفسير قوله تعالى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ...} الآية:
"واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء الأعراب: قولوا أسلمنا، ولا تقولوا آمنا، فقال بعضهم: إنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بذلك، لأن القوم كانوا صدّقوا بألسنتهم، ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم، فقيل لهم: قولوا أسلمنا، لأن الإسلام قول، والإيمان قول وعمل ...
عن الزهري (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: إن الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل.
... قال ابن زيد، في قوله (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) قال: لم يصدّقوا إيمانهم بأعمالهم، فردّ الله ذلك عليهم (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون، صدّقوا إيمانهم بأعمالهم; فمن قال منهم: أنا مؤمن فقد صدق; قال: وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب، وليس بصادق."

ماهر: ثم ذكر  قولين آخرين يظهر للمتدبر أنهما دون هذا الذي ذكره أولًا، وهو القول الذي اختاره فقال:

"وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن الزهريّ، وهو أن الله تقدّم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول، ولم يحققوا قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا بالله ورسوله، ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محقّ، وهو أن يقولوا أسلمنا، بمعنى: دخلنا في الملة والأموال، والشهادة الحق"
3- وفي تفسير قوله تعالى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ذكر سؤالًا قد يعترض به عليه معترض، وفي السؤال بيان لمعتقد الطبري في الإيمان، فأورد على لسان السائل:
"فإن قال قائل: ... أفللإيمان أمثال فيجازى بها المؤمن؟ وإن كان له مثل، فكيف يجازى به، و"الإيمان"، إنما هو عندك قول وعمل ... - إلخ السؤال-"
ماهر: فالسائل إذن يسأله عن مثل الإيمان؟ وكيف يجزى بمثله وهو قول وعمل عند الطبري، بل وعند أهل السنة قبله وبعده، فأجابه الطبري بجواب فذٍ ينظر في جامع البيان للاستزادة.
4- تفسير {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وأن قول اللسان من الإيمان ولكنه لا يكفي:
"وفي هذه الآية دلالةٌ واضحة على بُطول ما زَعَمتْه الجهميةُ: من أنّ الإيمان هو التصديق بالقول، دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق، أنهم قالوا بألسنتهم:"آمنا بالله وباليوم الآخر"، ثم نفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذْ كان اعتقادهم غيرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُم ذلك."
ماهر: هنا الطبري لا ينفي كون قولِ اللسان من الإيمان، ولكنه يرد على من اكتفى به عن الاعتقاد، وبهذا النقل تكمل صورة الإيمان عند الطبري، فإنه لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يصدق عمله قول لسانه وعقد قلبه، وحتى يصدق عقد قلبه منطوقَ لسانه، فكلها (عمل الجوارح وقول اللسان وعقد القلب) متلازمة لا يكون المؤمن مؤمنًا إن أزال أحد هذه الأركان، بل بزوال ركنٍ يزول ما  يلازمه من الأركان الباقية، والطبري محقق لهذا التلازم هنا ومحقق لكون هذه الأركان يصدق بعضها بعضًا كما صرح أولًا بتصديق العمل القول، وصرح هنا بتصديق القلب نطق اللسان، ثم إن من أثبت نطق اللسان من الإيمان، سهل عليه إدخال العمل، وكل ما ينصبه المخالفون من الشبهات في إدخال العمل في مسمى الإيمان يتناول قول اللسان، ويتناول إذن تصريح الطبري.
5- تفسير {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} التصديق يكون بالفعل:
"قد دللنا فيما مضى على أن"الإيمان" التصديق. وأن التصديقَ قد يكون بالقول وحده، وبالفعل وحده، وبهما جميعًا. فمعنى قوله:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم" -على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة-: وما كان الله ليُضيع تصديقَ رَسوله عليه السلام، بصَلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره، لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي، واتِّباعًا لأمْري، وطاعةً منكم لي."
ماهر: التصديق عند الطبري ليس هو قول القلب تحديدًا، وليس قسيمًا لقول اللسان وعمل الجوارح، ولكن يطلق على الواحد منهما أو عليهما معًا كما ذكر، لذا فقد جمع بين تفسير الإيمان بالتصديق وبين إدخال العمل في مسماه، وليس مراده التصديق الذي يعتمده المرجئة وهو إثبات النسبة الخبرية المحضة، بل التصديق عنه يشمل ابتداءً عملان جارحيان، القول والفعل.