الجمعة، 18 أغسطس 2017

الطبري السلفي : بحث في عقيدة الإمام الطبري كما ظهرت في تفسيره جامع البيان ج4- توحيد الألوهية


توحيد الألوهية


ما الذي يهمنا في تحقيق هذا الجزء من عقيدة الطبري؟
يهمنا إظهار تقرير الطبري ما يأتي:

1- إثبات الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، بغض النظر عن تسمية كل قسمٍ منهما وعنونتهما بهذين العنوانين، وأن التحقق بالأول لا يكفي ولا ينجي ولا يتم إلا بالثاني، وأن ثبوت القسم الأول لا يمنع انطباق وصف الشرك وعبادة غير الله على مستحقهما إن لم يحقق القسم الثاني.
2- إثبات أن المشركين كانوا يؤمنون بخالقية الله وتفرده بالربوبية، وأنه هو الآذن الوحيد بالشفاعة، وأن لا أحد من عباده له أدنى استقلال بشيء، أو إثبات أن بعضهم على الأقل كان يؤمن بهذا ولم يدفع ذلك وصفهم بالشرك، ولم يغن عنهم شيئًا حين صرفوا العبادة لغير الله، فإثبات هذا في رجلٍ واحدٍ سماه الوحي مشركًا كافٍ في إثبات المطلوب، إذ المخالف يزعم أن (كل) شركٍ شرطه اعتقاد استقلال وتفرد بخالقية أو تصرف، والكلية الموجبة تنقض بجزئية سالبة.
3- إثبات انفكاك مسمى العبادة عن اعتقاد الخالقية أو الاستقلال بشيء، وأن الشخص يسمى عابدًا لغير الله وإن لم يكن يعتقد في هذا المعبود أنه مشاركٌ لله في القدرة على الخلق، والخلق مفهوم عام يندرج تحته خلق النفع والضر والفعل استقلالًا والتدبير والتصرف في المخلوقات والاستقلال بإيجاد شيء أو الاستقلال بفعلٍ ما كشفاعةٍ أو غيرها، فنفي قدرة موجودٍ ما على الخلق نفيٌ لكل ما سبق بالتضمن ضرورةً، فهو لا يملك إلا التصرف في موجودات محكومة بسنن وأسباب والحركة في حدود ما تسمح به، فلا يملك أن يستقل فيها بخلق شيء.
4- إثبات أن التشفع ودعاء الأموات والاستغاثة بهم عبادةٌ لغير الله وتلبسٌ بشرك، وأن هذا الفعل يسمى عبادةً ودعاءً لغير الله وإن لم يعتقد الداعي في المدعو استقلالًا بشيء من خلق أو تدبير، وإثبات الفرق بين الدعاء الغيبي والطلب التسببي العادي، وأن الأول عبادة لا تصرف لغير الله بخلاف الثاني.
فإذا ثبت عند الطبري الفرق بين توحيدي الربوبية والألوهية، أو مضمون قسمي التوحيد هذين بغض النظر عن تسميتهما ربوبيةً وألوهية، وأن المشركين كانوا يؤمنون بالأول ويجحدون الثاني، وأن إيمانهم بالتوحيد الأول لم يمنع تسمية ما صرفوه لغير الله بأنه عبادة، ولم يمنع عنهم وصف الشرك، ثبت بطلان عقد دعاة الأموات الذين ينازعون فيما سبق ويسوغون بهذه المنازعة صنيع القبورية الجائرين الأموات، وأنهم بمنأى عن عقائد السلف وفهمهم المتمثل بأفضل مصداق تفسيري، تفسير الطبري.

1- قال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وبعد أن نقل الأقوال في تفسيرها وبأن مجاهد جعل المقصودين بالآية أهلَ الكتابين:
 "وأحسب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها، وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته، غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جل ثناؤه: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)، وقال: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) فالذي هو أولى بتأويل قوله: "وأنتم تعلمون" - إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل ثناؤه عنى بقوله: "وأنتم تعلمون" أحد الحزبين، بل مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم، لأنه تحدى الناس كلهم بقوله: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم" أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله وأنه لا شريك له في خلقه، يشرك معه في عبادته غيره، كائنا من كان من الناس ..." اهـ
قلت: فانظر رحمك الله كيف نسب الطبري إلى مشركي قريش أنهم كانوا يقرون بوحدانية ربهم في الخلق والرزق والإبداع، كما يقر أهل الكتابين، ولاحظ أمرين:
الأول: تعبيره عن عقيدتهم بالوحدانية.
الثاني: كيف استدل بالآيات التي يستدل بها مخالفو القبورية ودعاة الأموات من بعده لهذا المطلب، وهو جعل شركهم في العبادة لا في توحيد الخالقية.
وهنا يظهر ما سيزداد جلاؤه ويتأكد فيما بعد من أن الطبري لا يجعل الاعتقاد بخالقية ورازقية المقصود شرطًا في تسمية الفعل المصروف إلى هذا المقصود عبادةً، وأن المشرك قد يجمع بينهما فيكون موحدًا في الأولى -الخالقية- مشركًا في الثانية -العبادة-.
وبغض النظر عن  تعريف العبادة أو تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية، فالأمر أبسط من هذا بكثير ولا يحتاج تبرعنا بنقاش صحة تعريفنا للعبادة وتفريقنا بين التوحيدين، وإنما يكفي أن نقول: ها هنا مشركون اعتقدوا عقيدةً لم تنفعهم، ولم تدفع عنهم وصف الوحي إياهم بأنهم "عابدين لغير الله" ومشركين، فمن زعم أن هذه العقيدة تنفع مرتكبي هذه الأفعال اليوم لزمه أن تنفع مشركي الأمس، وهذه لعمري موافقةٌ من الطبري للوحي كما عوَّدنا، وتأكيد على ما صرح به وأظهر.

2- وفي تفسير {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال أبو جعفر:
"يقول تعالى ذكره: وما يقر أكثر هؤلاء الذين وصف عز وجل صفتهم بقوله: (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) بالله أنه خالقه ورازقه وخالق كل شيء (إلا وهم مشركون)، في عبادتهم الأوثان والأصنام، واتخاذهم من دونه أربابا، وزعمهم أن له ولدا، تعالى الله عما يقولون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل"
قلت: مرة أخرى يفصل الطبري بين (عقيدة التوحيد في الخلق والرزق) وبين (فعل عبادة غير الله)، فلا يشترط الأولى لتحقق مسمى الثانية، بل يجمع المشرك بينهما ولا تدفع عنه العقيدة الأولى صحة وصفه بالفعل الثاني، فهو موحد لله في الخالقية ومشرك في العبادة في الوقت نفسه.
ثم إن اعتقادهم بأن الله خالق كل شيء كما ذكر الطبري- يدفع تأويلات المنافحين عن هذه الأفعال من المعاصرين الذي زعموا أن من شرط العبادة أن تعتقد في المعبود استقلالًا بشيء من النفع والضر، فإن اعتقاد المشركين بأن الله خالق كل شيء يعني بالضرورة أن كل ما عداه مخلوق غير مستقل عنه بشيء، فكل شيء مخلوق له، ومع هذا هم مشركون لم ينفعهم عقدهم هذا، وهم عبادون لغير الله، فلم ينفعهم أنهم لا يثبتون للمخلوق الذي قصدوه خلقًا واستقلالا، ولم يمنع تسمية فعلهم الذي قصدوه به عبادةً.
ثم يذكر الطبري مناطات مختلفة للكفر، كعبادة الأوثان والأصنام، واتخاذهم من دون الله أربابًا، وزعمهم له الولد.
ونلاحظ أن الطبري لم يكن يفرق في الإطلاق بين وصفي الإله والرب ، بل يعبر بالرب عن الإله والعكس، وهذا لأنهما متلازمان، إن افترقا اجتمعا وإن اجتمعا افترقا، كالإيمان والإسلام مثلًا، فالتقسيم إلى ربوبية وألوهية المهم فيه هو المعنى لا تسمية الأول "ربوبية" والثاني "ألوهية" فلا ينبغي التغبير ومعارضة هذا التقسيم معارضةً ساذجة كلما وجد المخالف كلمة "رب" أو "أرباب" في الوحي  أو كلام العلماء مُعَبَّرًا بها عن الإله، فإن كلًا منهما يعبر به عن الآخر بلا إشكالٍ على أصل التقسيم الثابت قطعًا.
ولنسمه تقسيم التوحيد إلى توحيد علمي وتوحيد عملي، أو توحيد خالقية وتوحيد عبودية، أو غير هذا مما يهمنا فيه إيصال المقصود، لا خصوص لفظ (ربوبية) و(ألوهية).

3- وفي تفسير {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} قال أبو جعفر:
"يقول - تعالى ذكره -: والذين اتخذوا من دون الله أولياء يتولونهم، ويعبدونهم من دون الله، يقولون لهم: ما نعبدكم أيها الآلهة إلا لتقربونا إلى الله زلفى، قربة ومنزلة، وتشفعوا لنا عنده في حاجاتنا ...ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو ... عن مجاهد في قوله: ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) قال: قريش تقوله للأوثان، ومن قبلهم يقوله للملائكة ولعيسى ابن مريم ولعزير." اهـ
قلت: هاهنا فوائد:
الأولى: إثبات أن المشركين صرفوا العبادة لآلهتهم لا لتدبر لهم أو تنفعهم أو تضرهم في حوائجهم استقلالًا وخلقًا وإبداعًا كما يزعم مسوغو الأفعال الشركية اليوم، وإنما لتقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده في حاجاتهم، فحاجاتهم تحقيقها من الله سبحانه لا من هذه المعبودات.
الثانية: يثبت هنا مرةً أخرى أن تسميتهم "عابدين لغير الله" وتسمية معبوداتهم "آلهة" يكفي فيه أن يصرفوا أفعالًا معينة إليها وإن لم يعتقدوا فيها إلا الشفاعة! فليس شرطًا أن يعتقدوا فيها خلقًا أو رزقًا أو تدبيرًا أو أي تصرف استقلالي في حاجاتهم، بل يكفي اتخاذها شافعة إلى الله في تحقيق تلك الحاجات وصرف هذه الأفعال إليها ليكونوا "عابدين" لها ولتكون "آلهة"!
الثالثة: أن الشفاعة الشركية شملت في تفسير مجاهد تشفُّع اليهود والنصارى بأنبيائهم وبالملائكة، مع أن اليهود والنصارى لا يزعم أحد منهم أن شفاعة هؤلاء  تكون بغير  إذنه سبحانه أو أنها شفاعة ملزمة لمن هو ناقصٌ في الملك أو التدبير، ومع هذا تناولتهم الآية وعدوا عابدين لهؤلاء رغم عدم اعتقادهم فيهم الخالقية أو الرازقية أو التدبير! وفي هذا ردٌ على من يفرق بين مرتكبي هذه الأفعال اليوم ومرتكبيها أمس بأنهم اليوم يتشفعون بأولياء وأنبياء خلافا لمشركي قريش المتشفعين بجمادات، فهاكم أهل الكتاب.
قد يقال: اعتقدوا فيهم الشفاعة الملزمة التي تجبر الإله على قبولها.
فنقول: هذا أعظم انتقاص لملك الإله وتفرده بالتدبير والخلق والإجارة، وقد ثبت في الوحي أن المشركين كانوا لا يشركون في هذه الأمور كما ذكر ذلك الطبري، فهذا النوع من الشفاعة الإجبارية التي تنقض خالقية الله وتدبيره وتصرفه وملكه لم يكن هو مناط شركهم قطعًا لأنهم ما اعتقدوها، ثم من قال إنكم لا تقولون هذا بلسان الحال؟ وإلا فلم تدعون هؤلاء ولا تدعون الله مباشرة لو كنتم تعتقدون حقًا أن الأمر كله لله في النهاية، وأن شفاعة هؤلاء لا قيمة لها ما لم يأذن الله ويقبل إجابتهم وإعانتكم.
ثم إن مجرد عدم ذكره في الآية وعدم وروده في التفسير يمنع جعله مناطًا وشرطًا لتحقق وصف الشرك، ويكفينا معه المنع المجرد وعلى المخالف أن يثبته، ودون ذلك خرط القتاد.
نعم ربما نتنزل ونقول: اعتقد بعض المشركين هذه الشفاعة الإجبارية أو اعتقد بعضهم تصرف معبوداتهم، ولكن آخرون منهم أثبتوا الكمال والوحدانية المنافية لهذا النوع الخاص من الشرك، وعُدّوا رغم هذا مشركين، فلا يكون إذن شرطًا في تلبسهم بالشرك.

4- بيان توحيدهم لله بالدعاء عند الشدة وإشراكهم بدعاء غيره في الرخاء:
- ففي تفسير {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} قال رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: فإذا ركب هؤلاء المشركون السفينة في البحر، فخافوا الغرق والهلاك فيه (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) يقول: أخلصوا لله عند الشدّة التي نـزلت بهم التوحيد، وأفردوا له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ولكن بالله الذي خلقهم ... حدثنا بشر ... عن قَتادة، قوله: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) فالخلق كلهم يقرّون لله أنه ربهم، ثم يشركون بعد ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل."
وفي تفسير قوله تعالى {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال أبو جعفر: "أخلصوا الدعاء لله هنالك، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها، كما حدثني يونس قال: ... قال ابن زيد: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضر لم يدعوا إلا الله، فإذا نجاهم إذا هم يشركون."
وقال رحمه الله في قوله تعالى {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: "وإذا غشى هؤلاء موج كالظلل، فخافوا الغرق، فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له الطاعة، لا يشركون به هنالك شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره."
وقال في  تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا}: "يقول تعالى ذكره: وإذا نالتكم الشدّة والجهد في البحر ضلّ من تدعون: يقول: فقدتّم من تدعون من دون الله من الأنداد والآلهة، وجار عن طريقكم فلم يغثكم، ولم تجدوا غير الله مغيثا يغيثكم دعوتموه، فلما دعوتموه وأغاثكم، وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه في البحر، أعرضتم عما دعاكم إليه ربكم من خلع الأنداد، والبراءة من الآلهة، وإفراده بالألوهة كفرا منكم بنعمته"
قلت: لاحظ أن الوحي أثبت هنا استغاثةً شركية منافيةً للتوحيد، ودعاءً شركيًا هو عبادة لغير الله، فوجود هذا النوع من الشرك قطعي، وهو من مسائل الأصول لا الفروع والفقهيات الاجتهادية، فتهوين المنافحين عن الشرك من المعاصرين من هذا النوع وجعله كالطلب من الحي والاستعانة به واستغاثته تلبيسٌ باطلٌ منقوضٌ بهذه الآيات وبغيرها، فما هي حقيقة هذه الاستغاثة الشركية؟ ومتى تكون عبادةً لغير الله وشركًا؟ هل يشترط في المستغيث أن يعتقد في المستغاث به أنه يخلق شيئًا؟
مفسرنا الطبري يجيب الأخير قائلًا: لا.
فإن هؤلاء الداعين غير الله يذعنون بالعبودية ويستغيثون بخالقهم عند الخطر كما قال الطبري، وبالتالي هم لا ينكرون كونه الخالق المتفرد بالخلق كما ذكرنا عنهم مرارًا وكما أثبت لهم الوحي، ويؤكد ذلك قتادة بقوله "فالخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم، ثم يشركون بعد ذلك" فاعتقاد ربوبية الله لا يدفع وصف الشرك عنهم.
كما أن كلام قتادة مفيد من جهة أخرى، إذ هو يثبت تفرد الله بكونه "الرب" عند الخلق كلهم، وهذا تصريح من قتادة بالتفريق بين اعتقاد ربوبية الله وتوحيده بالعبادة، وذلك بنسبته للخلق اعتقاده سبحانه ربًا لهم، مع كونهم يشركون، مع التذكير بأننا لا نتمسك بلفظ "الرب" بل باستعمال قتادة هنا لهذا في الإشارة لقسم معين من التوحيد والاعتقاد.
وفيه فائدة ثالثة، وهي أن كل ما ورد من اتخاذ الأرباب عند المشركين يراد به أيضًا "الإله" وإنما يعبر بالرب عن الإله والعكس لبيان التلازم بينهما وارتباط الوصفين بعضهما ببعض وتناقض من فرق بينهما من المشركين بحيث أثبت خالقًا واحدًا وآلهة عدة.
ونذكرُ ملاحظةً مهمة،  لو كان المشركون يعتقدون في معبوداتهم أنها تشفع جبرًا وتلزم الله بالإجابة، لما تركوها في رخاءٍ ولا شدة، فتركهم إياها وقت الشدة ولجوؤهم إلى الله دليلُ كونه سبحانه هوالأعلى والأقوى والأعظم والأجدر بالإجابة عندهم والأقدر على نفعهم وإنقاذهم، فالزعم بأنهم كانوا يعتقدون في معبوداتهم الشفاعة الإجبارية الملزمة لله، ينقضه تخليهم عنها حال كونهم أحوج ما يكونون إليها، ولهذا قرعهم الوحي، وبين تناقضهم، فهم يزعمون أنها وسائل أقرب إلى الله من دعائه مباشرةً، ثم هم ينبذونها وهم أحوج ما يكونون إلى أقرب إجابة وأسرع إغاثة.
وهو ما نلزم به مرتكبي هذا المنكَرِ اليوم، أن: لِمَ تستغيثون بغيره و تسوغون ذلك بأنهم أولياء صالحون أقرب إلى الله وأجدر بالإجابة منكم إن دعوتموه مباشرةً؟ ثم إذا ألم بكم الخطر دعوتموه ولم تستغيثوا غيره ووحدتموه فلم تشركوا بالاستغاثة معه سواه؟
5- قال أبو جعفر في تفسير قوله تعالى {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}:
"فربي هذا الذي بيده نفعي وضرّي، وله القدرة والسلطان، وله الدنيا والآخرة، لا الذي لا يسمع إذا دعي، ولا ينفع ولا يضرّ. وإنما كان هذا الكلام من إبراهيم احتجاجا على قومه، في أنه لا تصلح الألوهة، ولا ينبغي أن تكون العبودة إلا لمن يفعل هذه الأفعال، لا لمن لا يطيق نفعا ولا ضرّا."
قلت: الملاحظ هنا أن (العبودة والألوهة) منفكة عند الطبري عن )اعتقاد خلق وتدبير النفع والضر في الكون(، وأن العبودة قد تصرف إلى من لا تُعتَقَدُ فيه هذه الأفعال، ويكون صرفها لهذا الذي لا تعتقد فيه هذه الأفعال شركًا.
فليس اعتقاد هذه الأمور فيه شرطًا لتسمية صرف تلك الأفعال إليه عبادةً، ومن ثم لتكون شركًا.
لهذا يحاجهم نبي الله إبراهيم قائلًا: كيف تصرفون العبادة -فتكونون مشركين ويقع عليكم اسم الشرك- لمن لا تعتقدون وتنسبون له هذه الأفعال؟
ولو كانوا يعتقدون أن له هذه الأفعال لما استقامت حجته عليه السلام، ولما ظهر عليهم بالبرهان، ولقالوا: بل نحن نعتقد أنه يخلق ويدبر نفعًا وضرًا وبالتالي -بناءً على كلامك يا نبي الله إبراهيم- يجوز لنا أن نعبدها لأننا نثبت لها هذه الأفعال، وأنت إنما عبت علينا عبادة من ليست له هذه الأفعال، فلا يتوجه علينا عيبك، لأننا صرفنا العبادة لمستحقها.
وهذا باطلٌ بطلانًا ظاهرًا لأدنى متأمل في طرق محاجة الوحي للمشركين، فإن نبي الله إبراهيم لن يلزمهم شيئًا لا يسلمون ملزومه، ولن يحاجهم بدليل لا يعترفون بمقدماته.
6- الموافقة بين الطبري والمعلمي في تعريف العبادة:
قال أبو جعفر مبينًا معنى رفع الجناح عن الطائفين في قوله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}:
"أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عُمرة القضيَّة، تخوَّف أقوامٌ كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيمًا منهم لهما، فقالوا: وكيف نَطوف بهما، وقد علمنا أنَّ تَعظيم الأصنام وجميع ما كان يُعبد من ذلك من دون الله، شركٌ؟ ففي طوَافنا بهذين الحجرين أحرَجُ ذلك، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام اليومَ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له! فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله" ... معناه: من معالم الله ... "فمن حَج البيتَ أو اعتمر" فلا يتخوَّفنَّ الطواف بهما، من أجل ما كانَ أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرًا، وأنتم تَطوفون بهما إيمانًا، وتصديقًا لرسولي، وطاعةً لأمري، فلا جُناح عليكم في الطواف بهما."
قلت: لاحظ أن كلام الطبري عن سبب نزول الآية، وأنه كان "خوف الصحابة من الوقوع في الطواف الشركي رغم اعتقادهم عدم خالقية الأصنام أو تدبيرها أو استقلالها بشيء، ويفهم هذا في تفسيره من أمرين:
الأول: تصريحهم بأن مجرد تعظيم الأصنام بالطواف الذي هو عبادة= شرك، وهذا أوضح دليل على عدم اشتراط اعتقاد الخالقية أو التدبير في وصف الشرك، لأن الصحابة تخوفوا من الوقوع في الشرك بالطواف حول حجرين كان عليهما صنمان، بلا شرط، رغم أنهم قطعًا لا يعتقدون لهذه الحجارةِ خالقية أو تدبيرًا!
فلاحظ ورعهم وتخوفهم رغم علمهم أن طوافهم إنما هو بالصفا والمروة لا بما كان عليهما من الأصنام.
الثاني: أن الآية التي رفعت عنهم الحرج بينت أن الفرق بين الحالتين هو: كون طواف أهل الشرك كان كفرًا وصرفًا للعبادة إلى هذين الصنمين، بينما طواف المؤمنين= طاعة لله وشريعة له واتباع وإيمان برسوله، فهو صرف عبادةٍ لله وليس للصفا والمروة، لأنكم ما طفتم بهما إلا بأمر الله ولأجله، فهو مقصودكم بفعل الطواف.
وليُلاحظ أنه بحسب تفسير الطبري فإن الوحي لم يفرق بين الحالتين تفريقَ مسوغي هذه المنكرات من المعاصرين، فلم يقل: إنكم في الأولى آمنتم بخالقية الصنمين أو استقلالهما بشيء من دون الله، بينما في الثانية تطوفون وأنتم لا تعتقدون هذا فيما تطوفون به.
ولم يقل لهم: أنتم لا تعتقدون فيهما الخالقية والتدبير وملك شيء من الكون، فلا جناح عليكم أن تطوفوا بهما!
كان يكفيه قول هذا لو كان هو الفرق، أو حتى الإلماح إليه، ولكنه بين لهم مناط الشرك الحقيقي، ومن العجيب أنك لا تجد هذه الشروط والمناطات التي يزعمها مسوغو هذه الأفعال اليومَ في آية واحدةٍ من كتابٍ الله، وإنما هي محض تخرصات وتمحلات في فهم أعظم نصوص الوحي، نصوص التوحيد، التي ينبغي أن يكون فيها أوضح البيان، ويبنغي أن تذكر فيها هذه الشروط المفرقة بين المشرك وغير المشرك بما لا يدع فسحةً للنقاش إن كانت فروقًا معتبرة، فكيف وظاهر هذه النصوص كلها تنقض مزاعم المسوغين من المعاصرين، لذا يتأولونها ويقيدونها بشروطٍ من لدنهم لا دليل عليها من منطوق الوحي ولا مفهومه الصحيح.
فمناط وصف العبادة الشركية المأخوذ هنا إذن: تعظيمٌ تعبديٌ لغير الله ليس في حقيقته طاعة لله في أمره، فإن كان سببه طاعة الله -الطواف بالصفا والمروة- ، كان التعظيم التعبدي في حقيقته لله الآمر به، وليس لغيره، ولم تعد عبادة شركية لغير الله.
وهذا الموضع فرحت به أيما فرح لكونه وافق مفهوم (عبادة غير الله) و(الشرك) الذي ذكره المعلمي رحمه الله، إذ قال في تعريف العبادة: "هي: خضوع اختياري يُطلب به نفع غيبي."
ثم شرح ذلك وبيَّن محترزات التعريف، ثم قال: "وهذا تعريف للعبادة من حيث هي، فإن أُرِيد تعريف عبادة الله عزَّ وجلَّ زِيد: (بسلطانٍ)، أو تعريفُ عبادة غيره، زِيد: (بغير سلطانٍ)"
فــ "الخضوع طلبًا لنفع غيبي" عند المعلمي قام مقام "تعظيم شيء... بمعنى العبادة له" عند الطبري.
أما قيد "بغير سلطان" عند المعلمي فللتفريق بين خضوع المسلمين التعبدي وخضوع المشركين الذي فرق بينهما الطبري بنفس الفرق وذلك بقوله: "كانوا يطوفون ... كفرًا، وأنتم تطوفون ... إيمانًا، وتصديقًا... وطاعة"، أي: بسلطان من الله.
ويستفاد من الأية وتفسير الطبري لها أيضًا: جواز وقوع الشرك ممن يعتقد خالقية الله وتدبيره المستقل، ووجوب الحذر من هذا الشرك ومعرفته، وأنه يكون بالعمل "كالطواف التعبدي بما لم يشرع لنا الطواف به" ولا يكون فقط بالاعتقاد، ولا يمنع هذا التلازم بينهما وإن لم يعترف به المشرك.
7- تفسير {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} قال أبو جعفر رحمه الله:
"وكان سبب اتخاذهم العجل، ما حدثني به عبد الكريم بن الهيثم ... عن ابن عباس قال: ... قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا ... وقال: كن عجلا جسدا له خوار. فصار عجلا جسدا له خوار، وكان تدخل الريح في دبره وتخرج من فيه، يسمع له صوت، فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا على العجل يعبدونه ..."
ثم قال أبو جعفر: "القول في تأويل قوله: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} يعني" وأنتم واضعو العبادة في غير موضعها، لأن العبادة لا تنبغي إلا لله عز وجل، وعبدتم أنتم العجل ظلما منكم، ووضعا للعبادة في غير موضعها. وقد دللنا -في غير هذا الموضع مما مضى من كتابنا- أن أصل كل ظلم، وضع الشيء في غير موضعه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع"
قلت: إذن هم عبدوا العجل وصرفوا له العبادة مع اعتقادهم وعلمهم علم اليقين ورؤيتهم رأي العين أنه من صنع السامري، وأنه ليس خالقًا مدبرًا أو مالكًا مع الله لشيء في الأرض أو السماء، ولكن لم يرفع عنهم هذا الاعتقاد وصف الشرك بمجرد أن وضعوا العبادة في غير  موضعها.
وبهذا تعلم وظيفتك عند خطاب مسوغي هذه الأفعال اليوم، وهي أن تخطو بهم خطوات ثلاث:
الأولى: هل الفعل المعين هذا مما يعبد الله به؟
الثانية: هل صرفه لما لا تعتقد فيه الاستقلال في ربوبية شيءٍ مانعٌ من تسميته عبادة؟
إن كان الجواب: نعم للأولى، ولا للثانية...
فالنتيجة الأولية: صرف  هذه الفعل لمقصودٍ غير الله عبادةٌ لهذا المقصود، وإن لم تعتقد فيه الربوبية.
الثالثة: أليس صرف العبادة لغير الله شركًا؟
إن كان الجواب: نعم...
فالنتيجة النهائية: هذا الفعلُ شرك.
بهذا المسلك اليسير تصل إلى النتيجة، فالخطوة الأولى تعرف بسهولة، فإن أحدًا لا ينكر أن الله يعبد بالدعاء والنذر والذبح وغير ذلك، أما الثانية فدليلها الآيات المتكثرة التي عاضدنا في فهمها الطبري وأكد تفسيرنا لها رحمه الله، والحمد لله.

8- حجج الله المتكررة على المشركين بأنهم يقرون بوحدانيته في الربوبية فلم لا يوحدونه في الأولهية:
* قال أبو جعفر في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}: "يقول تعالى ذكره: وأوثانكم الذين تدعون من دون الله أيها الناس آلهة لا تخلق شيئا وهي تخلق، فكيف يكون إلها ما كان مصنوعا مدبرا، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرّا."
قلت: فكيف تستقيم حجة الله على المشركين في الآية بحسب تفسير الطبري؛ لو كانوا فعلًا يعتقدون جميعًا أنها تخلق شيئًا أو تستقل بشيء؟ لا بد وأن بعضهم على الأقل تتناوله هذه الحجة ويقر بأنها لا تخلق شيئًا.
وإلا لأجابوا: من قال إننا نعتقد أنها لا تخلق شيئًا وأنها لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا لتحاجنا بهذا على بطلان عبادتها؟
وفيه فائدة أخرى: وهي في تسمية المعبودات آلهة، مع كونهم لا يعتقدون أنها تخلق شيئًا بل هي مخلوقة.
وفيه: الرد على الزاعمين بأن مشركي قريش لم يعتقدوا تفرد معبوداتهم بالخالقية وإنما اعتقدوا أن لها شيئًا من الخلق، فيرد الطبري كلامهم وينسب للمشركين عدم اعتقادهم في مخلوقاتهم أنها تخلق شيئًا، كما رد عليهم رحمه الله فيما سبق حين نسب لهم اعتقاد (وحدانية) الله بربوبتيه وخالقيته.

* وفي تفسير {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} قال أبو جعفر: "قد بينا فيما مضى معنى "الألوهية "، وأنها اعتباد الخلق. فمعنى قوله: "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم": والذي يستحق عليكم أيها الناس الطاعة له، ويستوجب منكم العبادة، معبود واحد ورب واحد، فلا تعبدوا غيره، ولا تشركوا معه سواه، فإن من تشركونه معه في عبادتكم إياه، هو خلق من خلق إلهكم مثلكم، وإلهكم إله واحد، لا مثل له ولا نظير."
ثم قال: "ثم عرفهم تعالى ... موضع استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم، فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من أن إلهكم إله واحد، دون ما تدعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حججي وفكروا فيها، فإن من حججي خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها، وما بثثت فيها من كل دابة، والسحاب الذي سخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظير شيء من خلقي الذي سميت لكم، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذر، وإلا فلا عذر لكم في اتخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولما تعبدون غيري. فليتدبر أولو الألباب إيجاز الله احتجاجه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوجز كلام، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على معرفة فضل حكمة الله وبيانه." اهـ
قلت: وهذه والله حجة الله البالغة التي ارتفع بها العذر عن كفار قريش، فحاجّهم بأنهم مقرون أن ربهم هو الخلاق المدبر المتصرف في الكون فكيف يعبدون غيره؟ ولو لم يكونوا مقرين بهذا= للزم إفحام المتكلم بحجة الوحي هذه كما بينها الطبري!
ويقال أيضًا للمستغيثين بالأموات اليوم: ألستم تقرون أن الله خالق كل شيء ومدبره ورازقه والمستقل به سبحانه؟ فلم تستغيثون بالأموات وتلجأون إليهم في الملمات ومدلهم النائبات وتتخذونهم من دون الله أربابا أقررتم بذلك أم جحدتم؟
إن قلتم: ليشفعوا.
قلنا: لا شفاعة عنده إلا لمن ارتضى وبإذنه، وليس يرضى بالشفاعة لمشرك، ثم إن الأمر إليه أولًا وأخيرًا فلم تنصرفون لمن هو دونه ليشفع شفاعةً لا تكون بغير إذنه؟
وإن قلتم: كالأحياء.
قلنا: الأحياء ثبت حسًا وشرعًا أن الله أذن لهم بأن يدعوا ويشفعوا بالدعاء بهذا المعنى، فبالحس علمنا الإذن الكوني، وإلا لشلت ألسنتهم قبل أن تدعوا، وأيديهم قبل أن ترفع، وبالنص علمنا الإذن الشرعي، فمن أثبت هذا للأموات؟ وهل أحسستموه منهم ضرورةً؟ فأنتم كمن يقيس الطواف باللات والعزى على الطواف بالكعبة لأن الكلَّ حجارة، فمن أذن في الأولى كما أذن في الثانية؟
ولا بد من التنبيه إلى الفرق بين طلب الدعاء وبين الاستغاثة المباشرة، وبين طلب الدعاء من قادرٍ عادةً وبين طلبه من غير قادرٍ عادةً إلا بخارقٍ أو اعتقادٍ بسرٍ وغيب.

* وقال أبو جعفر رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: "اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية ... فقال بعضهم: أنزلها عليه احتجاجا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" فتلا ذلك على أصحابه، وسمع به المشركون من عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أن ذلك كذلك؟ ونحن ننكر ذلك، ونحن نزعم أن لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله عند ذلك: "إن في خلق السماوات والأرض"، احتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا ما ذكرنا عنهم ..."

قلت: وهذه والله حجة بالغة، إذ احتج عليهم بما يقرون به ولا ينكرونه ليتوصل به إلى إثبات ما ينكرونه ولا يقرون به، ولو كانوا غير مقرين بالأول لبطلت الحجة رأسًا، وقد ذكر الطبري قولًا آخر في تفسير الآية عن عطاء ولكنه في النهاية رجح التفسير الأول.


* وفي تفسير {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال أبو جعفر رحمه الله:
"فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه، أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم، ونعمي التي أنعمتها عليكم - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة، وأخلصُوا ليَ العبادة، ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي، فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي"
قلت: فلو كانوا يخالفون في أنه هو المالك الخالق الرازق وحده= لبطلت حجة الوحي التي ذكرها الطبري والتي خلاصتها: كما توحدون الله في الربوبية= وحدوه سبحانه في الألوهية، إذ الثانية لا يستحقها إلا من ثبتت له الأولى.

* وفي قوله تعالى: { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} يقول أبو جعفر رحمه الله:
"وقوله (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لقومه: أتعبدون أيها القوم ما تنحتون بأيديكم من الأصنام.
كما حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) الأصنام.
وقوله (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لقومه: والله خلقكم أيها القوم وما تعملون. وفي قوله (وَمَا تَعْمَلُونَ) وجهان: أحدهما: أن يكون قوله"ما" بمعنى المصدر، فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم وعملكم.
والآخر أن يكون بمعنى"الذي"، فيكون معنى الكلام عند ذلك: والله خلقكم والذي تعملونه: أي والذي تعملون منه الأصنام، وهو الخشب والنحاس والأشياء التي كانوا ينحتون منها أصنامهم"
قلت: وهذه حجة أخرى من حجج الوحي على المشركين، بينها الطبري ليتأكد قولنا ومطلوبنا، وهو أن اعتقاد النفع والضر والاستقلال بخالقية شيء ليس  شرطًا لانطباق  اسم "عبادة غير الله" ووصف "الشرك" على من يصرف أعمالًا معينة للأوثان، فهنا تبنى الحجة على أمرٍ مسلمٍ عندهم، وهو أنهم يعبدون ما  هو مخلوقٌ لله، بل ما هو مصنوعٌ لهم هم المخلوقون أيضًا لله، فكيف يقال بعد هذا إنهم أشركوا بعبادة ما ينحتون لأجل أنهم اعتقدوا فيها استقلالًا ما، بينما هم يعتقدونها مخلوقةً لله، بل والوحي يبني على هذا الذي يسلمونه وينطلق منه بوصفه مقدمة مسلمة ليقول: فكيف تعبدون ما هو مخلوق لله -وأنتم تقرون بذلك- ولا تفردون بالعبادة خالقها المتصرف فيها الذي إليه ترجع الأمور؟

* وقال في تفسير قوله تعالى{لا يخلقون شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}: "يقول تعالى ذكره: وأوثانكم الذين تدعون من دون الله أيها الناس آلهة لا تخلق شيئا وهي تخلق، فكيف يكون إلها ما كان مصنوعا مدبرا، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرّا."
قلت: إذن ما كانوا يظنون أنها تخلق وإلا لبطلت حجة القرآن هنا ولقالوا: لا، بل هي تخلُق وتستقلُ بأفعالها من دون الله سواء كان فعلها نفعًا أو ضرًا أو شفاعة.

* وقال في تفسير قوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}:
"وإنما قلت هذا القول أولى بتأويل ذلك، لأن ذلك في سياق الخبر عن الآلهة والذباب، فأن يكون ذلك خبرا عما هو به متصل أشبه من أن يكون خبرا، عما هو عنه منقطع، وإنما أخبر جلّ ثناؤه عن الآلهة بما أخبر به عنها في هذه الآية من ضعفها ومهانتها، تقريعا منه بذلك عَبَدتها من مشركي قريش، يقول تعالى ذكره: كيف يجعل مثل في العبادة ويشرك فيها معي ما لا قدرة له على خلق ذباب، وإن أخذ له الذباب فسلبه شيئا عليه لم يقدر أن يمتنع منه ولا ينتصر، وأنا الخالق ما في السماوات والأرض ومالكٌ جميع ذلك والمحيي من أردت، والمميت ما أردت ومن أردت، إن فاعل ذلك لا شك أنه في غاية الجهل."
قلت: فلو كانوا لا يقرون بهذا لما كان هناك معنى لمحاجتهم بمثله، فسيقولون: لمعبوداتنا قدرة على الخلق، ولها أن تمتنع من الذباب لو شاء، فكان هذا دليلًا على أنهم كانوا يعتقدون بأن معبوداتهم وسائل إلى الله لا تملك لنفسها استقلالًا بشيء، كما يعتقد أمثلهم طريقةً اليوم.

* وفي تفسير قوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ () أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} قال أبو جعفر:
"وقوله: (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) يقول: أو تنفعكم هذه الأصنام، فيرزقونكم شيئا على عبادتكموها، أو يضرّونكم فيعاقبونكم على ترككم عبادتها بأن يسلبوكم أموالكم، أو يهلكوكم إذا هلكتم وأولادكم (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) . وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ذكر عما ترك، وذلك جوابهم إبراهيم عن مسألته إياهم: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) فكان جوابهم إياه: لا ما يسمعوننا إذا دعوناهم، ولا ينفعوننا ولا يضرّون، يدل على أنهم بذلك أجابوه. قولهم: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) وذلك رجوع عن مجحود، كقول القائل: ما كان كذا بل كذا وكذا، ومعنى قولهم: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) وجدنا من قبلنا ولا يضرّون، يدّل على أنهم بذلك أجابوه، قولهم من آبائنا يعبدونها ويعكفون عليها لخدمتها وعبادتها، فنحن نفعل ذلك اقتداء بهم، واتباعا لمنهاجهم."
قلت: وهذا  تفسيرٌ واضحٌ صريحٌ من الطبري ينسب فيه إلى هؤلاء المشركين -أو بعضهم على الأقل- الاعتراف بأن معبوداتهم ليست فقط لا تضر ولا تنفع، بل ولا تسمع الدعاء حتى! وأن عبادتهم لها محض تقليد مع عدم اعتقادهم فيها النفع والضر والسماع، ومع هذا كانوا مشركين، وكانوا عابدين لغير الله، فكذلك من يتذرعون بالتقليد اليوم لتسويغ أفعالهم، أو يشترطون اعتقاد النفع والضر الاستقلالي وغير ذلك من العقائد ليقبلوا بعد ذلك تسمية فعلهم عبادةً لغيرِ الله وشركا، فكل هذا غير معتبر عند الطبري وفي الآية كما فسرها رحمه الله.
وأنبه هنا أننا نتكلمُ متنزلين إلى كونهم اليوم لا يعتقدون النفع والضر والسماع في معبوداتهم، وإلا فبعضهم أسوأ حالًا من هؤلاء الذين ذُكِروا في الآية بحسب تفسير الطبري، وزعمهم عدم اعتقاد النفع والضر والسماع يكذبه لسان حالهم، وإلا ما دعوهم في قبورهم وجأروا إليهم من أقاصي البلاد، طالبين من جهتهم جلب النفع أو دفع الضر، ولو زوقوا كلامهم لتسويغ هذا، فإنهم متلبسون بأعظم من مجرد التقليد الكافي لتصحيح انطباق وصف الشرك على فعلهم كما انطبق على من فعل سبقهم.

* ونختم هذا المبحث فنقول:
بهذه الحجج نفسها وبتفسير الطبري عينه لها= نحاج أهل زماننا، واستواؤهم ومشركي قريش في جريان أدلة التوحيد عليهم دليلُ اشتراكٍ في الفعل المنكر الذي  تنقضه هذه الأدلة، فإنه لا فرق مؤثر بينهم يمنع من وصف فعلهم بالشرك في نفس الأمر، وكل الردود التي يتفصى بها المعاصرون عن أدلة التوحيد، ويخرجون بها من أن يشمل التقبيحُ أفعالهم، كان يمكن أن يتفصى بها مشركو قريش لو صحت، إلا أمورًا معينةً تصحح عذر المتأخرين، كإقرارهم بكلمة الشهادة وجهلهم أنهم ينقضونها بفعلهم، للعجمة والتأويل وتقليد الأكابر والالتصاق بالموروث.

9- يقول الطبري في قوله تعالى {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}:
"وقال هؤلاء الكافرون الذين قالوا: محمد ساحر كذاب: أجعل محمد المعبودات كلها واحدا، يسمع دعاءنا جميعنا، ويعلم عبادة كل عابد عبدَه منا (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) : أي إن هذا لشيء عجيب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) قال: عجب المشركون أن دُعوا إلى الله وحده، وقالوا: يسمع لحاجاتنا جميعا إله واحد! ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة. اهـ
قلت: لاحظ كيف فسر فهمهم لتوحيد الله الذي يدعوهم النبي إليه بأنه: إثباتٌ لمعبود واحد يسمع دعاءهم جميعًا ويعلم عبادة من يعبده منهم.
فكان مفهوم توحيد الله وجعله سبحانه إلهًا واحدًا كما فهموا من النبي = إفراده سبحانه بأن يُعبد وبأنه وحده يسمع الدعاء ويجيب الحاجات.
والسابق يخالف التصور المنحرف لمفهوم الألوهية عند مرتكبي هذه الأفعال اليوم، التصور الذي يجعلون فيه مع الله أندادًا يسمعون الدعاء ويجيبونه ويستغاثون في الملمات والنوازل كما يستغاث الله في عليائه، فمن لا يفرد الله بمثل هذا فهو يقول لنا بلسان الحال ما قاله المشركون بلسان المقال: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا!

10- قال الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا}:
"يعني بذلك جل ثناؤه: (وقل) يا محمد (للذين أوتوا الكتاب) من اليهود والنصارى (والأميين) الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب (أأسلمتم)، يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه  (فإن أسلموا)، يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له (فقد اهتدوا)، يعني: فقد أصابوا سبيل الحق، وسلكوا مَحَجَّة الرشد."
قلت: فما هو شرك اليهود والنصارى ما داموا يثبتون ربًا خالقًا رازقًا نافعًا ضارًا واحدًا؟
إن شمول هذه الآيات لأهل الكتاب مع علمنا  بأنهم يؤمنون بربوبية الله لأدل شيءٍ على مطلوبنا، وهو أن  عبادة غير الله ووصف الشرك ليس واحدٌ منهما مشروطًا باعتقاد ربوبية وخالقية المقصود.

11- بيان الشفاعة الشركية:
ففي تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قال الطبري:
يقول تعالى ذكره: ولا تنفع شفاعة شافع كائنًا من كان الشافع لمن شفع له، إلا أن يشفع لمن أذن الله في الشفاعة، يقول تعالى: فإذا كانت الشفاعات لا تنفع عند الله أحدًا إلا لمن أذن الله في الشفاعة له، والله لا يأذن لأحد من أوليائه في الشفاعة لأحد من الكفرة به وأنتم أهل كفر به أيها المشركون، فكيف تعبدون من تعبدونه من دون الله زعمًا منكم أنكم تعبدونه ليقربكم إلى الله زلفى وليشفع لكم عند ربكم. فـ (مَن) إذ كان هذا معنى الكلام التي في قوله (إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) : المشفوع له."
قلت: هذه حجة أخرى للموحدين على المشركين، مشركي قريش ومن تلبس بأفعالهم اليوم، يبينها الطبري في تفسيره، وهو أن المشركين في القديم والمتلبسين بأفعالهم في الحديث يقرون -أو بعضهم تنزلًا- بأن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن الله له في الشفاعة، وأن لا شيء يكون إلا بتدبير  الله وخلقه وتصرفه وأن له ملكوت كل شيء، فكيف تتشفعون بالأولياء إلى الله فتكونون عابدين لهم مستغيثين بهم مشركين به سبحانه والله لا يأذن بالشفاعة إلا لمن ارتضى؟
وفيه زيادةً على كونهم مقرين بأن الشفعاء لا يشفعون إلا بإذن الله= أن المشركين كانو يتشفعون بالأولياء، كما بعض أهل زماننا. فالتذرع بأن الفرق بينهم وبين من سلفهم أنهم يطلبون الشفاعة من الأولياء بينما طلبها أولئك من الجمادات= تذرعٌ ساقطٌ  بحسب الوارد هنا، فأولئك أيضًا كانوا يطلبونها من الأولياء، وقد سبق نقل محاجة الوحي للمشركين من أهل الكتاب وشموله إياهم بالتقريع وبأدلة التوحيد، وأهل الكتاب يدعون الأولياء الصالحين.
هذا آخر بحث عقيدة الطبري رحمه الله كما ظهرت في تفسيره، والحمد لله رب العالمين.