الخميس، 4 ديسمبر 2014

مسائل في التحسين والتقبيح العقليين


1- القبيح العقلي هو الذي يستحق صاحبه الذم، ويضيع نظام العالم ومعيار رجحان العمل إن لم يتميز، وأبرز القبائح -وهو الكافي إثبات قبحه في عقدنا-: الظلم والكذب، فكيف تعرف نبوة وكيف يؤمن بغيب وكيف ينتظم شيء في السماوات والأرض إن جوز العقل حاكما يفعل أي شيء لا لشيء ويضع الأمور حيث يضعها بلا إحكام ولا غاية حسنة.

2- الحسن والقبح العقليان ضروريان، منكرهما بإطلاق= مكابر.

3- المدح والذم منفكان عن الثواب والعقاب ولا يلزم من إثبات الأولين إثبات الآخرين، وفرق بين استحقاق العقاب والحكم بوقوعه.

4- من أثبت حسنًا وقبحًا عقليين بمعنى ملائمة الطبع وصفة الكمال والنقص؛ لزمه إثباتهما بمعنى استحقاق الذم والمدح ضرورةً، فمجرد وصف خلاف الملائم والنقص بالقبح يعني أن هاهنا ذمًا، ولو التزمت هذه القسمة على الحقيقة لرفع الخلاف. 

5- من أثبت حسنًا وقبحًا عقليين بمعنى ملائمة الطبع وصفة الكمال والنقص؛ لزمه إثباتهما في الغائب بعد إثبات تعليل الأفعال، فالعلة التي لأجلها يفعل الغائب تكون حكمة محبوبة له، وفعله الحكمة المحبوبة له حسن عقلًا كما أن فعل الملائم حسن عقلًا، وليس في ذلك جلب مصلحة أو لذة أو دفع مضرة وألم كما في الشاهد، وإنما حصول الحكمة المحبوبة المرادة، ونفي أمرٍ سابقٍ على الفعل يرجحه (الحكمة/المحبة) قول بالترجيح بلا مرجح، وهو ممتنع.

6- التفريق بين الأفعال وبين الصفات في الحكم بالنقص والكمال في التحسين والتقبيح العقليين ليس بشيء، فإن فعل القبائح فرع الاتصاف بالنقص في الحكمة أو العلم أو القدرة، فمنع صفة النقص القبيحة عقلًا يلزم تفريعه إلى المنع من الأفعال المرتبطة بهذا النقص، فكل فعل يلزم عنه وصف بنقص= فهو فعل قبيح عقلًا في الشاهد والغائب.

7- ليس كل ما حسن أو قبح في الشاهد= حسن وقبح في الغائب، ولكن بعض ما يحسن ويقبح في الشاهد يحسن ويقبح في الغائب، كالكذب والظلم، ويفرق بينهما بالإدراك الضروري حال التجريد قدر الاستطاعة، وبما لا يفعله إلا ناقصٌ مشتهٍ له، أو جاهل بقبحه، أو محتاجٌ إليه، أو عاجزٌ عن خلافه، فقد يكذب الكذّاب الذي يشتهي الكذب وقد اعتاده، أو الطفل الجاهل، أو من لا يحصّل مصلحته إلا بالكذب، ولا يكذب غيره هؤلاء في حكم العقل.

-8بعض الأفعال يحسنها الشرع، وبعضها حسن لذاته، وبعضها لصفة لازمة، وبعضها لاعتبار ما، والتفريق بين هذه الأوجه ضروريٌ بعد أن يوضع في سياق معين، ومدرك الفرق يلزمه إثبات حسن وقبح عقليين.

-9 تعليل ضرورة إدراك الحسن والقبح بالأغراض -قياسًا على الشاهد- ليس بشيء، فإنهما يتصوران منفكين عن الغرض، ويحكم بهما بحكم كلي حال تجريدهما عن الجزئيات والمواقف المعينة التي تظهر فيها الأغراض،كما أن الحكم بهما حاصل حال علم الحاكم بانتفاء المنفعة والمصلحة، وإن أريد بالغرض تحقق المحبوب المراد والحكمة الباعثة فهو حق.

-10 إرجاع التحسيين والتقبيح العقليين إلى رقة في النفس ليس بشيء، حتى تفسر هذه الرقة، هل هي نفس هذا الإدراك والصفة القائمة بالعالم والتي تجعله مدركًا للحسن والقبح العقليين فاعلًا للحسن تاركًا للقبيح؟ إذن لا جديد، ونثبت هذه الصفة في الغائب وهي الحكمة، وإن أريد أي شيء آخر رفضنا لزومه.

 -11 القبيح أو الحسن العقلي لا بد من التزامه فإنه لو لم يقبح أو يحسن شيء عقلا لما قبح أو حسن شرعا، فكيف تستحسن تصديق النبي الصادق وتقبح تصديق المتنبىء الكاذب أو تستحسن شرعة وتقبح ضدها ولا حكم عقلي هاهنا؟ وكيف تبطل دينا باطلا وتحق دينا حقا ومخالفك في الديانة قد يقول: لا أحاكم ديني بتحسين أو تقبيح عقليين، ولا أحاكمه بتحسين أو تقبيح مصدرهما شرعتك.

12- لو لم يكونا عقليين؛ لجاز تحسين الكذب وتقبيح الصدق، وهو خلاف ما ثبت في وصفهما شرعا، وبالتالي جاز كذب الشارع وأن يكونا خلاف ما أخبر من قبح بعض الأفعال وحسن بعضها، فإن قال الشرع: الكذب فجور والشرك ظلم، يكون من تكذيبه أن يقال: قد يكون الكذب برًا والشرك عدلا.

13- لو لم يكونا عقليين، لكان الصدق كالكذب، والشرك كالتوحيد، والظلم كالعدل، وتماثل المتضادات من الممتنعات، وكونها مختلفة في ذاتها -بل ومتضادة- يلزم منه اختلافها في الحكم الأخلاقي العقلي.

14- إثبات حسن وقبح عقليين بمعنى حسن صفة الكمال وقبح صفة النقص دون طرد حكم العقل فيما تقتضيه هذه الصفات من أفعال= تناقض، فلا بد من تحسين العقل ما تقتضيه صفة الكمال من أفعال و لا بد من تقبيحه ما هو ضدها.
15- التحسين والتقبيح العقليان من البدهيات، فكما أن الأدلة تنتهي إلى ضروريات لا يدلل عليها، فكذلك تعليل حكمنا على الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة بسبب كذا وكذا، لا بد وأن ينتهي إلى قبيح أو حسن ضروري، فـ (أ) قبيح لأنه (ب)، و(ب) قبيح لأنه (ج) .. وهكذا إلى قبيح مو مرجع حكمك بالقبح على الأشياء، وكذلك الأمر في التحسين، فثبت بكل ما سبق ثبوت القبح والحسن العقليين.

16- لامتناع ترجيح بلا مرجح؛ فإنه لا بد لكل فاعل مختار من حكمة وغاية في فعله يفعل لأجلها وتنتج عن فعله، وإلا كان سفيها عابثا، وحتى العابث لا نسلم صدور فعله لا عن مرجح وإنما كان مرجحه أمر غير الحكمة والعلم، كمستفز داخلي أو خارجي، فوجب كون فعل الفاعل كامل العلم لغاية وحكمة يعلمها ومحبوبة لذاتها أو لمآلها عنده، فثبت تعليل الأفعال.

17- الغرض لفظ مجمل، إن أريد به الغاية والحكمة فمقبول، وإن أريد به الاستكمال بالغير والتأثر به فباطل، فمن قال: استكمل بفعله وبحكمته وتأثر بغيره، كمن قال: استكمل بذاته وبصفته وتأثر بعلمه.

18- كما تنتهي المعلولات إلى علة غير معلولة= تنتهي الحكم والغايات المرادة لغيرها إلى حكمة مرادة لذاتها.

19- تسلسل الحكم بحيث أن تحققت حكمة يلزم منها تحقق أخرى وهكذا فيما لا يزال= تسلسل في المستقبل نثبته كنعيم الجنة.

20-كل من أثبت التعليل والحكمة؛ لزمه إثبات الحسن والقبح العقليين، فإنما اختار الفاعل أحد المرادين لكونه موافقًا لحكمته ومحققًا لغايته.

21-بعد ثبوت التعليل ثم إثبات القبح أو الحسن اللازم لبعض الأفعال؛ فإن الغاية والحكمة التي لأجلها يفعل الفاعل= إما حسنة وإما قبيحة.

22- إن ثبت أن القبح لازم لفعل معين = فإن فاعله يذم ضروروة إن كان غنيا عنه عالما بقبحه.

23- الكذب في الجملة قبيح مذموم، وأكثر أفراده قبيحة، ولا يفعله إلا من لا يتوصل إلى مطلوبه إلا به، والخالق عالم بقبحه غني عن الحاجة إليه فلا يفعله.

24- القبيح محل النقاش ليس هو القبيح النسبي وإنما ما لا ينفك عنه القبح، ويفرق بينهما بأن الثاني يدرك قبحه حال تجرده من العوارض، بحيث لا تتصوره حال عدم تقييده بموقف أو محل إلا قبيحا لا يفعل إلا اضطرارًا أو لمرجح خارجي من مصلحة أو عجز عن سواه.

25- الفعل القبيح عقلا يكون القبح ملازمًا لعنوانه ولمسماه المطلق بمجرد إطلاق اللفظ، فإنك تذم شخصا قائلا يا كاذب ولا تذمه إن قلت يا ضارب.

26- من القبيح ما تعلم كل جزئياته وتجزم بقبحها كالكذب، فكل خبر تدرك بداهةً أنه: إما كذب أو صدق، وأنه إن كان كذبًا فهو قبيح.

27- من القبيح ما لا تعلم كل جزئياته ويكفيك إثباته إجمالا وإثبات القطعي من جزئياته كالظلم، فليس كل فعل يمكنك أن تدرك وجه العدل أو الظلم فيه، وإن كنت تدرك الظلم والعدل في أمور معينة، ككون الأخذ بجريرة الغير وإخلاف الوعد والمساواة بين المختلفين في الجزاء ظلمًا، وعكسه عدل.

28-جاءت آيات في الإنكار على بعض من حكم بشيء من هذا في حق الخالق، ويستدل بها على نفاة الحسن والقبح العقليين لأنها جاءت في سياق الإنكار على من حكم بهذا مطلقًا، أو في سياق بيان قانون عدل، ولم تجئ إخبارًا عن عدم الوقوع والحكم الشرعي فقط.


29-القبيح العقلي قد يوجد ما هو أقبح منه فيصير أرجح إن حصل التخيير بينه وبين ذلك الأقبح المرجوح المصلحة، ولكنه يبقى قبيحًا، وللتقريب: أكل الميتة قبيح حتى عند نفاة التحسين والتقبيح العقليين بمعنى تعلق الذم والمدح، لمخالفته الغرض وعدم ملاءمته وإضراره بالنفس، ولكنه أحسن من الموت جوعًا قطعًا، ولم ينقلب حسنًا بالذات بسبب هذا الطارىء.

30-التحسين والتقبيح العقليين اللذين ينازع فيهما لا علاقة لهما بالثواب والعقاب بل إقحام الثواب والعقاب مغالطة وحصر للنقد في مقالة قوم جعلوهما لوازم لتعلق الذم والمدح، ولسنا منهم.

31- امتناع الفعل القبيح لا لكونه لا قبح أصلا، وليس امتناعه ذاتيا فيوجب عجزا، وإنما هو ممتنع لغيره، لكمال الفاعل وحكمته وعلمه بقبحه وغناه عنه، وبهذا يفهم الوجوب في إفعال الله حيث لا موجب سواه.
 
32- القول بوجوب الأفعال الحسنة فرع القول بوجوب الصفات الكمالية، فلا إيجاب حكمي للمخلوق على الخالق، وإنما هو إدراك العقل للوجوب الثابت في نفس الأمر واللازم عن كمال الخالق.

33- لا يجب فعل واجب على المولى إلا بأحد أمرين: بإيجابه على نفسه سبحانه، وهذا متفق عليه، أو بمقتضى كماله بحيث لا يفعل قبيحا ثبت قبحه عقلا ألبتة، وهذا محل النزاع، ومن أنكره فقد الثقة بالوجوب المتفق عليه.

34- نخالف بعض المعتزلة في ترتيب ثواب أو عقاب قبل الشرع والجزم بذلك.

35- نخالف المعتزلة في تقبيحهم أفعالا لا يعلم قبحها إلا نسبيا وبأمثلة ومواقف معينة يذكرونها في المخلوق خاصة به، وليس القبح لازما لها عقلا حال تجردها.

36-ما نثبته من قبائح أو محاسن عقلية= قليلٌ محصورٌ عضَّدَه الشرع ولم يستقل به العقل.

37- الثقة بتحسين العقل وتقبيحه فرع ثقتنا ببدائه عقولنا و أولياتها، فالطعن في هذه طعن في تلك، وكلاهما من تعليم الإله وفطرته التي فطر الناس عليها، فلا تكون كاذبة فيما تكشفه وتحكم به.