الجمعة، 19 مايو 2017

ملاحظات وتعقيبات على كتاب عبد الفتاح اليافعي "القرآن قديم أم محدث" الجزء الأول


1.    أورد المؤلف بين يدي البحث كلمات نافعة وآثارًا مفيدة في تقرير أن الحق أحق أن يتبع، وأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل وأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدت، وأرجو أن يلتزم المؤلف وأصحابنا هذا، فلا يصدفهم عن قولٍ أن قاله خصمهم، ولا يحملهم على نصرة قولٍ أن قال به أصحابهم أو قالت به كثرة، فإن الوحي لم ينط النجاة وإصابة الحق إلا بالعروة الوثقى والاعتصام بوحي، بفهم من أنزل هذا الوحي عليهم وزكيت بآياته فهومهم.

2.    ذكر المؤلف أن (القديم) له إطلاقان:
الأول: القديم المطلق: وهو الذي لم يسبقه شيء
الثاني: القديم النسبي: وهو القديم بالنسبة إلى غيره وإن كان مسبوقًا بعدمٍ أو مسبوقًا بشيء {حتى عاد كالعرجون القديم}.
وقرر أن المعنى الأول هو المقصود عند أهل العقائد، ولكن هذا غير مسلم بإطلاق، فإن من أهل العقائد من استخدم القديم بمعناه النسبي الثاني، ومنهم اللالكائي والكناني صاحب الحيدة كما سيأتي، بل لا يبعد أن يكون هو الأسبق عند من لم يعتادوا الاستعمال الكلامي لـ (القديم) أما الجهمية والمعتزلة وطوائف العصور التي تلت دخول المصطلحات الكلامية فقد يسلم فيهم كلامه.

3.    ذكر ورود استعمال لفظ القديم في كلام السلف، و ذكر ما رواه بن أبي حاتم في مناقب أحمد أن أحمد بن حنبل قال: "قيل لي: اكتب ثلاث كلمات ويخلى سبيلك، فقلت: هاتوا، قالوا: اكتب (الله قديم لم يزل) قال: فكتبت..."
ثم نقل قول الطحاوي في عقيدته الشهيرة: "قديم بلا ابتداء".
والاعتماد على مثل هذا لنسبة إطلاق القديم قولًا من أقوال السلف غير مستقيم، لسببين:
الأول: عدم التفريق بين مقام الإطلاق ومقام التقييد: فإنهم في الأثرين قيدوا، فالإمام أحمد قيد بـ (لم يزل) والطحاوي قيد بـ (بلا ابتداء)، فيكون الكلام بمقيده تفسيرًا لوصفه سبحانه بـ (الأول).
الثاني: أن الإمام أحمد كتب هذا  في ظرفٍ طارىء، ولم يقرره ابتداءً ويطلقه في مقام التعليم والتحرير، كما أن الطحاوي ليس من السلف بالاصطلاح المعروف (القرون الثلاثة) وإن كان من الأئمة المقتدين بالسلف والمقتدى بهم، فألفاظه يحتج لها لا بها.

4.    ذكر في معنى الحادث والحديث لغةً أنه: ضد القديم، والكائن بعد أن لم يكن.
وهذا صحيح، ويجب استحضار ما سبق ذكرهُ من أن القِدَم المقولَ هنا في مقابِل الحدوث= قد يكون القِدم النسبي لا المطلق.
وليلاحظ القارىء أن هذا التعريف للحديث والحادث يشمل أفعال الله الحاصلة بمشيئته واختياره، إذ ليس في اللغة أي شيء يخرجها عن أن توصف بهذا، فهي ليست قديمة باتفاق، بل جديدة -باتفاقٍ أيضًا-، واستحضارُ هذا مهمٌ في تقييم ما يأتي من كلام، إذ الأشاعرة والماتريدية يثبتون أفعال الله وأنها متجددةٌ ليست بقديمة.
كما تجدر الإشارة إلى أن هناك فرقًا بين (الحادث/الحديث) وبين (المـُحدَث)، فالله (أحدث) القلم بفعلٍ (جديدٍ حادثٍ) فكانَ (مُحدَثًا) بـ(إحداثِ) الله له، فالحادث أعم من المـُحدَث، فهو يشمل فعل الله (الإحداث) غير القديم، ويشمل مفعوله (المــُحدَث) غير القديم أيضًا، وهذا ينبهك أيضًا للفرق بين (الإحداث) و(المحدث)، وقد نقل المؤلف عن الجوهري تمثيله بـ "وأحدثه الله فحدث".
فلدينا أمورٌ  ثلاثة يجب التمييز بينها:
ملكةُ/قدرة الفعل (ملكةُ الإحداث) والفعل (الإحداث) والمفعول (المـُحدَث)
الأول في الله قديم، وآخر اثنين جديدان حادثان ليسا بقديمين.
والخلط بين الأخيرين من أسباب خطأ التصور عن الأشاعرة، إذ هم يجعلون الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق، وهذا أمرٌ خاصٌ بهم فلا يجوز أن يحاكموا السلف إلى عقيدتهم الكلامية الدقيقة هذه فيفسروا كلامهم العربي على ضوئها.
فليثبِّت القارىء هذه الملاحظة إذن في ذهنه، إذ أن المؤلف سيحاولُ الإتيانَ بأدلةٍ في محلِ النزاع بيننا وبين الأشاعرة، وسيحاولُ التدليلَ على أن السلفَ  منعوا مقالتنا، وليستقيمَ لهُ ذلك لابد وأن يكون في أي دليلٍ يأتي به التالي:
أولًا: أن يكونَ في محلِ النزاع، فما نُثبِتُهُ نحن هو تَجدُّدُ -حُدوث- كلماتِ اللهِ المعينة، وأن (تَكَلُّمَهُ/فِعلَهُ/تَكوينَهُ) يكونُ بمشيئتهِ واختياره، ليسَ بقديمٍ لا تتعلق به المشيئة، وليس هو (المفعول/المكوَّن/المـُحدَث) بل هما أمران متغايران، ونثبتُ نحن أن الله لم يزل مُتكلمًا متى شاء، فلم يكن عاجزًا عن الكلام ثم حدثت له هذه الملكة والصفة والعياذ بالله! بل هي صفةٌ أزليةٌ له وإن لم يتكلم بالفعل، كما أنك أنت أيها العبد الضعيف متصفٌ بالكلام متميزٌ بذلك عن الأخرس وإن كنت ساكتًا، ولكنك إن تكلمت بالفعل بالكلام المعين المسموع كان كلامك هذا المعين جديدًا حادثًا، دون يناقض هذا لملكة الكلام المتقدمة فيك، ولله المثل الأعلى.
فلابد وأن يكون قولنا هذا هو ما يمنعهُ السلف ليستقيمَ أي استدلالٍ للمؤلف، لا أن يمنعوا القول بمخلوقية القرآن وكونَهُ مُحدَثًا (أي: مفعولًا مخلوقًا) فيفهمَ المؤلفُ مخطئًا أنهم يمنعون مقالتنا بكونِه: فعلًا جديدًا ليس هو المفعول.
ثانيًا: أن لا يكون قولهمُ شاملًا لمقالة المؤلف مبطلًا لها، لأنه يحاول جلبهم إلى صفه، والأشعريةُ قائلون بالكلام النفسيِّ غيرِ المخلوق، وأن القرآن اللفظيَّ مخلوق، وقائلون بأن أفعالَ اللهِ جديدة، فيجب أن يكون كلامُ السلفِ غيرَ مبطلٍ لعقيدتهم في القرآن اللفظيِّ أنه مخلوق، وفي أفعال الله أنها جديدة.
وسيتبين لنا أن المؤلف لم يأت بشيء يحقق المطلوب، فكل ما أتى به إما خارجٌ عن محل النزاع، وإما مبطلٌ لمقالته هو إن فُهِمَ كلامُهُم حقَّ فهمِه، فضلًا عن كونِ كلامِهِم في القرآن اللفظي.

5.    ذكر المؤلف إطلاقات المخلوق، وأنه يطلق على: المـُقدَّر، وعلى المُنشَأ المُبدَع المُحدَث من العدم.
ونقل عن ابن سيده: "والخلق يكون المصدر ويكون المخلوق"
وهذا كلامٌ يجب أن يُستَحضَر، إذ تفريقُ العربِ بينَ الأمرين ثابت، فالله يخلقُ (مخلوقًا) (بِخَلق)، ويحدث (مُحدَثًا) بـ (إحداث)، فالمخلوقُ والمـُحدَثُ شيء، والإحداث والخلق المصدر- شيءٌ آخر، وقد صَرَّحَ بهذا إمامٌ سلفي هو البخاري رضي الله عنه بل ونسب مقالة الأشعرية للجهمية الضُلَّال كما سيأتي  فيما بعد، فليس الأمرُ بدعًا من القول ولا جديدًا من منتجات الكلام والفلسفة، بل هو قولٌ مميزٌ لأهلِ السنة عن الجهمية، فقولنا وتقريرنا قولٌ وتقريرٌ لغويٌ عقليٌ فطري ثابتٌ بالجَزمِ للسلف على لسان البخاري، كما قال به  الماتريدية من المتكلمين -أعني جزئية التفريق بين التكوين والمُكوَّن-، كما أنه مما يعرفه الإنسان من نفسه، فركلي للكرة ليس هو انفعالُ الكُرةِ بالتدحرج، بل هو فعلٌ قام بي مغايرٌ لمفعولي، وصناعتي للطاولة ليست هي الطاولة، بل صناعتي أفعالي التي قامت بي وتَرتَّبَ عليها اجتماعُ أجزاءِ الطاولة، فالتفريقُ بين الفعل والمفعول هو الأصلُ عند العرب لغةً وعقلًا وفطرةً حتى يثبت العكس، فلا يُحمَلُ كلامُهُم على غَيرِه، فمتى وجدنا في كلامِ السلفِ تقريرًا يَتَضَمَّنُ أمرًا مُتَعلِقًا بهذه المسألةِ وجبَ استحضارُ هذا الفرقِ اللغويِ الفطريِ عند تفسيرِ كلامِهم.
وهذا لا ينفيهُ الأشاعرةُ لغةً ولا مفهومًا، ولكنهم ينفونه كلاميًا، فنظريتهم الكلامية ألجأتهم للحكم بامتناع المغايرة الخارجية بين الفعلِ والمفعول، فقالوا بموجَبِ تلك النظرية، لا أن ذلك مدلولُ اللغةِ أو الفطرةِ والفهمِ البشري، إنما هو مدلولُ نظريةٍ كلامية عقليةٍ متأخرةٍ عن زَمَنِ المقالاتِ التي سيأتي نقاشُها، فلا تكونُ قَرينةً في فِهمها ولا مُبرِّرَةً لتأويلِها بحالٍ من الأحوال.

6.    خَتَمَ المؤلِّفُ هذه المقدماتِ بقوله: "والخلاصة أن المخلوق هو ما كان بعد أن لم يكن، وكذلك المحدث... إذن كل مخلوق محدث، وكل محدث مخلوق"
قلت: وإن كان الكلام قابلًا للحمل على معنىً صائب، ولكن هذه مصادرةٌ وتحكمٌ بلا دليلٍ مفيدٍ فيما سَبَقَ من نقولاتٍ لغوية، وذلك لوجوه:
الأول: أن (المخلوق) أخَصُّ من (الكائنِ بعدَ أن لم يكن)، فإن فعل الله كائنٌ بعد أن لم يكن، حاصلٌ بعد أن لم يكن حاصلًا، ثابتٌ جديدٌ ليس بقديم، أيقال فيه إنه مخلوق؟
الجواب: قطعًا لا وباتفاق.
ولا يفيدُ المؤلفَ أو الأشاعرةَ توسلهم في هذا الموضع بفلسَفَةِ التعلُّقاتِ الاعتباريةِ العدميةِ، لأن المؤلف في مقام بيان المدلول اللغوي الذي  على وفقه سيفسر كلام السلف المتكلمين بهذه اللغة، وهذه الفلسفةُ لم يعرفها العربُ ولا تدُلُّ عليها لا لغتهم ولا فطرتهم، فجزمًا لم يعرفها السلف وبالتالي= لا يفسر بها كلامهم، إذ الكلام في المعاني اللغوية لما سيأتي من نقول.
فأفعال الله جديدةٌ كائنةٌ بعد أن لم تكن لغةً، لا يخرجها من شمول هذا الوصف لها كونُها اعتباريةً أو عدمية، فلا مدخل لهذا عند العرب وعند هؤلاء اللغويين، ولا يبرر سلبها وصف الحدوث وقصره على الحادث الوجودي.
وبالتالي نقول: بما أن أفعال الله كائنة بعد أن لم تكن، فهل هي مخلوقة وفقًا لما قرره المؤلف من أن كل كائنٍ بعد أن لم يكن مخلوق؟
إن قال: لا لأنها عدمية اعتبارية.
قلنا: الكلام في المدلول اللغوي الذي احتكمت أنت إليه وقدمت به، لا في اصطلاحات ومفاهيم حادثة متأخرة، ولغةً الفعلُ ليس بقديم، ولا يقابلُ القديمَ إلا الحادث.
الثاني: أن لا شيء مما سبق نَقلُهُ يُؤيِّدُ قَولَهُ: "كل محدث مخلوق"، نعم نحن قد لا نخالفه إن أريد بـ (المـُحدَث) ما تفيده الكَلِمَةُ لُغَةً من معنى (المفعولية)، فَكُلُ (مَفعولٍ) بـ (فعلٍ) فهو (مُحدثٌ/مخلوق)، ولكن هل يشملُ هذا الإحداث (الفعل) الذي كان به المـُحدَث (المفعول)؟
هل يشمل نفس (الإحداث) أو مُطلقَ (الحوادث) أو كُلَّ (حديث) ليس بقديم؟ كأفعال الله عندنا وعندهم مثلًا؟
هذا ما تدل اللغة على خلافه، وما لا تفيده نقولات المؤلف بشكل من الأشكال، بل تُفِيدُ ضِدَّه، فالتفريقُ بين الخَلقِ (المصدر/الفعل) وبين الخلق (المفعول) ثابتٌ عند اللغويين وهو تقرير الإمام البخاري الذي ذكره مميزًا له عن الجهمية المبتدعة، كما قلنا ويأتي.

7.    بالتقريرات السابقة تظهر لك مصادرة كبرى للمؤلف، وهي  عنوان كتابه، فإنه قابل بين (القديم) و(المُحدَث)، مهملًا أن (المُحدَث) ليس نقيضًا لـ(القديم)، بل هو أخصُّ من نقيضه، فنقيضهُ (الحادث)، ثُمَّ (الحادث) إما أن يكون هو (الإحداث/الفعل) أو (المُحدَث/المفعول)، فالعنوان نفسه ينطلق من مصادرة عدم التفريق الجهمية هذه -بشهادة البخاري-، والأصح أن يقول: القرآن قديمٌ أم حادث.
8.    نقل المؤلِّفُ عن أحمد قوله: "وكل محدث مخلوق" ونقل مثله عن الدارمي، وهذه أولى السقطات التي ستتكرر فيما يأتي، فإن هذا لا إشكال فيه لغةً، فالمـُحدَثُّ هو (المفعول) كما بيَّنَّا، ومَحلُ الكلامِ والنزاعِ بيننا وبينهم هو (الفعل) و(الإحداث)، لا (المفعول) و(المـُحدَث) الذي لا نزاع بيننا وبينهم فيه أنه هو (المـُخلوق) الكائنُ بــ (الفعلِ/الإحداث).
ونكرر بأن التفريق بينهما لغويٌ ثابتٌ ومصرحٌ به على لسان البخاري، وجاحدُ التفريقِ مطالبٌ بدليلِ التسويةِ بينهُما لغةً وعقلًا، ثم هُوَ مطالبٌ بدليلِ نسبة هذه التسويةِ إلى السلفِ وأهلِ اللغة، أما الأشاعرةُ فلا يُفِرِّقونَ بينَهُما في الخارجِ بخلافِ أهل السنة والماتريدية، وذلك لأدلة كلامية عند الأشاعرة لا علاقة لها باللغة، فمن المغالطةِ أن يَستَحضِرَ المؤلِّفَ هذه القضيةَ الأشعريةَ العقديةَ ثم يأتي ويُفسرَ كلماتِ العلماءِ على وِفقها.
ومن الملاحظات الغريبة أن كتاب الإمام أحمد (الرد على الزنادقة والجهمية) مما يجهد الأشعرية في نفي نسبته للإمام أحمد، وذلك لما فيه مما ينقض مذهبهم جملةً وتفصيلا، فهل يقبل المؤلفُ أن نحتكم إليه في معرفة مذهبِ الإمام أحمد في كلامِ اللهِ والقرآنِ وبقيةِ الصفات؟ أم هو اجتزاءٌ مخل؟ وكذلك الأمر بالنسبة للدارمي.
وهذا للأسف مما يكثر في السجالات العقائدية، أعني ظاهرة الاستدلالِ التحكميِ والبتر المـُخل، لا أريدُ بَترَ الكلامِ عن سياقِه فقط، وإنما البترُ عن مُجمَلِ مَنهجِ الإمامـ أو بَقيَّةِ كلامِهِ في المسألة، بدلًا من جمع النَظيرِ إلى نَظيرِه للخُروجِ بفكرَةٍ مُتكامِلة.
وإلا فالإمام أحمد يجعل كلامَ اللهِ -غير المخلوق- بمشيئته سبحانه! فهو فعلٌ له سبحانه إذن، يتكلم متى شاء كيف شاء، كما أنه يجعلُهُ بحرفٍ وصوت، وكُلُّ هذا يُنافي أن يكونَ كلامُ الله عِندَ الإمامِ قديمًا، فلا يفيدُ نقلُ مثل هذا الكلام عنه وإهمالُ بقيةِ كلامه، لاسيما وأن هذا الكلام عندنا كالسمن والعسل المصفى، إذ كُلُّ مُحدَثٍ عندنا مخلوقٌ مفعولٌ بإحداثِ اللهِ وفعلهِ وخلقهِ، فالكلامُ بيننا والنزاعُ في هذه الأفعالِ والمصادر، أهي مخلوقةٌ أم لا، وليس الكلامُ في المفعولاتِ المحدثات المخلوقات.

9.    نقل عن الأشعري وابن حجر ومن بينهما، وليسوا من السلف ولا يُحتَجُّ بقولِهم رحمهم الله، لاسيما من كان مِنهُم على عَقيدَةِ ابنِ كُلَّاب، فمن أخذ بِعلمِ الكَلامِ وتأثر به من طبقة ابن كُلَّاب ومن بعده ممن لا يُهِمُّنا قَولُه، لأننا لا نَمنَعُ أن يكونَ قائلًا بقولِ الكلابية، فإيرادُ المؤلِّفِ لهم في مقامِ الاحتجاجِ على المخالفِ ليسَ بسَديد، وتلبسٌ بمغالطةٍ معروفة، أعني مغالطة الاحتكام للجمهور، إذ المخالفُ يُسَلِّمُ له أنَّهم يَنفون الحـُدوث والتَجَدُّدَ عن الكلام، بل هو ليسَ فعلًا عندهم أصلًا ولا تتعلق به المشيئة، ولكن لا يرى من يخالفُ المؤلِّفَ قولَهُم حُجَةً، بل يَرُدُّ عليهم  بالوحيين وبكلام السلف، دون أن يهتز له طرف.

10.                      أنَّ نُقولَ المؤلِّفِ عن الأئمةِ لم تخرج عن الأحوالِ التالي:
أولًا: نَفيُهُم كَونَ القُرآن مُحدثًا، وهذا لا دليلَ فيه كما بيَّنَّا، إذ المـُحدَثُ عند أكثرهم هو المخلوق - وإن وقع نزاع قديم في المسألة بعضه لفظي سنتطرق له-، وكلامنا مُتَسِقٌ لغويًا للفرق بين الإحداث (الفعل) أو الحادث (الأعم الذي يشمل الفعل والمفعول) وبين المحدث (المفعول)، فلابد وأن يستحضر تفريقنا واللغويين والسلف قبل أن يظن هذا الكلام مبطلًا لمقالتنا.
ثانيًا: إثباتهم قدم كلام الله، وهذا لا دَليلَ فيه، إذ كلامُ الله يكونُ قديمًا باتفاقٍ باعتبارات كثيرة منها:
الاعتبار الأول: اعتبار كونه من علمه سبحانه، فجمل القرآن وسوره من علم الباري القديم، وهو يعلم أنها من كلامه الذي سيتكلم به عز وجل في المستقبل، وبهذا كانوا يردون على الجهمية الذين قالوا بأن جمل القرآن اللفظية حادثة من تعبير جبريل  أو النبي وليست من علم الله القديم الذي جاء النبي {من بعد ما جاءك من العلم} بل بعضُ الجهمية التزمَ أن هذه الجمل والألفاظ من علم الله، وليخرج من المعضلةِ قالَ بأن بعض علمِ الله مخلوق، فكفروهم وكان ردهم على هؤلاء بأن القرآن اللفظي هو الذي أوحي إلى النبي من عِلمِ الله القديم، فهو قديمٌ في علم الله سبحانه لم يستحدثه جبريل أو النبي كشيءٍ جديدٍ مغايرٍ للعِلمِ الموحى به كما في الآية {من بعد ما جاءك من العلم}، واستحضارُ المقالات التي كان يرد عليها السلف من الأهمية بمكان لتجنب سوء الفهم ولمعرفة موارد الكلام.
الاعتبار الثاني: اعتبارُ أن الله لا زال متكلمًا -بالقوة- منذ القدم، قادرًا على الكلام متى شاء منذ الأزل -كما أنه قادرٌ على الخلق منذ الأزل ولم يفعل فعل الخلق بعد- وقد ضربنا لذلك مثلًا من الشاهد فيما سبق بك أيها العبد الضعيف، فأنت متكلمٌ لستَ بأخرسٍ وإن لم تكن تتكلم بالفعل،  ولكن صفة وملكة الكلام متحققة فيك، ثم إن شئت تكلمت وإن شئت لم تتكلم.
الاعتبار الثالث:  اعتبارُ جنس الكلام، وكونه لازال متكلمًا عز وجل كلامًا قبله كلام، فجنس الكلام لله قديمٌ سبحانه بهذا الاعتبار.
الاعتبار الرابع: كونه قديمًا بالمعنى النسبي للقدم، أي أنه متقدم على المخلوقات وبه كانت المخلوقات، وليس هو مخلوقًا، فاستعمال القديم فيما يقابل المخلوق بمعنى تقدمه عليها= لا يقتضي أن يكون قديمًا بالمعنى المطلق الكلامي، بل كونه فقط قبل أول مخلوق، فيطلق عليه أنه قديم، أي متقدمٌ.

إذن فإننا حين نثبت التجدد وننفي القدم فإن كلامنا ينصب على اعتبارٍ واضح معين، وهو:
كلماته سبحانه المـُعيَّنَة، وفعل التكليم والتكلم بكلامٍ مُعينٍ منه سبحانه، تكلُّمُهُ مع الملائكةَ حين سألوه، مع موسى حين ناداه، مع عَبدِهِ حينَ يحاسبُهُ اللهُ يوم القيامة، وتَكلُّمُهُ إلى الشيءِ بـ (كن) ليكون.
هذا الاعتبار هو محل النزاع، أهو قديمٌ ليس بمشيئته واختياره، أم جديدٌ حادثٌ- بمشيئته واختياره كبقيةِ أفعاله؟ فوصفُ من وَصَفُ كَلامَ اللهِ بالقدم مريدًا تلك الاعتبارات لا يُضادُّ القولَ بأنه يَتكَلَّمُ بِكلامٍ جَديدٍ كما شاءَ سُبحانه.
ثالثًا: نَفيُهُم أن يَقَعَ على كلامِ الله اسمُ خَلقٍ أو حَدَث، وهذا حَقٌ أيضًا لا أدري ما علاقته بمحل النزاع، إذ اسم الخلق والحدث لا يقعان إلا على (المخلوقِ/المـُحدَث/المُكوَّن)، وليس عَنهُم الكلامُ بل عن المصادر (الإحداث/الفعل/التكوين)، عن أفعالِ الله وكلماتِه الجـَديدة لجبريل وموسى، عن التَكَلُّمِ والتَّكليمِ والتَكوينِ كفِعلٍ جَديدٍ حادثٍ- ليس بقديمٍ وليس هو المخلوق أو المُكوَّن، كما صرح البخاري وكما يعرف أهل اللغة والفِطر السليمة.
رابعًا: نقل تسويةِ بعضهم القول في علم الله بالقولِ في كلامه، وهذا استدلالٌ يصنعه كل الصفاتية لإثبات صفات مختلفةِ الحقيقة، فهل يقتضي إلزامُنا للمخالفِين أن يقولَ في الصفات التي ينفيها ما يقوله في الصفات التي يثبتها مما يقتض تماثل هذه الصفات في الحقيقة؟ إنما هو إلزامٌ لهم أن يقولوا فيما ينفونه نفس كلامهم فيما يثبتونه أو العكس، فهي معارضةٌ وبيان لانتقاض أصولهم في صفات أخرى يثبتونها، ولا يعني هذا أن الكلام هو العلم والعلم هو الكلام، ومثل هذا ليس محلَ نزاعٍ بيننا وبين الأشعرية إذ هم يصرحون بمخالفة حقيقة الكلام لحقيقة العلم، وسترى بأن المؤلف سيتناقض، إذ في كلام السلف تسويةُ القولِ في كلام الله بالقولِ في مَغفِرَتِه، ومَغفِرَتُهُ فِعلٌ جَديدٌ يقع بعدَ المعصيةِ والتوبة، ولكن المؤلف يهمل هذا ولا يبالي إلا بما يظنه مفيدًا له في مطلوبه.
ثم إن فرضنا أن وجه التسوية بالعلم هو القِدَم بالمعنى المطلق، فإن الكلام يكون قديمًا كالعلم باعتبارات مختلفة ذكرناها سابقًا، بل وباعتبار مهم وهو كونه من علم الله القديم {من بعد ما جاءك من العلم} وليس من فعل جبريل أو النبي للتعبير عن المعاني التي أوحاها الله كما زعم القائلون بخلق القرآن، فجمل القرآن قديمة من علمه، وصفتها بأنها (كلامٌ للهِ) قديمةٌ أيضًا، وإنما تكلُّمُ الله بتلك الجُمَلِ القُرآنيَّةِ وإسماعُها لغيره= هو الجديد، فكلامهم عن القِدَمِ كلامٌ عن الاعتبار الأول في الرد على الجهمية والمعتزلة الذين زعموا أن القرآن ليس من علم الله الذي جاء النبي {من بعد ما جاءك من العلم} وأنه إنما جاءَهُ وحيٌ من العلم القديم، ولكنه هو أو جبريل من عبروا عنه بالألفاظ القرآنية المخلوقة، لا أنها هي التي جاءت من علم الله، أو أنه إنما خلق هذه الألفاظ والجمل في غيره ثم نسبها إليه تشريفًا، وغيرها من الأقوال التي ستأتي والتي تُدفَعُ بإثبات كونِ القرآن كلامًا لله غير مخلوق وأنه من علمه القديم سبحانه، دون أن يقتضي هذا نفيهم تجدد الكلام منه حين كلم جبريل، أو حين كلم موسى، أو غير ذلك.
ثم إنَّ العلم نفسه له تعلقاتٌ حادثة، وهو قولٌ ثانٍ للأشعرية، فلا يُشكِلُ على هذا قياس الكلام عليه لو فرضنا أن المراد هو التسوية المطلقة، فالتعلقاتُ الحادثةُ ثابتةٌ للصفتين، الفرقُ فَقَط بيننا وبين الأشعرية أنها عندنا وجوديةٌ، وهي عندهم عدمٌ ولا شيء ولا يتميزُ من ثبتت له عمَّن لم تثبت له!
خامسًا: نَقْلُ كونِ الكلامِ صِفَةً من صِفاتِه القديمة، أو أنها صِفةٌ لهُ سبحانه لم تَزَل، وهل يُنكرُ هذا أحدٌ من القائلين بأن الله تكلم -بالفعل- بكلامٍ جديدٍ بمشيئتِهِ سبحانه حالَ كونِه متصفًا بصفة الكلامِ منذ الأزلِ -بالقوة- كما يعبر فلسفيًا؟ كما أنك أنت المخلوق الضعيف متكلمٌ متصفٌ بصفة الكلام وأنت لا تتكلم، فلا يقال فيك أنك أخرسٌ أو أبكم أو فاقدٌ لصفة الكلام حال كونك لا تتكلم، ثم تتكلمُ بمشيئتك واختيارك متى شئت، فالله أولى وأكمل منك، هذا لو استبعدنا أن يكون مرادهم أنه لا يزال متصفًا بجنس الكلام، أي: لم يزل متكلمًا وجنس كلامه قديم، فهما اعتباران محتملان والثاني منهما قويٌ لولا أننا ننأى عن إلزام المخالف بما لا يسلمه، فنكتفي بالاعتبار الأول -الاتصاف بالقوة- المتفق على إثباته بيننا.

11.                      فإن قيل: ما هو المطلوب من المؤلف كي يثبت مطلوبه؟
قلنا: المطلوب منه هو التالي:
أولًا: أن يدفع كلام السلف الصريح في أن كلام الله بمشيئته واختياره، لاسيما استدلالهم المتواتر بآية التكوين في إثبات لا مخلوقية كلام الله، مع ما في في صرح الآية مما يدل على حدوث (كن) وأنها من متعلقات الإرادة، وأن القرآن من الله (خرج) و(بدأ) وإليه يعود، وغيرها من الأدلة الواردة عنهم في إثبات مطلوبنا، والتي لم يتعب المؤلف نفسه بإيرادها ودفعها وكأنها غير موجودة.
ثانيًا: أن ينصب دليلًا وقرينةً قويةً توجِبُ تأويلَ ظواهِرِ الوَحيِ القاضيةِ بِتَجَدُّدِ الكلامِ، وإلا كانت هي الأصل، لاسيما وأن تَجَدُّدَ الكلامِ هو الأصلُ حتى في الشاهد، ولا يَعرِفُ الناسُ غَيرَهُ إن قيلَ بأن فلان متكلمٌ على الحقيقة غيرُ أخرس، فالأصلُ إذن مع مخالفي المؤلِّف، وعليه هو مسؤولية الإتيان بالصارِفِ عن الأصل، إذ معهم ظواهِرُ الوَحي وظواهِرُ كلامِ السَلَفِ وأصالةُ الشاهدِ والاستعمالِ اللغويِّ في فهم معنى الكلام الحقيقي.
ثالثًا: أن يُثبِتَ عِلمَ السَلفِ بهذه القرينةِ الموجِبَةِ للتأويل، ويثبت أنها ليست مَجهولةً لهم وحادثةً بعدَ قرونهم، عندها وعندها فقط يُمكِنُه أن يَزعُمَ بأن كلامَهُمُ مُنطَلِقٌ منها، وأنهم كانوا يأخذونها في الحسبان عند تفسيرهم للوحي وعند إضافتهم صفة الكلام لله وعند نفيهم مخلوقية القرآن، وإلا لم يجز أن يفسر كلامهم بأي تفسير توجبه هذه القرينة، فإن فعَلَ وفسَّرَ كلامهم بتأويلٍ توجِبُهُ قرينةٌ أو أصولٌ كلاميةٌ لا يعرفونها -كالأصل الجهمي بعدم التفريق بين الفعل والمفعول- عُدَّ هذا تحريفًا لكلامِهِم وتقويلًا لهم ما لم يقولوه.
رابعًا: أن يثبت بأن كلامهم في القِدَمِ أرادوا به القِدَمَ المطلق، وأنهم أثبتوه للكلامِ المعين بالفعل، لا لجنس الكلام، أو الكلام بالقوة، أو الكلام في علم الله.
خامسًا: أن يُبرِّرَ تناقُضَهُ في استدلاله بالسلف لإثبات قِدَمِ القرآن، مع إهمال انصباب نفس ما يستدل به في نفي مخلوقية الكلام اللفظي لا النفسي الأشعري، مما يبطل عقيدتهم ويشملهم بكل أوصاف الذم والتبديع والتكفير التي في تلك النصوص المستشهَد بها، وإلا كان استدلاله بهذه النصوص جدليًا محضًا لا احتجاجًا حقيقيًا واعترافًا بحجيتها.

يتبع بإذن الله...