لماذا
الطبري؟ ولم كان تحقيق اعتقاد هذا الإمام من الأهمية بمكان؟
قد
يقول قائل: مخالفونا لن يعدموا تأويلًا وتوجيهًا يخرجون به عن مدلول كلام الطبري
ولوازمه، وقد يقول آخر: إن استمرأ القوم تأويل نصوص الوحي، وتهوين دلالتها على مسائل أصول الدين؛
أيذعنون لكلام الطبري ويلتزمون مدلوله؟ وقد يقال: الطبري رجل وغيره رجال، بل ربما
يتجاوز بعضهم فيشكك في تفسير الطبري ويدَّعي فيه الدس واللعب، وقد يقال كلامٌ كثيرٌ لا
تخلو منه جعبة مجادل، وكل ما سابق قيل وكتب.
ولكن
تتأكد أهمية تحقيق عقيدة هذا الإمام لمكانته التي يعلمها كل من يزعم انتسابًا إلى
طلب العلم، لإمامته وبلوغه مرتبة الاجتهاد، فضلًا عن علمه بالآثار والسنن وكلام
العرب، وتقدم عهده وقربه من القرون الأولى إن قارنته بمن أتى بعده ممن صاروا عيالًا
على تفسيره، ولو لم يكن من شيء إلا إجماع أهل السنة على إمامته وإمامة تفسيره
وكونه رأس التفاسير ومشكاتها= لكفى دليلًا على أهمية تحقيق مقالات الإمام العقدية
في هذا التفسير، ومواطن مفاصلته لبعض الطوائف التي حدثت في الأمة وانتسبت إلى
السنة بغير حق، ثم جذبت هذا الإمام إليها زورًا وبهتانًا بكُلّاب قاعدةٍ معمولٍ بها عندهم
وإن لم تكن مكتوبة، قاعدة: إن كان إمامًا فهو منّا، وإن لم يكن منّا فليس بإمام!
نعم
سينال مشرط التأويل كلام الإمام، ونعم سيخطئه بعضهم لكونه إمامًا ولكنه غير معصوم،
ونعم سيشكك البعض في تفسيره ونقائه من الدس، وسيذكر المؤول صنيعه مع ظواهر الوحي المنزل حين عارضت عقلياته النظرية، لكن كلما تكثرت النقول ضاقت على نفسه تلك المسالك، حتى يسائل عاقل القوم نفسه: أتستحق أوهامي الكلامية كل هذا التأويل؟ أتستحق كل هذا
العناء في دفع النصوص والآثار؟ هل كان أحد ممن أمرت باتباعهم بإحسان يعرف مسالك
التأويل هذه؟ بله الأوضاع الكلامية التي أخذتها تقليدًا عن أقوام ما زالوا متنازعين
فيها مقدمات ونتائج؟ وهل يعقل أنني أجري مشرط التأويل في كل هذه المنقولات ولا
أجدهم أجروه في نقلٍ واحد يسلم لي أن صنيعهم فيه تأويلٌ من جنس تأويلي؟ بل أجد كلامهم مما يحتاج لإجراء مشرط التأويل ذاته الذي
أجريه في النصوص؟ هل يعقل أن ينطق كل هؤلاء بألفاظ يؤكد بعضها بعضًا فأفهمها
بتخريج لغوي بعيد تهربًا من القريب الظاهر الذي يبطل كلام أصحابي؟ إلى متى أدفن
رأسي في التراب وأنتسب إلى سلف بيني وبينهم ما بين السماء والأرض؟ لا بد إذن من
موقف، فإما المفارقة، وإما الموافقة!
فمثل
هذا العاقل ينتفع بالبحث، أما أصحاب خطوتي الجدل ممن يخطو في معالجة ما لا يوافق هواه من النقول بالخطوتين الشهيرتين:
1- هل في اللغة تخريج لمثل هذا الكلام
ينجيني من المأزق؟
2- إذن
صاحب الكلام يريد هذا المعنى الجائز في اللغة مهما بعد.
فمثل
هؤلاء وإن لم يقتنعوا وينتفعوا بما نقلنا ههنا، فإنه يرد بغيهم عنا منقول البحث
مما لا تجوز اللغة خلاف ما فهمناه منه.
وسيبقى
الحق أولًا وآخرًا فوق كل هذا، وحسبنا معذرة إلى ربنا أن يرسخ المطلوب وتبلغ به الحجة وكفى، فإن لم ينتفع به
مخالف= تقوى به موافق ودعا للكاتب.
ملاحظة
أولى: منعًا من الإطالة سأقتصر غالبًا على محل الشاهد، فمتى وضعت (...) فاعلم أن
ههنا حذفًا للاختصار لا يخل بالمعنى بإذن الله، فإن أخلَّ قبلتُ التنبيه وأصلحت.
ملاحظة
ثانية: الطبري ينقل بعض الآثار محتجًا بها
فيما ذهب إليه من تأويل، وقد أنقل بعضها لإظهار مراده، ولا يعنيني في هذا المقام هل صح الأثر أم لا، بقدر ما يعنيني إظهار معتقد الإمام ومنهجيته في التعامل الآثار
في مسائل أصول الدين، فالأثر المنقول يجلي مراد الطبري بكلامه، ويدفع صولة التأويل الفاسد.
منهج الطبري في التفسير
يقول
الطبري رحمه الله:
"فأحقُّ
المفسرين بإصابة الحق ... أوضحُهم حُجة فيما تأوّل وفسَّر، مما كان تأويله إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته ... وأصحُّهم برهانًا ... ممَا كان
مُدركًا علمُه من جهة اللسان: إمّا بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإمّا من منطقهم
ولغاتهم المستفيضة المعروفة ... بعد أن لا يكون خارجًا تأويلُه وتفسيره ما تأول
وفسر من ذلك، عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخلف من التابعين وعلماء
الأمة."
وقال:
"وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف وتأوَّلوا
القرآن بآرائهم، فإنهم قالوا في ذلك أقوالا مختلفة."
وقال:
"وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل، ممن يفسر القرآن
برأيه على مَذهب كلام العرب ..."
وقال:
"لا شكّ أن الذي قاله مَن ذكرنا قوله ... قول لا معنى له، هذا مع خلافه
تأويل السلف في ذلك"
وقال:
" وليس لأحد أن يجعل خبرًا جاء الكتاب
بعمومه، في خاصٍّ مما عمه الظاهر، بغير برهان من حجة خبر أو عقل. ولا نعلم خبرًا جاء
بوجوب نقل ظاهر ... [وذكر آية] ... إلى باطن خاصّ، ولا من العقل عليه دليل"
فنفهم مما سبق أن الطبري يشترط لصحة التفسير إجمالًا
شرطين:
1- موافقة
كلام العرب.
2- عدم الخروج عن تأويل الرسول فالسلف ما ثبت عنهم شيء.
وأنه يمنع مع ذلك أن ينقل الخبر عن عمومه أو
ظاهره دون برهان وقرينة نقلية أو عقلية، والقرينة العقلية هنا المراد بها=
تلك التي يعرفها العرب المخاطبون، والتي يضمن المتكلم بها بلوغ مراده لحضورها عند العرب، فهي الضرورية القريبة، لا النظرية الحادثة والخاصة بأهل فن كلامي، والتي لا تستقر إلا بتقرير مقدمات مستوردة طويلة
وعرة متنازع فيها وفي أدلتها، ومن نظر في تطبيقات الطبري في آيات الصفات تحديدًا= علم
أنه لم يخرج البتة عن ظاهر بمثل عقليات المتكلمين النظرية التي لا يدرك غورها إلا
غواصو الكلام والفلسفة، بل ليست صحيحة عند الحك، فضلًا عن أن تكون ضرورية. مثال تطبيقي: نجد أبا جعفر في تفسير المراد بالكرسي في قوله سبحانه }وسع كرسيه السماوات والأرض{ ينقل أقوالًا ثلاثة:
"فقال بعضهم: هو علم الله -تعالى ذكره-
... وقال آخرون: الكرسي موضع القدمين. ... وقال آخرون: الكرسي هو العرش نفسه"
ثم يقول "لكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب"
فنجد الطبري لا يعمل بأوضاع المتكلمين في مثل هذه المسائل، رغم أنها مظنة عمل تلك الأوضاع لو كانت معتبرة عنده، إذ على وفقها يجوز المتكلمون أو يمنعون أو
يوجبون على الله صفة أو فعلًا، فيقبلون تفسيرًا ويردون آخر لامتناع ظاهره، فنجد
الطبري في تفسيره لايبالي بتلك المنهجيه، بل ينتهج أنه: ما دام يظهر من الآية
-بسياقها- مفهوم على وفق لسان العرب، ووافق هذا المفهوم -أو لم يخالف-
آثارًا عن السلف= كان ذلك كافيًا في حق ذلك المفهوم أن يكون له "وجه
ومذهب" ولكننا نجده -وهو ما يتكرر كثيرًا في تفسيره- يقول بعد ذلك مرجحًا
-في تطبيق من أهم تطبيقات منهجه في التفسير:
"غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء
به الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ما حدثني به عبد الله بن أبي زياد
... عن عبد الله بن خليفة قال: أتت امرأة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ادع الله
أن يدخلني الجنة ! فعظم الرب - تعالى ذكره - ثم قال : إن كرسيه وسع السموات والأرض،
وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع -ثم قال بأصابعه فجمعها- وإن له أطيطا
كأطيط الرحل الجديد ، إذا ركب من ثقله"
فنجده يرجح من الوجوه الثلاثة ما
وافق منها الحديث، رغم أن كل واحد من الأوجه الثلاثة ورد فيه أثر، وأقوى الآثار
هنا أثر ابن عباس في تفسير الكرسي بــ: موضع القدمين، وهو أصح مما نسب إليه من
تفسيره بالعلم، وأصح من هذا الحديث الذي
احتج به الإمام، و لكن يهمنا هنا أن الطبري يحتج بهذا الحديث، ويجعله
مرجحًا لأولى الأوجه الثلاثة بالتأويل، فهذا هو ما يتبناه ويميل إليه ويرجحه على
غيره، هذا هو الأولى في تأويل الآية، ولكننا نجده بعد ذلك يقول:
"وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول
ابن عباس ... أنه قال: هو علمه"
وقد يظهر ههنا تناقض لأول وهلة، وهو ما ظهر للعلامة محمود شاكر رحمه الله حيث علق قائلًا:
"العجب لأبي جعفر، كيف تناقض قوله في هذا الموضع!
فإنه بدأ فقال: إن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلي الله
عليه وسلم، من الحديث في صفة الكرسي، ثم عاد في هذا الموضع يقول: وأما الذي يدل على
صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس أنه علم الله سبحانه. فإما هذا وإما هذا ... وأما
أبو منصور الأزهري فقد قال في ذكر الكرسي: "والصحيح عن ابن عباس ... أنه قال:
"الكرسي موضع القدمين ، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره." قال: وهذه رواية
اتفق أهل العلم على صحتها. قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم فقد أبطل"، وهذا
هو قول أهل الحق إن شاء الله" اهـ
ولكن بالتأمل في عبارة الطبري ومنهجه في تفسير
غير هذه الآية يتبين لنا أنه يطبق منهجيته المخالفة لمن قال فيهم:
"وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من
أهل التأويل، ممن يفسر القرآن برأيه على مَذهب كلام العرب ..."
فلم يفعل كما فعلوا، بل جعل أولى الأوجه بتأويل
الآية= ما جاء به الأثر، ولم يكتف بظاهر اللغة ومذهب العرب في تفسير الكرسي، فكان
قوله ثانيًا "وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن" ليس إلا
إظهارًا لإفادة اللغة هذا المعنى، وتوجيهًا لما ذكره من أثر عن ابن عباس، وأنه هو
الذي يدل عليه ظاهر القرآن، لولا الحديث
السابق الذي جعل غير هذا الوجه هو الأولى بتأويل الآية، فما ذكره ثانيًا ليس تبنيًا
لهذا الوجه في تفسير الكرسي في الآية، بل ما تبناه هو ما كان صريح قوله أنه الأولى
في تفسير الآية، وليس في كلامه الثاني ما يدل أنه عدل عن الأولى إليه، بل فيه
إثبات ظاهر للقرآن دل على غيره الحديث الذي
احتج به في ترجيح أولى الوجوه.
ومثل هذه الطريقة تجدها في تفسيره لقوله تعالى:
}وشهد شاهد
من بني إسرائيل على مثله{ فقد بين أن السياق مع مسروق والشعبي من أن الشاهد:
"موسى" حيث قال:
"والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الذي
قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل" ثم قال: "غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأن ذلك عنى به عبد الله بن سلام وعليه أكثر
أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل ، وما أريد به.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك، وشهد عبد الله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل"
فيظهر لنا هنا نفس التطبيق السابق، حيث يذكر
دلالة السياق على أمر هو "الأشبه بظاهر التنزيل" ثم يعدل عنه
لموافقة ما جاءت به الآثار وما صح عنده من تأويلات السلف، فلا يكتفي بالأول دون
الثاني.
وبتطبيقه في تفسير هذه الآية نستنبط أن الإمام:
1- لا يبالي بنظرية القطعي والظني الكلامية فيما
يقبل أو يرد من الآثار في أصول الدين، فالحديث الذي احتج به حديثُ آحاد، بينما يرى المتكلمون مثل هذه الرواية -تحديدًا- مصيبةً كبرى يسودون الصحائف
في التشنيع على من احتج بها أو ذكرها في سياق الاحتجاج.
2- لا يكتفي بظاهر مدلول القرآن اللغوي ما دام
هناك أثر أو تأويل للسلف يرجح به أوجه التفسير اللغوي المعتبرة التي تنوزع فيها
بين المفسرين، ويهتم بظاهر السياق والآية ولا يحملها إلا على ذلك، بخلاف طريقة
أولئك الذين يعددون الأوجه التي يحتملها اللفظ المشكل -وإن خالفت ظاهر السياق بجملته-، ثم يختارون
منها ما أجازته أوضاعهم الكلامية وإن خالف تأويل السلف.
وقد اخترت هذا الموضع تحديدًا من تفسيره لبيان منهجه لكونه مما اختلفت فيه الأنظار، ولاشتهار نسبة تفسير الكرسي بالعلم إليه، ولكون الحديث مشكلًا أي إشكال عند المتكلمين، فلا يصح عندهم فضلًا عن أن يُرجَّح به تأويل آية.
تنبيه:- قد استفدت تحرير قول الطبري هنا من مشاركة للشيخ مساعد الطيار في ملتقى أهل التفسير بارك الله في القائمين عليه والكاتبين فيه.
وقد اخترت هذا الموضع تحديدًا من تفسيره لبيان منهجه لكونه مما اختلفت فيه الأنظار، ولاشتهار نسبة تفسير الكرسي بالعلم إليه، ولكون الحديث مشكلًا أي إشكال عند المتكلمين، فلا يصح عندهم فضلًا عن أن يُرجَّح به تأويل آية.
تنبيه:- قد استفدت تحرير قول الطبري هنا من مشاركة للشيخ مساعد الطيار في ملتقى أهل التفسير بارك الله في القائمين عليه والكاتبين فيه.
الصفات الخبرية
مقدمة: يقول الإمام الطبري في كتابه التبصير،
مجملًا عقيدته في صفات الله الخبرية ومناقشًا المخالفين في بعضها:
" ذلك نحو إخبار
الله تعالى ذكره إيانا أنه سميعٌ بصيرٌ، وأن له يدين لقوله: {بل يداه
مبسوطتان} . وأن له يميناً لقوله: {والسموات مطويات بيمينه} . وأن وله
وجهاً لقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} ، وقوله: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال
والإكرام} . وأن له قدماً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع
الرب قدمه فيها) . يعني جهنم. وأنه يضحك إلى عبده المؤمن لقول النبي صلى
الله عليه وسلم للذي قتل في سبيل الله: (إنه لقي الله عز وجل وهو يضحك إليه). وأنه يهبط كل ليلةٍ
وينزل إلى السماء الدنيا، لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنه ليس بأعور لقول النبي صلى الله
عليه وسلم، إذ ذكر الدجال فقال: (إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور). وأن له أصابع؛
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن).
فإن هذه المعاني التي
وصفت، ونظائرها، مما وصف الله عز وجل بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه
وسلم مما لا تدرك حقيقة علمه بالفكر والروية. ولا نكفر بالجهل بها أحداً
إلا بعد انتهائها إليه. فإن كان الخبر الوارد
بذلك خبراً تقوم به الحجة مقام المشاهدة والسماع، وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته
في الشهادة عليه بأن ذلك جاء به الخبر، نحو شهادته على حقيقة ما عاين وسمع.وإن كان الخبر الوارد خبراً لا
يقطع مجيئه العذر، ولا يزيل الشك غير أن ناقله من أهل الصدق والعدالة، وجب على
سامعه تصديقه في خبره في الشهادة عليه بأن ما أخبره به كما أخبره، كقولنا في أخبار
الآحاد العدول، وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.
فإن قال لنا قائلٌ:
فما الصواب من القول
في معاني هذه الصفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله -عز وجل- ووحيه، وجاء
ببعضها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل: الصواب من هذا
القول عندنا، أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التشبيه،
كما نفى ذلك عن نفسه -جل ثناؤه- فقال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ...
فنثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار والكتاب والتنزيل على ما
يعقل من حقيقة الإثبات، وننفي عنه التشبيه؛ فنقول:
يسمع -جل ثناؤه-
الأصوات، لا بخرقٍ في أذنٍ، ولا جارحةٍ كجوارح بني آدم. وكذلك يبصر الأشخاص ببصرٍ
لا يشبه أبصار بني آدم التي هي جوارحٌ لهم. وله يدان ويمينٌ وأصابع، وليست جارحةً، ولكن يدان
مبسوطتان بالنعم على الخلق، لا مقبوضتان عن الخير. ووجهٌ لا كجوارح الخلق التي من لحم ودم. ونقول: يضحك إلى من شاء من
خلقه. ولا نقول: إن ذلك كشر عن أسنان. ويهبط كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا. "
ماهر: يستفاد من كلام
الطبري في التبصير الآتي:
1- إثبات اليدين وأن له
يمينًا ووجهًا وقدمًا وأنه يضحك وينزل إلى السماء الدنيا وأن له أصابع كما ورد بكل ذلك الوحي، بمتواتره وآحاده، وهذا يفيدك موقفه من الآحاد في العقيدة ووصف الله.
2- أن كونه سبحانه ليس
بأعور مما تستفاد منه صفة، وليس معناه فقط نفيَ النقص، ولذا أورد الطبري ذلك في سياق
ذكر الصفات الخبرية، وهذا يفيدك أنه يحتج بالمفهوم في هذا الباب.
3- أن هذه الصفات مما
لا يدرك بالعقل والفكر والروية، فهي خبرية، فليس شرط وصف الله عنده دلالة العقل والقطع الأصولي في دلالة النقل.
4- أن هذه الصفات يجب إثباتها
على ما نعرف من جهة الإثبات دون تشبيه، وقوله "على ما نعرف" إثبات لكون
هذه الصفات معروفة لنا متميزة، وهو ما يبطل التفويض الذي هو نفي لإثبات الصفة "على ما نعرف" في
حقيقة الأمر.
5- قوله "له يديان
ويمين وأصابع، وليست جارحة، وله يدان مبسوطتان ... لا مقبوضتان" يفيد إثباته
صفة اليد مفهومة لا مفوضة، لأن فهم منها ما له ارتباط باليمين والأصابع، والقبض
والبسط، وما كان ليفهم هذا الترابط لو كانت مفضوة المعنى مجهولة من كل وجه لا يُعلمُ منها إلا اسمها، فضلًا عن مقابلته البسط بالقبض.
6- أن نفي الجوارح لا
يفيد تفويض هذه الصفات، لأنه نفى الجوارح عن البصر والسمع، وهما صفتان مفهومتان
غير مفوضتي المعنى باتفاقنا ومخالفينا، بل يفهم تعلقهما بالأصوات والمرئيات تعلق إدراك، وقوله "لا كجوارح الخلق التي من لحم ودم" يعرفنا بمراده من نفي الجوارح، وهو نفي
الكيفية الخاصة التي في جوارح المخلوقات، من كونها مؤلفة من لحم ودم وغير ذلك من
العناصر، وقد نفى الدارمي وابن تيمية وغيرهما كثرٌ الجوارح ولم يكونوا مفوضة.
7- قوله
"يهبط كل ليلة" يفيدنا أيضًا أن نزوله سبحانه ليس مفوضًا عنده، لذا عبر
عنه بلفظ آخر يفيد نفس المعنى، فتعبيره بلفظ آخر فرع إثباته
معنى مشترك يصلح التعبير عنه بلفظين مختلفين.
ثم قال مبينًا منهجًا عامًا في الرد منكر شيء مما سبق، وذلك بتمثيل الخلاف في صفتي "المجيء-النزول"، وهذا من أدل المواضع على كونه لا يفوض هاتين الصفتين، إذ نراه قاس هذه على هذه، وجعلهما من نفس الباب، وهذا بناءً على معنيهما عندها، فالنزول نوع مجيء، والمجيء يكون بنزول وبغيره.
فقال رحمه الله: "فمن أنكر شيئاً مما قلنا من ذلك، قلنا له: إن الله تعالى ذكره يقول في كتابه: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} . وقال: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} . وقال: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} فهل أنت مصدقٌ بهذه الأخبار، أم أنت مكذبٌ بها؟
فقال رحمه الله: "فمن أنكر شيئاً مما قلنا من ذلك، قلنا له: إن الله تعالى ذكره يقول في كتابه: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} . وقال: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} . وقال: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} فهل أنت مصدقٌ بهذه الأخبار، أم أنت مكذبٌ بها؟
فإن زعم أنه بها مكذب،
سقطت المناظرة بيننا وبينه من هذا الوجه،
وإن زعم أنه بها
مصدقٌ، قيل له: فما أنكرت من الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أنه يهبط إلى السماء الدنيا فينزل إليها)؟
فإن قال: أنكرت ذلك؛
أن الهبوط نقلة، وأنه لا يجوز عليه الانتقال من مكانٍ إلى مكان؛ لأن ذلك من صفات
الأجسام المخلوقة!
قيل له: فقد قال -جل ثناؤه-: {وجاء ربك
والملك صفاً صفاً} فهل يجوز عليه المجيء؟ فإن قال: لا يجوز ذلك عليه، وإنما معني
هذا القول: وجاء أمر ربك."
ماهر: لاحظ أن الطبري
هنا يذكر شبهة معهودة من شبه المتكلمين، الشبه التي لأجلها يأولون النصوص
ويصرفونها عن ظواهرها لمعاني بعيدة لا يفيدها السياق وليست من معالم البيان
والبلاغة إن قصد المتكلم الإيضاح، بل هي أقرب إلى الإلغاز ويذكرونها في أمثلة التورية في كتبهم البلاغية، فهل يذعن الطبري لهذه الشبهة
ويتأول هذه النصوص؟ أم يردها عليهم بعقله وعقيدته السنية؟ يجيب الطبري:
" قيل: قد أخبرنا
-تبارك وتعالى- أنه يجيء هو والملك؛ فزعمت أنه يجيء أمره لا هو؛ فكذلك تقول: إن
الملك لا يجيء، إنما يجيء أمر الملك لا الملك؛ كما كان معنى مجيء الرب -تبارك
وتعالى- مجيء أمره؟
فإن قال: لا أقول ذلك
في الملك، ولكني أقول في الرب.
قيل له: فإن الخبر عن مجيء
الرب -تبارك وتعالى- والملك خبرٌ واحدٌ، فزعمت في الخبر عن الرب -تعالى ذكره- أنه
يجيء أمره لا هو؛ فزعمت في الملك أنه يجيء بنفسه لا أمره، فما الفرق بينك وبين من
خالفك في ذلك، فقال: بل الرب هو الذي يجيء، فأما الملك فإنما يجيء أمره لا هو
بنفسه؟!"
ماهر: يعارض الطبري
مخالفه هنا بمجيء الملك، فلم أوَّل مجيء الرب ولم يأول مجيء الملك؟ مع أن الخبر
عنهما واحد، وهذا فيه دلالة على أن الطبري يرى في (المجيء) معنى كليًا مشتركًا بين
الخالق والمخلوق، وأنه ليس لفظًا مفوضًا لا يستفاد منه معنى يفهم به السياق، ودليل
إثباته المعنى المشترك أنه يعترض هنا على مخالفه أنه فرق بين المجيئين رغم كونهما
في خبر واحد وفي نفس السياق، ثم إن ههنا فائدة أخرى، وهي إثبات أن مجيء الخالق عن
الطبري هو مجيء بنفسه، كما أن الملك " يجيء بنفسه لا أمره"
ويعترض عليه كيف فرق بينهما ولم يثبت للخالق مجيئًا بنفسه كما أثبته للملك، وفي
هذا تأصيل متقدم لإمام من الأئمة في تقييد مثل هذا الأفعال بألفاظ يكون بها مزيد
تفصيل، كتقييدها بـــ "بنفسه" أو "بذاته".
يكمل أبو جعفر:
يكمل أبو جعفر:
"فإن زعم أن
الفرق بينه وبينه: أن الملك خلقٌ لله جائزٌ عليه الزوال والانتقال، وليس ذلك على
الله جائزاً.
قيل له: وما برهانك
على أن معنى المجيء والهبوط والنزول هو النقلة والزوال، ولا سيما على قول من يزعم
منكم أن الله -تقدست أسماؤه- لا يخلو منه مكانٌ.
وكيف لم يجز عندكم أن
يكون معنى المجيء والهبوط والنزول بخلاف ما عقلتم من النقلة والزوال من القديم
الصانع، وقد جاز عندكم أن يكون معنى العالم والقادر منه بخلاف ما عقلتم ممن سواه،
بأنه عالمٌ لا علم له، وقادرٌ لا قدرة له، وإن كنتم لم تعقلوا
عالماً إلا له علمٌ، وقادراً إلا له قدرةٌ؟
فما تنكرون أن يكون [جائيًا] لا مجيء له، وهابطاً لا هبوط له ولا نزول له، ويكون معنى ذلك: وجوده هناك، مع زعمكم أنه لا يخلو منه مكانٌ!"
فما تنكرون أن يكون [جائيًا] لا مجيء له، وهابطاً لا هبوط له ولا نزول له، ويكون معنى ذلك: وجوده هناك، مع زعمكم أنه لا يخلو منه مكانٌ!"
ماهر: يجادلهم الطبري
هنا ويلزمهم بما التزموه في غير هذه المسائل، فكما التزمتم باطلًا ككونه لا يخلو
منه مكان -فهو يخاطبُ جهميةً حلولية إذن- وكونه عالمًا بلا علم وقادرًا بلا قدرة= فلتلتزموا أن ينزل ويجيء لا
بنقلة وزوال، فالأول أبعد عن العقل والنقل من إثبات ما أثبتناه، فكما أثبتم عالمـًا
لا علم له، "مع أنكم لم تعقلوا عالمًا إلا له علم" فأثبتوا
جائيًا لا مجيء له وهابطًا لا هبوط له، فهذه كتلك، ويكون معنى المجيء= "وجوده
هناك" وهو ما يتماشى مع قولهم بالحلول، وليس الطبري هنا قائلًا بنفي
العلم والقدرة أو قائلًا بحلول الإله بلا شك، وليس يثبت جائيًا لا مجىء له أو
هابطًا لا هبوط له ولا نزول له -لاحظ مبادلة التعبير عن نفس المعنى عند الطبري بالنزول والهبوط-، ولكنه يظهر تناقضهم ويلزمهم ويجادلهم فيما أقروا به من باطل،
وأنهم لم يطردوا باطلهم هذا بل تناقضوا فيه حين صار الكلام في هذه الصفات التي
ينفونها.
وانظر كيف عبر صراحةً عن معنى المجيئ الذي يلزمهم به بــ "وجوده هناك"! فمن جاء إلى (أ) فهو موجودٌ هناك! ومن ثم لا نجد في كلام الطبري أي إشارةٍ للتفويض والاكتفاء بإثبات اللفظ فقط.
تنبيه:- في هذا ما يبين لك طريقة الطبري في الجدل، وأنه يُلزمُ الخصمَ بما لا يلتزمه، وسترى أثر العلم بهذه الطريقة في فهم كلامٍ لاحقٍ له في العلو، وأن عدم إدراك هذا أدى لغلطٍ عظيم عند المخالفين.
ويذكر بعد هذا الإلزام وبعد إظهاره لتناقضهم موقفَه المــُتَبَنى:
وانظر كيف عبر صراحةً عن معنى المجيئ الذي يلزمهم به بــ "وجوده هناك"! فمن جاء إلى (أ) فهو موجودٌ هناك! ومن ثم لا نجد في كلام الطبري أي إشارةٍ للتفويض والاكتفاء بإثبات اللفظ فقط.
تنبيه:- في هذا ما يبين لك طريقة الطبري في الجدل، وأنه يُلزمُ الخصمَ بما لا يلتزمه، وسترى أثر العلم بهذه الطريقة في فهم كلامٍ لاحقٍ له في العلو، وأن عدم إدراك هذا أدى لغلطٍ عظيم عند المخالفين.
ويذكر بعد هذا الإلزام وبعد إظهاره لتناقضهم موقفَه المــُتَبَنى:
"فإن قال لنا
منهم قائلٌ: فما أنت قائلٌ في معنى ذلك؟
قيل له: معنى ذلك
ما دل عليه ظاهر الخبر، وليس عندنا للخبر إلا التسليم والإيمان به، فنقول:
يجيء ربنا -جل جلاله- يوم القيامة والملك صفاً صفاً، ويهبط إلى السماء الدنيا
وينزل إليها في كل ليلةٍ، ولا نقول: معنى ذلك ينزل أمره؛ بل نقول: أمره نازلٌ
إليها كل لحظةٍ وساعةٍ وإلى غيرها من جميع خلقه الموجودين ما دامت موجودةً. ولا
تخلو ساعةٌ من أمره فلا وجه لخصوص نزول أمره إليها وقتاً دون وقتٍ، ما دامت
موجودةً باقيةً.
وكالذي قلنا في هذه
المعاني من القول: الصواب من القيل في كل ما ورد به الخبر في صفات الله عز وجل
وأسمائه تعالى ذكره بنحو ما ذكرناه."
ماهر: وهذه المقدمة
على طولها مهمة في بيان أسلوب الطبري ومنهجيته في التعامل مع هذه الصفات، وكيف أنه
لا يرد منها بعقله وأوهامه ما يرده المتكلمون، ولا يعارضها بالشبه والخيالات التي
تشبع بها القوم حتى النخاع، بل يتلقى الخبر بالتسليم والإيمان، ويفهمه على "ظاهره"
ويثبته كما نزل، فيثبت الصفات ويفهمها ويعبر عنها باللفظ القرآني أو بلفظ آخر يحقق
نفس المعنى المفهوم المشترك.
كما أن فيها بيان موقفه من التأويل والمؤولة، والذي سنراه مطردًا بعد ذلك في موقفه من صفات أخرى.
كما أن فيها بيان موقفه من التأويل والمؤولة، والذي سنراه مطردًا بعد ذلك في موقفه من صفات أخرى.
1- إثبات صفة اليد:
قال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى }يَا
إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ{:
"يقول - تعالى ذكره -: (قال) الله لإبليس، إذ لم يسجد لآدم، وخالف
أمره: }يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ{ يقول: أي شيء
منعك من السجود (لما خلقت بيدي) يقول: لخلق يدي، يخبر - تعالى ذكره - بذلك أنه خلق آدم
بيديه .كما حدثنا ابن المثنى ... عن ابن عمر قال: خلق الله أربعة بيده:
العرش، وعدن، والقلم، وآدم، ثم قال لكل شيء كن فكان "
ولم
يكتف بإثبات الصفة، بل رد تفصيلًا وصراحةً على المتكلمين في تفسير قوله تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ
كَيْفَ يَشَاءُ}:
قال
أبو جعفر: "واختلف أهل الجدل في تأويل قوله:}بل يداه مبسوطتان{ فقال
بعضهم: عنى بذلك: نِعمتاه...وقال آخرون منهم: عنى
بذلك القوة ... وقال آخرون منهم: بل"يده"، ملكه ... وقال آخرون منهم: بل"يد الله" صفة من صفاته، هي
يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم قالوا:
وذلك أنّ الله -تعالى ذكره- أخبرَ عن خصوصه آدم بما خصّه به من خلقه إياه بيده. قالوا: ولو كان معنى"اليد"، النعمة، أو القوة، أو
الملك، ما كان لخصوصِه آدم بذلك وجه مفهوم، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته،
ومشيئتُه في خلقه تعمةٌ، وهو لجميعهم مالك. قالوا:
وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقَه إياه بيده دون غيره من عباده، كان
معلومًا أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، بطل قول من قال:
معنى"اليد" من الله، القوة والنعمة أو الملك، في هذا الموضع.
قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون
أن:"يد الله" في قوله:}وقالت اليهود يد الله مغلول{، هي نعمته، لقيل:"بل يده مبسوطة"، ولم يقل:}بل يداه{، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة. وبذلك جاء التنزيل، يقول الله تعالى: }وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا{ قالوا: ولو كانت
نعمتين، كانتا محصاتين. قالوا: فإن ظن ظانٌّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك
منه خطأ، وذلك أنّ العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه ... قالوا: فأما إذا ثنَّى الاسم، فلا يؤدي عن الجنس، ولا يؤدّي
إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما. قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال:"ما أكثر الدرهمين
في أيدي الناس"، بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم. قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثنِّي لا يؤدي في كلامها إلا عن
اثنين بأعيانهما... قالوا: ففي قول الله
تعالى:"بل يداه مبسوطتان"، مع إعلامه عبادَه أن نعمه لا تحصى، مع ما
وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع= ما ينبئ عن خطأ
قول من قال: معنى"اليد"، في هذا الموضع، النعمة= وصحةِ قول من قال: إن"يد الله"، هي له
صفة. قالوا: وبذلك تظاهرت
الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل."
ماهر: ونعلم أن موقفه هو الثالث لأنه أثبت صفة اليدين في تفسير الآية الأخرى وفي التبصير، وهذا الذي ذكره من الأدلة في
إثبات صفة اليد، بل اليدان، هو نفسه الذي نذكره في الرد على المتكلمين حذو القذة
بالقذة، نفس الاستدلال بالسياق واللغة وتخصيص آدم، وأن التخصيص بالتثنية دال على ثبوت يدين اثنتين حقيقةً، وذكر لوازم تأويلها بالنعمة أو القدرة، وغير ذلك من أنواع الاستدلال
على إثبات هذه الصفة الخبرية، فتسفيه متأخري أهل الكلام مثل هذا الاستدلال الذي
يذكره خصومهم تأسيًا بإمامٍ في التفسير واللغة والآثار= سفه منهم وضعف وعي
بمكانة مثل هذا الاستدلال حين يصدر عن مثل الطبري رحمه الله.
ومن مزالق القوم أنهم يتعلقون حال ورطتهم بكلام الطبري بمثل قوله "ليست بجارحة كجوارح بني آدم" وكأن خصومهم يقولون بأن يد الله جارحة كجوارح بني آدم، إنهم إذن لكافرون! والجوارح تعني: ما يفتقر إليه في الاجتراح والاكتساب، ولذا سميت بعض الحيوانات جوارح لاكتسابها الصيود، فهل يظن عاقل أننا نثبت لله مثل هذا حين نثبت صفة اليد له سبحانه؟ ومن لم يفهم من صفة اليد إلا هذا المعنى فتلك مشكلته وحده، أما الطبري ونحن معه -نتأسى به- لا نفهم منها مثل هذا، وننزه خالقنا عن هذا المعنى الباطل، فإن قيل: أنتم مفوضة إذن، قلنا: نعم نفوض الكيف ونجهل حقيقة الصفة وإن فهمنا معناها الكلي وميزناها عن غيرها، ولسنا نفوضها تفويضنا للمراد من الطلاسم ومن الألفاظ المبهمة والأعلام المحضة، بل نفهم معنى الصفة ونثبت أن لله يدين كلتاهما يمين يبسطهما ويقبض بهما ويطوي وخلق آدم وغرس عدن، وغير ذلك مما ورد في الوحي ولم نبتدعه من قبل أنفسنا، فلسنا نثبت لفظ اليد طلسمًا كما لا نثبتها صفةً لا نعلم عنها شيئا إلا العلمية، بل نثبتها صفة متميزة مفهومة المعنى لها تعلقات خاصة جاءت في الوحي، وليس شرطًا كي نخرج من التفويض أن نعرَّفها بحد أرسطي من جنس وفصل، وفي مبحث نفي التفويض عن الطبري مزيد بيان لصفة اليد تحديدًا.
ثم قال في إثبات صفة اليد وقبض السماوات والأرض عند تفسير قوله عز وجل: }وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{:
ومن مزالق القوم أنهم يتعلقون حال ورطتهم بكلام الطبري بمثل قوله "ليست بجارحة كجوارح بني آدم" وكأن خصومهم يقولون بأن يد الله جارحة كجوارح بني آدم، إنهم إذن لكافرون! والجوارح تعني: ما يفتقر إليه في الاجتراح والاكتساب، ولذا سميت بعض الحيوانات جوارح لاكتسابها الصيود، فهل يظن عاقل أننا نثبت لله مثل هذا حين نثبت صفة اليد له سبحانه؟ ومن لم يفهم من صفة اليد إلا هذا المعنى فتلك مشكلته وحده، أما الطبري ونحن معه -نتأسى به- لا نفهم منها مثل هذا، وننزه خالقنا عن هذا المعنى الباطل، فإن قيل: أنتم مفوضة إذن، قلنا: نعم نفوض الكيف ونجهل حقيقة الصفة وإن فهمنا معناها الكلي وميزناها عن غيرها، ولسنا نفوضها تفويضنا للمراد من الطلاسم ومن الألفاظ المبهمة والأعلام المحضة، بل نفهم معنى الصفة ونثبت أن لله يدين كلتاهما يمين يبسطهما ويقبض بهما ويطوي وخلق آدم وغرس عدن، وغير ذلك مما ورد في الوحي ولم نبتدعه من قبل أنفسنا، فلسنا نثبت لفظ اليد طلسمًا كما لا نثبتها صفةً لا نعلم عنها شيئا إلا العلمية، بل نثبتها صفة متميزة مفهومة المعنى لها تعلقات خاصة جاءت في الوحي، وليس شرطًا كي نخرج من التفويض أن نعرَّفها بحد أرسطي من جنس وفصل، وفي مبحث نفي التفويض عن الطبري مزيد بيان لصفة اليد تحديدًا.
ثم قال في إثبات صفة اليد وقبض السماوات والأرض عند تفسير قوله عز وجل: }وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{:
"وروي عن ابن عباس وجماعة غيره
أنهم كانوا يقولون: الأرض والسموات جميعا في يمينه يوم القيامة ... وقال آخرون: بل السموات في يمينه، والأرضون في شماله ... وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة ... يقول في قدرته نحو قوله:
(وما ملكت أيمانكم) أي وما كانت لكم عليه قدرة وليس الملك لليمين دون سائر الجسد،
... وقوله (قبضته) نحو قولك للرجل: هذا في يدك وفي قبضتك. والأخبار التي
ذكرناها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه وغيرهم، تشهد على بطول
هذا القول ."اهـ
ماهر:
فحين يذكر الطبري القولين الأولين في إثبات اليد، ثم يبطل القول الأخير في تأويل
اليمين والقبضة بالقدرة والملك، أي شك يبقى في عقيدة الإمام؟ ومَن اليوم يؤول هذا التأويل الذي وصفه الإمام بالبطلان إلا خصومنا؟ ويقال في مثل هذا
الذي قاله ما قيل في السابق، حيث أننا في الرد على المتكلمين نقول مثل هذا الذي
قاله، ونبطل القول الثاني كما أبطله، فمن سفّه قولنا= سفّه قول إمام المفسرين.
2-
إثبات الإتيان والمجيء لله يوم القيامة:
سبق
في المقدمة نقل نقاش الطبري لنفاة هذه الصفات في كتابه "التبصير" وتم
التعليق عليه بما يفي بذلك الموضع، ونزيد عليه هنا ما قال الإمام في تفسير قوله سبحانه }وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا{ حيث قال:
"يقول
تعالى ذكره: وإذا جاء ربك يا محمد وأملاكه صفوفا صفا بعد صفّ. كما حدثنا
ابن بشار ... عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: .... يقولون: سبحان ربنا، ليس
فينا، وهو آت .... فيجيء الله فيهم والأمم جِثيّ صفوف" اهـ
ماهر: قد يقول قائل: المراد بقول الطبري (جاء ربك يا محمد)
أي: جاء أمره، فنقول: هذا
بعيد لدلالة الحديث الذي أحال إليه، ولهذا أوردته، ليفهم مراد الإمام الطبري، وما
ورد في الحديث فيه إثبات فعل الله الاختياري سبحانه، وأنه لم يكن آتيًا "ليس
فينا" ثم أتى، إضافة لإثبات مجيئه سبحانه يوم القيامة، كما أن التعبير بالإتيان
أولًا ثم بالمجيء، مبطل لاحتمال التفويض الكلي ههنا، حيث فسرت الأولى
بالثانية، وفي الحديث أنهم انتظروا أن يأتي = فجاء سبحانه.
وفي
تفسير قوله تعالى }هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ
الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ{ قال
أبو جعفر:
"يقول
جل ثناؤه: هل ينتظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام إلا أن "تأتيهم
الملائكة"، بالموت فتقبض أرواحهم، أو أن يأتيهم ربك، يا محمد، بين
خلقه في موقف القيامة"
3- إثبات ما أثبته الله لنفسه
كالاستهزاء بالمستهزئين والمكر بالماكرين وأن هذا ليس من قبيل الجواب والمشاكلة
اللفظية:
ففي
قوله سبحانه }اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{ قال
أبو جعفر:
"وأما
الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: }الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ{، إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا
مكرٌ ولا خديعة، فنافُون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه
لها. وسواءٌ قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا
سخريةٌ بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف
الله بمن أخبر أنه خَسَف به من الأمم، ولم يُغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكرَ بقوم
مضَوْا قبلنا لم نَرَهُم، وأخبر عن آخرين أنه خَسَف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم،
فصدَّقْنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نُفَرِّق بين شيء منه.
فما بُرهانُك على تفريقك ما فَرَّقت بينه، بزعمك: أنه قد أغرقَ وخَسف بمن أخبر أنه
أغرق وخسف به، ولم يمكُرْ بمن أخبر أنه قد مكر به؟ ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا
ألزِم في الآخَر مثله."
ماهر: لاحظ أن الطبري يرفض التفريق في الأخبار، ولا
يشترط في قبول ما يخبر به عن الله وصفاته شرطًا زائدًا، بل يكفي فيه ما كفى في إثبات الإغراق والخسف، ولا فرق، وسيبدأ في رد ما ذكره القوم من فروق بين ما
أثبتوه وما ردوه فيقول: "فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ، وذلك عن الله
عز وجل منفيٌّ. قيل له: إن كان الأمر عندك على
ما وصفتَ من معنى الاستهزاء، أفلست تقول:"الله يستهزئ بهم"، و"سَخِر
الله منهم" و"مكر الله بهم"، وإن لم يكنْ من الله عندك هزء ولا
سخرية؟
فإن قال:"لا"، كذَّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام."
فإن قال:"لا"، كذَّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام."
ماهر:
فها هو رحمه الله بعد أن أبطل تأويل هذه الصفات بالمشاكلة والجواب، وذكر أنه
تأويل لا موجب له، وأنه كتأويل الخسف
والإغراق= يحتج عليهم بالسياق والنص على أن الله وصف نفسه بهذا، وأنهم يقرأونه ويقولونه ويكررونه
عند تلاوة القرآن، فأنت أيها المانع من وصف الله بهذه الأوصاف= "أفلست
تقول" بألفاظ هذه الآيات وتنسب بتلاوة سياقها هذه الأمور إلى الله؟ " فإن قال:"لا"،
كذَّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام." لأنه كذب صريح لفظ القرآن واعترض
عليه فيما وصف به الله، وقال بنقيضه من أن "الله لا يستهزىء
بهم" و "لا يسخر منهم" و "لا يمكر بهم"، وهو تكذيب للنص
ومعاندة له حيث أثبت العكس، فلم يبق إلا أن المؤول ينطق بنسبة هذه الأمور لله، مع كونه لا يثبت حقيقتها.
ثم يكمل الطبري قائلًا:
ثم يكمل الطبري قائلًا:
"وإن قال:"بلى"، قيل له: أفنقول من الوجه الذي
قلت:"الله يستهزئ بهم" و"سخر الله منهم "-"يلعب الله بهم"
و"يعبث" - ولا لعبَ من الله ولا عبث؟
فإن قال:"نعم"! وَصَف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه."
فإن قال:"نعم"! وَصَف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه."
ماهر: فبعدما اعترف وأقر بنسبة هذه الأمور "الاستهزاء والسخرية من الكافرين" إلى الله متابعةً لنصوص الوحي، مع كونه لا يثبت حقيقتها ويراها ممتنعة عليه لكونها عبثًا ولعبًا منفيًا عن الله، ألزمه الطبري أن يصنع نفس الشيء مع "العبث واللعب"، فلينسبتهما إلى الله مع كونهما ممتنعين عليه في حقيقتهما!
أليس صحح نسبة الاستهزاء والسخرية لفظًا متابعةً للنص؟ ولم يجد في ذلك بأسًا؟
فلينسب له العبث واللعب إذن، وليقل بعدها: لستُ أثبتُ حقيقتهما الممتنعة، كما صنع مع الاستهزاء والسخرية.
فإن قال نعم أجيز نسبة اللعب والعبث له كما جازت نسبة السخرية والاستهزاء بهذا المسلك= فقد ضلَّ.
أليس صحح نسبة الاستهزاء والسخرية لفظًا متابعةً للنص؟ ولم يجد في ذلك بأسًا؟
فلينسب له العبث واللعب إذن، وليقل بعدها: لستُ أثبتُ حقيقتهما الممتنعة، كما صنع مع الاستهزاء والسخرية.
فإن قال نعم أجيز نسبة اللعب والعبث له كما جازت نسبة السخرية والاستهزاء بهذا المسلك= فقد ضلَّ.
ثم يكمل:
"وإن قال: لا أقول:"يلعب الله بهم" ولا"يعبث"، وقد أقول"يستهزئ بهم" و"يسخر منهم". قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث، والهزء والسخرية، والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا، ولم يَجُزْ قِيلُ هذا، افترق معنياهُما. فعُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر. وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه. وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفق لفهمه."
"وإن قال: لا أقول:"يلعب الله بهم" ولا"يعبث"، وقد أقول"يستهزئ بهم" و"يسخر منهم". قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث، والهزء والسخرية، والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا، ولم يَجُزْ قِيلُ هذا، افترق معنياهُما. فعُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر. وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه. وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفق لفهمه."
ماهر:
وهنا ختام مناظرة الطبري، فإن كان المخالف ينطق بنسبة "السخرية والاستهزاء بالكافرين" تبعًا للوحي، وينطق بهما
عند التلاوة برغم أنفه لمجيء النصوص بهما، وكان في نفس الوقت لا يجيز أن نسبة ما زعمَ أنه في معناهما، وإن لم يثبت حقيقتهما= ثبت الفرق بين هذه المعاني، وأن السخرية والاستهزاء لا يقتضيان اللعب والعبث وليسا مرادفين لهما، وإلا لأجاز استعمالهما فيما يُنسبُ إلى الباري ولو لفظًا دون تحقيق.
ومن ثمَّ كان تأويلها بالجواب والمشاكلة باطلًا لدلالة السياق ولعدم القرينة، فقد زالت حجته الأولى التي امتنع لأجلها من إثبات هذه الصفات حين قال: "إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ، وذلك عن الله عز وجل منفيٌّ" وصارت هذه الصفة مثبتة لا بمعنى العبث واللعب، و"عُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر"ومن عظيم ما يستفاد من هذه المناظرة: أن الطبري لا يقبل مسلك التفويض والتأويل، أما رفضه للتفويض فلأنه يناقش هنا في المعاني لا الألفاظ، بل يرفض ما أقره الخصم على نفسه من قبول نسبة لفظي "السخرية والاستهزاء" دون ثبوتهما على الحقيقة، وهو من جنس ما يصنعه المفوضة من قبول نسبة اليد والوجه وغير ذلك مع كونهم لا يثبوت معانيها على الحقيقة، ويكتفون بنسبتها لفظًا تبعًا للنص، فنجد البري يلزم من صنع هذا الصنيع أن يقبل نسبة غيرهما من الألفاظ القبيحة ما دام عدم ثبوت معانيها على الحقيقة كافيًا في دفع الشنعة، فإن كان يجوز أن تنسب للباري لفظًا ما هو ممتنعٌ ثبوت معناه، فلتنسب له ما هو من جنس ذلك لفظًا وإن كان ممتنع المعنى، كاللعب والعبث، ما دامت ألفاظًا مترادفة!
فإن رفضت ذلك علمنا أنك تميز بين معاني ما قبلت نسبته لله ومعاني ما رفضت نسبته.
وأما عدم قبوله للتأويل، فلأنه دفع تأويلًا شهيرًا لهذه الآيات.
ومن ثمَّ كان تأويلها بالجواب والمشاكلة باطلًا لدلالة السياق ولعدم القرينة، فقد زالت حجته الأولى التي امتنع لأجلها من إثبات هذه الصفات حين قال: "إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ، وذلك عن الله عز وجل منفيٌّ" وصارت هذه الصفة مثبتة لا بمعنى العبث واللعب، و"عُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر"ومن عظيم ما يستفاد من هذه المناظرة: أن الطبري لا يقبل مسلك التفويض والتأويل، أما رفضه للتفويض فلأنه يناقش هنا في المعاني لا الألفاظ، بل يرفض ما أقره الخصم على نفسه من قبول نسبة لفظي "السخرية والاستهزاء" دون ثبوتهما على الحقيقة، وهو من جنس ما يصنعه المفوضة من قبول نسبة اليد والوجه وغير ذلك مع كونهم لا يثبوت معانيها على الحقيقة، ويكتفون بنسبتها لفظًا تبعًا للنص، فنجد البري يلزم من صنع هذا الصنيع أن يقبل نسبة غيرهما من الألفاظ القبيحة ما دام عدم ثبوت معانيها على الحقيقة كافيًا في دفع الشنعة، فإن كان يجوز أن تنسب للباري لفظًا ما هو ممتنعٌ ثبوت معناه، فلتنسب له ما هو من جنس ذلك لفظًا وإن كان ممتنع المعنى، كاللعب والعبث، ما دامت ألفاظًا مترادفة!
فإن رفضت ذلك علمنا أنك تميز بين معاني ما قبلت نسبته لله ومعاني ما رفضت نسبته.
وأما عدم قبوله للتأويل، فلأنه دفع تأويلًا شهيرًا لهذه الآيات.
4- إثبات ما نفاه المتكلمون مما سموه
انفعالًا أو تفاعلا:
ففي
قوله سبحانه }يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ{ قال أبو جعفر:
"فإن قال لنا قائل: قد علمت أن"المُفاعلة" لا تكون
إلا من فاعلَيْن، كقولك: ضاربتُ أخاك، وجالست أباك - إذا كان كل
واحد مجالس صَاحبه ومضاربَه. فأما إذا كان الفعلُ من أحدهما، فإنما يقال: ضربتُ
أخاك، وجلست إلى أبيك، فمَنْ خادع المنافق فجاز أن يُقال فيه: خادع الله
والمؤمنين؟ قيل: قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلم بلغات العرب: إنّ ذلك حرفٌ جاء
بهذه الصورة أعني"يُخَادِع" بصورة"يُفَاعل"، وهو بمعنى"يَفْعَل" ....وليس القول في ذلك عندي كالذي
قال، بل ذلك من"التفاعل" الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يُعرف من معنى"يفاعل ومُفاعل" في كل
كلام العرب. وذلك: أن المنافق يُخادع الله جل ثناؤه بكَذبه بلسانه - على ما قد
تقدّم وصفه - والله تبارك اسمه خادِعُه، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاةُ
نفسه في آجل مَعادِه"
ماهر: وفي كلام الطبري تقرير له لما يسميه
المتكلمون "انفعالًا" ويمنعون لأجله أن يفعل الله فعلًا يقابل به فعل
عبده، كأن يغضب لمعصيته، أو يفرح لتوبته، أو غير ذلك، بل يثبت هذا الذي يسمونه
"انفعالًا" في صفة أخرى مشكلة على مبانيهم وهي "الخداع"،
واعلم أن لفظ الانفعال لفظ مجمل، فإن أريد به: مقابلة حدث أو موقف ما بفعل من
الأفعال، فهو حق، وغير هذا المعنى لا يلزم أحدًا من العرب، فضلًا عن أن يلزمنا في
إثبات أفعاله سبحانه التي ليس كمثلها شيء، والتي يقابل بها فعل عبده ويجازيه عليه، فيفرح لتوبته ويغضب لمعصيته ويجيب دعاءه إن دعاه، وما إلى ذلك.
5- إثبات القدر المشترك في الصفات:
حيث قال في تفسير البسملة }بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{:
"ثم ثنَّى باسمه، الذي هو الرحمن، إذ كان
قد مَنع أيضًا خلقه التسمي به، وإن كان من خلْقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه.
وذلك أنه قد يجوز وصْف كثير ممّن هو دون الله من خلقه، ببعض صفات الرحمة.
وغير جائز أن يستحق بعضَ الألوهية أحد دونه. فلذلك جاء الرحمن ثانيًا لاسمه الذي
هو "الله". وأما اسمه الذي هو"الرحيم" فقد ذكرنا أنه مما هو
جائز وصْف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره" اهـ
ماهر:
فههنا أمران، إثبات صفة الرحمة، وهو مشكل عند المتكلمين، ورد قول من يثبتها منهم
مفوضَةَ المعنى، فيقرر أن المخلوق متصف بمعناها، وأن من المخلوقات من يستحق تسميته ببعض معاني ما تسمى
به الخالق، ومن ذلك الرحمة. ثم كيف سيُعرَف استحقاق المخلوق بعض ما سمي به الخالق إن لم نعرف قدرًا مشتركًا ومعنى مفهومًا كليًا يصحح ذلك؟
6- إثبات صفة الوجه:
- في تفسير قوله تعالى }وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ{ قال أبو
جعفر رحمه الله:
"وذو
الجلال والإكرام من نعت الوجه فلذلك رفع (ذو) "
- وقال رحمه الله في معرض تفسيره قول الله تعالى }سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ
لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى{:
"ومنها
النور، وكان بعضهم يتأوّل في الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لَولا
ذلكَ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما أدْرَكَتْ مِنْ شَيْء" أنه عنى بقوله
سبحات وجهه: نور وجهه."
-وفي تفسير قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{ قال
أبو جعفر رحمه الله:
"واختلف
في تأويل قوله: }فثم وجه الله{ فقال بعضهم: تأويل ذلك: فثم قبلة الله، يعني بذلك وجهه الذي وجههم
إليه ...... وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل: }فثم وجه الله{، فثم الله تبارك وتعالى. وقال آخرون: معنى قوله: }فثم وجه الله{، فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم. وقال آخرون: عنى ب "الوجه" ذا الوجه. وقال
قائلو هذه المقالة: وجه الله صفة له."
ماهر:
هذه الآية قد اختلف فيها وقال جماعة -منهم شيخ الإسلام- أنها ليست من آيات الصفات،
فالخلاف فيها قديم، ونقل الطبري الأقوال فيها دون ترجيح لقول على آخر، ولكن عدم ترجيحه لا يقتضي أن يكون نافيًا لهذه الصفة، فقد أثبتها في غير هذا الموضع كما رأينا.
- وفي تفسير قوله تعالى }إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{ قال:
"وأولى
القولين في ذلك عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الحسن وعكرمة، من أن معنى ذلك
تنظر إلى خالقها، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .... قال: "....
وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه الله كل يوم مرتين .... قال: تنظر كل
يوم في وجه الله عز وجل"
7- إثبات صفة الرحمة:
قال
في تفسير قوله تعالى }إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ{:
"ويعني
بقوله جل ثناؤه:}إنّ الله بالناس لَرَءوفٌ رحيمٌ{: أن الله بجميع عباده ذُو رأفة. و(الرأفة)، أعلى مَعاني الرحمة"
وقال في تفسير قوله تعالى }وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ{:
"قد
دللنا فيما مضى على معنى(الرأفة)، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وأنها رقة
الرحمة"
ماهر:
تفسير الرحمة بالرأفة، والرأفة برقة الرحمة، لدليل على أنها صفات مفهومة معلومة
واضحة، وليست مفوضة مجهولة لا يعلم منها شيء، أو لا يعلم منها أكثر من أنها صفة لها عَلَمٌ يعينها لا أكثر بلا معنى وراءه،
وليس شرطا لمعرفة الصفة وفهم معناها أن تعرَّف
بالحد الأرسطي، بل تعريف الرحمة بالرأفة يكفي في بيان المراد وتمييز الصفة
عن غيرها من الصفات، وأنه يثبت منها أمرا زائدا على كونها فقط صفة، بل الرأفة مثلًا
ليست فقط الرحمة، بل هي "رقة الرحمة" وما نقلناه سابقًا من إثباته للقدر
المشترك في صفة الرحمة تحديدًا فيه تأكيدٌ لما ذكر هنا.
8- إثبات الكلام الجديد بحرف وصوت:
مقدمة: رغم وضوح كلام الإمام في تفسيره، إلا أنني ارتأيت أن أقدم بشيء من كلامه في غير
التفسير، مما يعضد دلالة ما نقلناه، ويؤيد بالحق ما فهمناه، فقد قال الإمام رحمه الله
في صريح السنة:
" فأول ما نبدأ بالقول فيه من ذلك عندنا: القرآن كلام
الله وتنزيله؛ إذ كان من معاني توحيده، فالصواب من القول في ذلك عندنا أنه: كلام
الله غير مخلوق كيف كتب وحيث تلي وفي أي موضع قرئ، في السماء وجد،
وفي الأرض حيث حفظ، في اللوح المحفوظ كان مكتوبا، وفي ألواح صبيان الكتاتيب مرسوما،
في حجر نقش، أو في ورق خط، أو في القلب حفظ، وبلسان لفظ، فمن قال غير ذلك أو
ادعى أن قرآنا في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا،
أو اعتقد غير ذلك بقلبه، أو أضمره في نفسه، أو قاله بلسانه دائنا به، فهو بالله كافر،
حلال الدم، بريء من الله، والله منه بريء، بقول الله عز وجل: {بل هو قرآن مجيد في لوح
محفوظ}، وقال وقوله الحق -عز وجل-: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام
الله}، فأخبر، جل ثناؤه، أنه في اللوح المحفوظ مكتوب، وأنه من لسان محمد صلى الله
عليه وسلم مسموع، وهو قرآن واحد ... وكذلك هو في الصدور محفوظ، وبألسن الشيوخ
والشباب متلو."
ماهر:
لا شك أن هذا الكلام من أبعد ما يكون عن تأصيل المتكلمين وتفريقهم بين الكلام
النفسي -الغير مخلوق- وبين الكلام اللفظي الدال عليه -المخلوق-، بين القرآن النفسي والقرآن اللفظي!
حيث أن الطبري لم يورد هذا التفريق رغم أهميته في هذا المبحث، بل لا نجده يذكر هذا التفريق في أي موضع من تفسيره، وعلى عكس ذلك تمامًا، نجده هنا حين ينفي مخلوقية القرآن، ينفيه عن اللفظي الذي كرر كثيرًا وصفه بأنه: المتلو المحفوظ المكتوب المسموع المنقوش المخطوط، ولا يوصف النفسي بشيء من ذلك، ونجده يصرح بنفي أي قرآن خلا ذلك، فلا قرآن عنده ولا كلام لله إلا هذا اللفظي الذي هذه صفاته.
حيث أن الطبري لم يورد هذا التفريق رغم أهميته في هذا المبحث، بل لا نجده يذكر هذا التفريق في أي موضع من تفسيره، وعلى عكس ذلك تمامًا، نجده هنا حين ينفي مخلوقية القرآن، ينفيه عن اللفظي الذي كرر كثيرًا وصفه بأنه: المتلو المحفوظ المكتوب المسموع المنقوش المخطوط، ولا يوصف النفسي بشيء من ذلك، ونجده يصرح بنفي أي قرآن خلا ذلك، فلا قرآن عنده ولا كلام لله إلا هذا اللفظي الذي هذه صفاته.
ثم
يقول في بحث قولهم "لفظي بالقرآن مخلوق" والتي اشتهر فيها حكم الإمام
أحمد:
"وأما
القول في ألفاظ العباد بالقرآن، فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا تابعي قضى، إلا
عمن في قوله الغناء والشفاء رحمة الله عليه ورضوانه، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن
يقوم قوله لدينا مقام قول الأئمة الأولى: أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله
عنه ، فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول:
"اللفظية جهمية؛ لقول الله جل اسمه: {حتى يسمع كلام الله}، فممن يسمع" ثم
سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه أنه كان يقول: " من قال: لفظي
بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: هو غير مخلوق، فهو مبتدع ".ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله، إذ
لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمنع، وهو الإمام المتبع رحمة الله
عليه ورضوانه."
ماهر:
فهنا يصرح الطبري بموافقة الإمام أحمد في حكمه على اللفظية الذين يقولون بأن لفظهم
بالقرآن مخلوق= أنهم جهمية لأنهم يريدون بذلك نفي كلام الله والقول بمخلوقيته،
وبطبيعة الحال فإن موضوع نقاشهم هنا هو الكلام اللفظي، ولو كانوا لا يثبتون إلا كلامًا
نفسيًا هو الكلام غير المخلوق الذي وقع فيه النزاع= لما شنعوا على القائلين
"لفظي بالقرآن مخلوق"، إذ على مذهب المتكلمين: اللفظ بالقرآن عمومًا
مخلوق، والكلام اللفظي المخلوق عندهم دال على النفسي غير المخلوق، فهو ملخوق لكونه "ألفاظًا" بغض النظر عن إضافته للقارئ بقولهم: "لفظي"، ومن ثم -على قولهم- لا معنى ولا مبرر للتشنيع وإقامة قضية من هذه الجملة ألبتة! فليس لفظي مخلوقًا فقط، بل اللفظ نفسه مخلوق، ولكن لإيمان الطبري والإمام أحمد من قبله بأن القرآن كلام الله الذي تكلم بجمله ألفاظًا غير مخلوقة، شنعوا على مطلق هذه العبارة لأنها مجملة قد تفيد مخلوقية الألفاظ نفسها وقد تفيد مخلوقية فعل القارئ، واستعملها الجهمية للتعمية على مرادهم.
ويوافق
كلامه في صريح السنة ما ذكره في "التبصير" حيث يقول:
" كما كان غير جائزٍ أن يتحول كلام الله -عز وجل- مخلوقاً
بقراءة قارئٍ، أو كتابة كاتبٍ، أو حفظ حافظٍ. أو يتحول الصانع مصنوعاً، أو القديم
محدثاً بذكر محدثٍ مصنوعٍ إياه؛ فكذلك غير جائزٍ أن تتحول قراءة قارئ، أو تلاوته، أو
حفظه القرآن قرآناً أو كلام الله -تعالى ذكره-؛ بل القرآن هو الذي يقرأ ويكتب ويحفظ،
كما الرب -جل جلاله- هو الذي يعبد ويذكر."
ماهر:
فالقرآن عنده هو القرآن، وهو كلام الله، لا يتحول مخلوقًا بمجرد قراءة قارىء أو كتابة كاتب، والكلام هنا أيضًا عن
اللفظي كما نرى، وأن المقروء المكتوب هو نفسه غير المخلوق، فغير المخلوق ههنا
هو اللفظي، لا النفسي الذي ليس من شانه أن يقرأ أو يكتب أو تعرض له مثل هذه الشبهة
التي يريد ردها وتأكيد خلافها.
ويقول
في التبصير كذلك: "كذلك القول في قائل لو قال: (قراءتي القرآن مخلوقةً) . وزعم
أنه يريد بذلك القرآن مخلوقٌ: فكافرٌ لا شك فيه عندنا، ولا أحسب أحداً أعطي شيئاً من
الفهم والعقل يزعم ذلك أو يقوله. فأما إن قال: أعني بقول (قراءتي) : فعلي الذي يأجرني الله عليه والذي حدث
مني بعد أن لم يكن موجوداً، لا القرآن الذي هو كلام الله -تعالى ذكره- الذي لم يزل
صفةً قبل كون الخلق جميعاً، ولا يزال بعد فنائهم الذي هو غير مخلوقٍ.
فإن القول فيه نظير القول في الزاعم أن ذكره الله -جل ثناؤه- بلسانه مخلوقٌ، يعني بذلك فعله لا ربه الذي خلقه وخلق فعله."
فإن القول فيه نظير القول في الزاعم أن ذكره الله -جل ثناؤه- بلسانه مخلوقٌ، يعني بذلك فعله لا ربه الذي خلقه وخلق فعله."
ماهر: يبين الطبري الآن الفرق بين القرآن الذي هو كلام
الله غير المخلوق، وصفة الكلام القائمة بذات الباري سبحانه، فإن أراد بقوله
(قراءتي مخلوقة) هذه أن القرآن -اللفظي الذي من شانه أن يقرأه- مخلوق= فهو كافر
عند الطبري، وإن أراد بقوله (قراءتي مخلوقة) فعله المخلوق القائم بذاته لا القرآن
-اللفظي المقروء-، وأراد بذلك أن الله خالق أفعال العباد= فلا بأس بذلك وهو نظير
قوله بأن (ذكره الله بلسانه= مخلوق) حيث يريد أن فعله مخلوق لا ربه المذكور عز وجل،
وهذا الموضع فيه إشكال يتعلق بقول الطبري: "القرآن الذي هو كلام الله
تعالى ذكره الذي لم يزل صفة قبل كون الخلق أجمعين، ولا يزال بعد فنائهم الذي هو
غير مخلوق" فكأنه ههنا يقول بقدم
القرآن، وكذلك في قوله في نفس الكتاب: "والقادر الذي لا يعجزه شيءٌ أراده،
والمتكلم الذي لا يجوز عليه السكوت. وأن يعلم أن له علماً لا يشبهه علوم خلقه، وقدرةً
لا تشبهها قدرة عباده، وكلاماً لا يشبهه كلام شيء سواه. وأنه لم يزل له العلم والقدرة
والكلام."
فكأنه هنا ينفي تعلق المشيئة بالكلام، وبالتالي يوافق في
ظاهر هذين النقلين السالمية وبعض الأشاعرة القائلين بأن الكلام لفظي قديم، وكلامه
هنا رغم إجماله قد يفهم بسياقه إن قلنا بأن قوله "الذي لم يزل صفة
..." عائد إلى آخر مذكور وهو "كلام الله" لا "القرآن"
فكلام الله هو الموصوف بأنه صفة قبل الخلق وبعد فنائهم، والقرآن تكلم به الله
نتيجة اتصافه بصفة الكلام، تكلم به حين أراد سبحانه، فإنه أراد أن الله ما زال
متصفًا بصفة الكلام، ولم يستفد هذه الصفة من غيره، ولم يكن ألبتة إلا متكلمًا
من شأنه الكلام قادرًا على ذلك، ويبقى كذلك بعد فناء الخلق، فلا زال موصوفًا بصفات الكمال ولم
يعدمها قط، وإن لم يكن كلامه اللفظي المعين أزليًا، كما لا يزال الواحد منا متصفًا بأنه
متكلم متصف بهذه الصفة وإن لم ينطق بحرف، نظرًا لقدرته على الكلام متى شاء كيف
شاء، ولكونه متكلمًا بالقوة، أما قوله بأنه "لا يجوز عليه السكوت"
فظاهر السياق أنه يريد بذلك نفي السكوت المطلق، فلا يجوز عليه أن يبقى ساكتًا لا
يقدر على الكلام، ويفهم هذا لأجل أنه نفى جواز السكوت بعد نفيه العجز عما يريده، وهذا التوجيه يقبله السياق وهو الأصل نظرًا لما سبق
ولما سنسوقه من كلام الإمام. وسواء ظهر لك مراد الإمام هنا أو بقي
منه شيء مجمل؛ ننطلق بما حصلناه إلى موضوع بحثنا وهو تفسيره رحمه الله.
تنبيه:- من المواقف التي تستحق بحثًا أن يكون للسلف موقفان مختلفان، موقف من القرآن وموقف من غيره من الكلام.
- في تفسير قوله
تعالى: }وَاتَّخَذَ
قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ
وَكَانُوا ظَالِمِينَ{
قال أبو جعفر: "وذلك أن الرب جلّ جلاله
الذي له ملك السموات والأرض، ومدبر ذلك، لا يجوز أن يكون جسدًا له خوار، لا
يكلم أحدًا ولا يرشد إلى خير. وقال هؤلاء الذين قص الله قصَصهم لذلك: "هذا
إلهنا وإله موسى"، فعكفوا عليه يعبدونه، جهلا منهم، وذهابًا عن الله وضلالا."تنبيه:- من المواقف التي تستحق بحثًا أن يكون للسلف موقفان مختلفان، موقف من القرآن وموقف من غيره من الكلام.
ماهر:
فهنا يثبت الطبري الكلام صفة كمال، وأن عدم هذه الصفة نقص يدل على بطلان عبادة
العجل، ولكن هل يريد الطبري بالكلام هنا النفسي؟ يبعد ذلك، لظهور بطلان حجة الوحي التي قامت عليهم، لأنهم قد يجيبوا: بلى يكلمنا بكلام نفسي لا
بحرف وصوت، بكلام نفسي يسمعه بعضنا حين يكشف له عنه! فمن قال إن العجل لا يتكلم؟
فإن قيل: النقص ليس في أنه لا يتكلم بحرف وصوت، بل في أنه لا
يخلق كلامًا بحرف وصوت يدل على كلامه النفسي، بينما الخالق يفعل ذلك، ومن هذه الجهة كان النقص.
فنقول: لقد أجمعتم على تخطيء المعتزلة في كونهم يسمون خالق الكلام في غيره متكلما به، فكيف جاز لكم هنا تأويل عدم كلام العجل بكونه لم يوجد كلاما لفظيا مخلوقا يعبر عما في نفسه؟ ثم خلق
الكلام اللفظي من الأفعال التي لا توجب كمالًا ولا نقصًا عندكم، فقد يقول من أشرك
من قوم موسى: له كلام نفسي ولكنه لم يشأ أن يخلق كلامًا لفظيًا يعبر عنه، وتكون حجتهم صحيحة وفق مبانيكم، ويلزم منها إفحام نبي الله موسى عليه السلام، وكيفما لففتم في تأويل الكلام= لزمكم بطلان حجة النبي.
- وفي تفسير قوله تعالى }وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ
أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{ قال
أبو جعفر رحمه الله: "وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والآلهة التي تُعبد
من دونه، فقال تعالى ذكره (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئا، ولا
ينطق ... كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء ... لأنه لا يفهم ما يُقال
له، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد، فهو لا يفهم، ولا يُفْهَم عنه، فكذلك
الصنم،لا يعقل ما يقال له، فيأتمر لأمر من أمره، ولا ينطق فيأمر وينهي،
يقول الله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) يعني: هل يستوي هذا الأبكم ... ومن هو ناطق متكلم
يأمر بالحقّ ويدعو إليه وهو الله الواحد القهار"
ماهر:
ولا خلاف أن الكلام النفسي يثبت للأبكم عند القائلين به من أهل الكلام، فلا تستقيم
لهم الحجة المذكورة في الوحي! ويلزمهم
ما لزمهم فيما سبق بالضبط، ولا يصح لهم أن يقولوا بأن النقص هنا في عدم قدرة
الأبكم على خلق الكلام اللفظي أو إيجاد ما يدل على كلامه النفسي، لما ذكرناه
سابقًا من أنه قد لا يريد ذلك ولا يمكن التحقق منه، ولا يستفاد من عدم خلقه للكلام
اللفظي أو إيجاده ما يدل على النفسي أي نقص وفق مبانيهم.
فإن
أبعد أحدهم وقال: نقص العجل والأبكم لا لكونهم لم يفعلوا ما يدل على الكلام
النفسي، لأنه لا يجب على الإله عندنا شيء ولا نقص في عدم الفعل والخلق، بل النقص في عدم قدرتهم على ذلك لو
أرادوا بخلاف الإله الذي لو أراد أن يوجد ما يدل على كلامه النفسي لأوجده، فنقول:
وما أدراكم بعدم قدرة العجل والأصنام على ذلك والمشركون يزعمون لها من الغيبيات ما
لها؟
ثم هنا صار النقص لا من جهة البكم وعدم الكلام وإنما من جهة عدم القدرة على الخلق، وهذا بعيد جدًا لا يستفاد لا من سياق ولا من لغة ولا يتصور أن يكون هو احتجاج النبي المذكور في الآية، ولو كان هذا مدلول حجته لكان أقرب للعجمة منه إلى البيان وحاشاه.
ولاحظ تعبير الطبري عن الكلام بــــ "النطق" وهو كالصريح في إرادة الكلام اللفظي وكماليته.
ثم هنا صار النقص لا من جهة البكم وعدم الكلام وإنما من جهة عدم القدرة على الخلق، وهذا بعيد جدًا لا يستفاد لا من سياق ولا من لغة ولا يتصور أن يكون هو احتجاج النبي المذكور في الآية، ولو كان هذا مدلول حجته لكان أقرب للعجمة منه إلى البيان وحاشاه.
ولاحظ تعبير الطبري عن الكلام بــــ "النطق" وهو كالصريح في إرادة الكلام اللفظي وكماليته.
- إثبات سماع بعض بني إسرائيل كلام الله وتحريفهم إياه، ففي تفسير
قوله تعالى: }أَفَتَطْمَعُونَ
أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ
اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ قال أبو جعفر: "وأولى التأويلين اللذين
ذكرت بالآية، وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة ... من أن الله تعالى ذكره
إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل، سماع موسى إياه منه، ثم حرف ذلك وبدل،
من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف
كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عز وجل، استعظاما من الله لما كانوا
يأتون من البهتان ... فقال لهم: كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما
تخبرونهم ... عن غيب لم يشاهدوه ولم يعاينوه وقد كان
بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه، ثم يبدله ويحرفه ويجحده، فهؤلاء
الذين بين أظهركم من بقايا نسلهم، أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحق، وهم
لا يسمعونه من الله، وإنما يسمعونه منكم، وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم ...
ويبدلوه ... من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه، ثم حرفوه من بعد
ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف ... ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود، كانوا أعطوا - من مباشرتهم سماعَ كلام الله - ما لم يعطه أحد غير
الأنبياء والرسل، ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من ذلك." اهـ
ماهر:
وكونهم حرفوا كلام الله وبدلوا ما سمعوه وباشروه من أمره ونهيه دليل على أن المراد
هنا هو الكلام اللفظي، فالكلام النفسي لا يحرف ولا يبدل، فهاهنا كلامٌ سمعوه
وحرفوه، وقد سمعوا أمره ونهيه، والأمر والنهي تعلقات الكلام النفسي عند المخالفين وليست هي هو، ومن
التأويل البعيد أن يقال أن قصد الطبري أنهم حرفوا وبدلوا ما هو دال على الكلام
النفسي، فليس هذا هو الذي سمعوه كما بُيّن، وهم إنما حرفوا ما سمعوه لا ما دلّ على
ما سمعوه.
-تفسير قوله تعالى: }بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى
أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ{ وأوضح البيان من الطبري في إثبات الكلام اللفظي والرد
على من نفى أن الله يقول للشيء كن حقيقةً لا مجازًا، فقد قال أبو جعفر رحمه الله:"
فإنه يعني بذلك: وإذا أحكم أمرا فحتمه، فإنما يقول لذلك الأمر "كن"،
فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده.":
ماهر:
ثم صار الإمام يناقش سؤال: كيف يتجه أمر الله بــ"كن" للمعدوم؟ فذكر
أقوال القائلين في توجيه ذلك، فمن مخصص للأمر المقضي بما يتعلق بالموجود، ومن جاعل
له عامًا يشمل الموجود والمعدوم من جهة أن الله يعلمه فهو موجود في العلم، ومن جاعل
له خاصًا بالإحياء والإماتة فيقول لحي "كن ميتًا" ولميت "كن حيًا"،
ويهمنا هنا القول الأخير، حيث نقله أبو جعفر قائلًا:
"وقال
آخرون: بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه، أنه إذا قضاه وخلقه
وأنشأه، كان ووجد - ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة، إلا وجود المخلوق
وحدوث المقضي -. وقالوا: إنما قول الله عز وجل: ( السماوات والأرض وإذا قضى أمرا
فإنما يقول له كن فيكون )، نظير قول القائل: "قال فلان برأسه"
و"قال بيده"، إذا حرك رأسه، أو أومأ بيده ولم يقل شيئا" اهـ
ماهر:
فنلاحظ أن القول الأخير فيه نفيٌ للكلام اللفظي ولقول "كن"، وأنه "لا
قول هنالك عند قائلي هذه المقالة" ونستفيد من تعليقه على هذا الرأي أمرين،
الأول: أن بقية الأقوال فيها إثبات الكلام اللفظي بخلاف هذا القول الأخير، الثاني:
أن هذا الكلام اللفظي حادث، فماذا اختار الإمام الطبري يا ترى؟
قال
أبو جعفر: "وأولى الأقوال بالصواب ... أن يقال: هو عام في كل ما قضاه الله
وبرأه؛ لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل
بغير برهان ... فأمر الله - جل وعز - لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله
"كن" في حال إرادته إياه مكونا، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده
وتكوينه، إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه"
ماهر:
إذن الإمام يرجح كونه سبحانه يقول "كن" وأن هذه الكلمة تكون حادثةً إذ لا يتقدمها وجودُ المــُكَوَّنَ الحادث ولا يتأخر عنها، فهما معًا، وهذا واضح صريح لا يمكن تأويله بحال من
الأحوال، فههنا قوله "كن" وأن المكون لا يتأخر عن قوله كن، وهو إبطال
صريح لمعتقد من أثبت صفة تكوين قديمة يتأخر مكونها!
ولأجل هذا أنكر على الطبري مفسرٌ آخر وهو ابن عطية، لاعتقاده الأشعري المخالف لاعتقاد إمامنا هنا، والذي يقتضي مخلوقية لفظ "كن" وقدم الكلام النفسي.
ولأجل هذا أنكر على الطبري مفسرٌ آخر وهو ابن عطية، لاعتقاده الأشعري المخالف لاعتقاد إمامنا هنا، والذي يقتضي مخلوقية لفظ "كن" وقدم الكلام النفسي.
ولا
يكتفي بذلك؛ بل يرد على من نفى كونه يقول "كن" سبحانه فيحاججهم قائلًا:
"ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: (فإنما يقول له كن فيكون)، نظير قول القائل: "قال فلان برأسه أو بيده"، إذا حركه وأومأ ... وما أشبه ذلك، فإنهم لا صواب اللغة أصابوا، ولا كتاب الله وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا، فيقال لقائلي ذلك: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له "كن"، أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن، وخرجوا من الملة. وإن قالوا: بل نقر به، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل: "قال الحائط فمال" ولا قول هنالك، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط. قيل لهم: أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول: إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل؟ فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها. وإن قالوا: ذلك غير جائز. قيل لهم: إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده. وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل "قال الحائط فمال"، فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)، وقول القائل: "قال الحائط فمال"؟ وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله." اهـ
"ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: (فإنما يقول له كن فيكون)، نظير قول القائل: "قال فلان برأسه أو بيده"، إذا حركه وأومأ ... وما أشبه ذلك، فإنهم لا صواب اللغة أصابوا، ولا كتاب الله وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا، فيقال لقائلي ذلك: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له "كن"، أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن، وخرجوا من الملة. وإن قالوا: بل نقر به، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل: "قال الحائط فمال" ولا قول هنالك، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط. قيل لهم: أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول: إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل؟ فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها. وإن قالوا: ذلك غير جائز. قيل لهم: إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده. وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل "قال الحائط فمال"، فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)، وقول القائل: "قال الحائط فمال"؟ وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله." اهـ
ماهر:
فانظر كيف أنكر على قائلي هذه المقالة ورماهم بمخالفة الوحي واللغة، وانظر في
المقابل من يقول بهذا التأويل من مخالفينا ويزعم أنها دين السلف ودين الأئمة، ثم انظر كيف
عدّ نافي الكلمة اللفظية "كن" مشبهًا لله بــ "ما لا كلام له
ولا بيان في مثل قول القائل "قال الحائط فمال" فنفي الكلام اللفظي
عنده نفي للكلام والبيان ومشابهةٌ للحائط والجدران، ولا كلام عنده وراء ذلك يسمى
نفسيًا.
وختم
الطبري هذا النقاش الجميل ببيان المعنى الإجمالي للآية وفيه التأكيد على قول أهل
السنة في إثبات قوله سبحانه "كن" الحادثة من حرفين متعاقبين، فقال في
محل الشاهد: "بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه:
"كن"، فيكون موجودا كما أراده وشاءه ..."
9- صفة الغضب:
قال أبو جعفر مفسرًا قوله تعالى}غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ:{
وقال في تفسير قوله تعالى:}فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ{ :
يعني بقوله: آسفونا:
أغضبونا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ... قال ابن زيد، في قوله:
(فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) قال: أغضبونا، وقوله: (انْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ) يقول: انتقمنا منهم بعاجل العذاب الذي عجلناه لهم، فأغرقناهم جميعا في
البحر."
"واختُلِف في صفة الغضب من
الله جلّ ذكره:
فقال بعضهم: غضبُ الله على من غضب عليه من خلقه، إحلالُ
عقوبته بمن غَضبَ عليه، إمّا في دنياه، وإمّا في آخرته ...
وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده، ذم منه
لهم ولأفعالهم، وشتم لهم منه بالقول...
وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من
معاني الغضب، غير أنه -وإن كان كذلك من جهة الإثبات - فمخالف معناه منه
معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم، لأن
الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة،
على ما يعقل من جهة الإثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي هي
معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها."
ماهر: والمعنى الأول هو ما اشتهر عند المتكلمين، حيث
يفسرون الصفة بأثرها، فيصير الغضب: إرادة إحلال العقوبة في الدنيا أو الآخرة،
والفرح: إرادة إحلال النعم والإحسان في الدنيا أو الآخرة، أما الثاني فلا يقولونه
فيما أعلم لمنعهم الكلام اللفظي الحادث، والذم والشتم هنا قولان حادثان نتيجة فعل العبد الذي
استحق به ذلك، وبقي عندنا القول الثالث في تفسير الغضب، والذي نعتقد أنه قول أهل
السنة والجماعة المطرد مع مذهبهم في الصفات والمطرد مع مذهب الطبري الذي
ذكره فيما نقلناه عنه في المقدمة وما تبعها من إثباته الصفات دون تشبيه ولا تعطيل،
فمن أثبت الفرح صفةً كما في المقدمة المنقولة عن التبصير؛ لابد وأن يثبت الغضب صفة
هنا، ويشعر القارىء المنصف حين يرى استطراده في التأصيل للقول الثالث أنه يقول به
أو يميل إليه على أقل تقدير.
ويستفاد من تأصيله في القول الثالث تفصيل جميل، حيث أن
الصفة وإن كانت مفهومة معلومة، لا مجهولة مفوضة لا يستفاد منها شيء، فإن معناها
الخاص بالإله له اعتباران، الأول: هو "معنى مفهوم ... من جهة
الإثبات"، وهو المعبر عنه عندنا بالمشترك الذهني المعنوي، أو القدر
المشترك، أو أصل المعنى، والثاني: معنى "مخالف ... منه معنى ما يكون من
غضب الآدميين" وهو المميز الذي يكون به الامتياز، والذي به يختص كل متصف
بالغضب بما يناسبه، يختص المخلوق بغضب يناسبه، ويختص الخالق بغضب يناسبه، مع
الاشتراك في معنى ذهني " على ما يعقل من جهة الإثبات".
ويرجح إرادة الطبري التفسير الثالث= ما أورده في التعبير
عن الغضب بألفاظ مختلفة تفيد نفس المعنى، مما يفيدنا أنه يثبت معنىً مشتركًا
بين تلك الألفاظ المختلفة، وصح بهذا المعنى أن يعبر عنه كل مرة بلفظ، فيقول مثلًا: "فمعنى
الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب،
ووجب عليهم منه سخط." ويقول: "مثل الذي حل بأوائلهم من
المسخ والرجف والصعق، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه." ويقول: "يعني: مكسبي أنفسهم غضبَ الله وسخطه." وغير هذا
كثير، بل يفرق بين الغضب وإرادة العقوبة فيقول: "حلّ بهؤلاء المشركين غضب
الله، ووجب لهم العذاب العظيم" ويقول: "وعليهم من الله غضب،
ولهم في الآخرة عذاب شديد" ويقول: "وغضب الله عليه
بقتله إياه متعمدًا،"ولعنه" يقول: وأبعده من رحمته وأخزاه، "وأعد
له عذابًا عظيمًا"، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره."
ويقول: "فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم" وغير
ذلك مما يظهر منه بطلان تفسير الغضب بإحلال العذاب كما في القول الذي نقله أولًا،
ثم إن غضب الله يتصور كونه قبل العذاب.
وقال في تفسير قوله تعالى:}فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ{ :
10- الطبري غير مفوض:
وذلك في تفسير قوله تعالى }وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{ حيث
قال رحمه الله:
"وروي عن ابن عباس وجماعة غيره أنهم
كانوا يقولون : الأرض والسموات جميعا في يمينه يوم القيامة
.. وكان ابن عباس يقول: إنما يستعين بشماله المشغولة يمينه، وإنما
الأرض والسموات كلها بيمينه، وليس في شماله شيء.
حدثنا الربيع ... عن عبد الله بن عمر، أنه رأى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، على المنبر يخطب الناس، فمر بهذه الآية: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فقال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"يَأْخُذُ السَّمَوَاتِ وَالأرَضَينَ
السَّبْعَ فَيَجْعَلُهَا في كَفِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ بِهِما كمَا يَقُولُ
الغُلامُ بالكُرَةِ: أنا اللهُ الوَاحِدُ، أنا اللهُ العَزِيزُ"حتى لقد رأينا
المنبر وإنه ليكاد أن يسقط به. حدثنا ابن بشار ... عن عبد الله، قال: جاء يهوديّ
إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا محمد إن الله يمسك السموات
على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والخلائق على أصبع، ثم يقول:
أنا الملك، قال: فضحك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى بدت نواجذه وقال:
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ... عن عبد الله بن مسعود قال : ... فضحك رسول
الله حتى بدت نواجذه تصديقا لما قال ... وقال آخرون : بل السموات في يمينه
، والأرضون في شماله . " اهـ
ماهر: إن الأحاديث التي يوردها الطبري عند تفسيره
آيات الصفات لمن أدل الأمور على كونه غير قائل بالتفويض الذي ألصقه المتكلمون
بالسلف كمبرر لما تواتر عنهم من إثبات، وتخيره للأحاديث التي يوردها لمن أدل
الأمور على فقهه وحسن اعتقاده واعتماده على الآحاد في العقيدة، بل وفي أعلى مطالب
العقيدة وهي صفات الإله، بل في صفات الإله التي تنقض ما غزله المتكلمون من أوضاع
سموها "قواطع عقلية" وإن هي إلا أسماء! فحين يريد تفسير قوله تعالى
(والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) ويأتي بحديثين أحدهما
ورد فيه لفظ (الكف) والآخر ورد فيه ذكر (الأصابع)= لا يبقى عند عاقل شك بأنه لا
يفوض معنى صفة اليد، ولا يعدها طلسمًا أو كالحروف المفتتح بها بعض السور، ولا
يعدها صفةً لا يعلم عنها أكثر من اسمها العَلَمي، بل يفهم معناها المتعلق بمفهوم الكف
والأصابع، فهي عنده صفة مفهومة المعنى مجهولة الكيف والحقيقة.
بل نجده رحمه الله يناقش خلافًا
هو من أدق ما يكون! يبحث فيه عن جواب: هل القبضة هنا هي قبضة اليمين المذكورة نفسها
في قوله }والسماوات مطويات بيمينه{ أم هي قبضة اليد
الأخرى؟ فيروي عن
ابن عباس وجماعة أن السماوات والأرض جميعًا في يمينه يوم القيامة، وينقل قول ابن عباس:
"ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم" فيجمع
ابن عباس ذكر يد الله مع يد المخلوقات في سياق واحد لبيان حقارة العالم في يده
سبحانه كحقارة الخردلة في يد أحدنا، وينقل رأيهم في أن يده الشمال خلو سبحانه، ثم ينقل
القول الثاني في كون السماوات في يمينه والأرضون في شماله، ينسبه لابن عمر وينقل
له الآثار، ولا ينقل غير ذلك، فيدور تأويل الآية بين هذين الرأيين، أيقال في مثل
هذا إنه مفوض لا يفهم من كلمة "يد" إلا كما يفهم من "ألم" و
"حم" و "كهيعص"؟ أو
لا يفهم منها إلا أنها صفة تسمى "يد"!؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! ولا
يكتفي بهذا في تفسير الآية؛ بل يبطل تفسير من يؤل من المتكلمين، التفسير الذي ليس
لهم سواه، فيقول: "وقال بعض أهل العربية
من أهل البصرة: ... (مطويات بيمينه) يقول
في قدرته نحو قوله: (وما ملكت أيمانكم) أي وما كانت
لكم عليه قدرة وليس الملك لليمين دون سائر الجسد ... وقوله (قبضته) نحو قولك للرجل: هذا في يدك
وفي قبضتك. والأخبار التي ذكرناها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه
وغيرهم، تشهد على بطول هذا القول."
ماهر: فانظر إلى هذا الإمام
السني الأثري، كيف لا يعدل بالآثار النبوية السلفية شيئًا، وكيف يفسر بها نصوص
الوحي غير مبالٍ بكونها آحادًا أو بكونها
في مسألة من مسائل أصول الدين، فأين هو ممن أشعلوا حربًا بينهم وبين هذه
الآثار، واستعاضوا عنها بأي وجه تقبله اللغة، وإن لم يقبله شيء سواها! وإن لم
تقبله في هذا السياق، ولا بهذا النسق! وإن لم تقبله فيما
أنزل للبيان والهدى بعد أن قبلته فيما أنزل للتضليل والإلغاز والتورية!