توحيد الألوهية
ما الذي يهمنا في تحقيق هذا الجزء من عقيدة الطبري؟
يهمنا إظهار تقرير الطبري ما يأتي:
1- إثبات الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، بغض النظر عن تسمية كل قسمٍ منهما وجعلهما بهذين العنوانين، وأن التحقق بالأول لا يكفي ولا ينجي ولا يتم إلا بالثاني، وأن ثبوت القسم الأول لا يمنع انطباق وصف الشرك وعبادة غير الله على مستحقهما إن لم يحقق القسم الثاني.
2- إثبات أن المشركين كانوا يؤمنون بخالقية الله وتفرده بالربوبية، وأنه هو الآذن الوحيد بالشفاعة، وأن لا أحد من عباده له أدنى استقلال بشيء، أو إثبات أن (بعضهم) على الأقل كان يؤمن بهذا ولم يدفع ذلك وصفهم بالشرك، ولم يغن عنهم شيئًا حين صرفوا العبادة لغير الله، فإثبات هذا في رجلٍ واحدٍ سماه الوحي مشركًا كافٍ في إثبات المطلوب، إذ المخالف يزعم أن (كل) شركٍ شرطه اعتقاد استقلال وتفرد بخالقية أو تصرف، والكلية الموجبة تنقض بجزئية سالبة.
3- إثبات انفكاك مسمى العبادة عن اعتقاد الخالقية أو الاستقلال بشيء، وأن الشخص يسمى (عابدًا لغير الله) وإن لم يكن يعتقد في هذا المعبود أنه (مستقلٌ أو مشاركٌ لله في القدرة على الخلق)، والخلق جنسٌ عام، وفعلٌ متعلقٌ بأمور كثيرة، فيندرج تحته النفع والضر، والتدبير والتصرف في المخلوقات، والاستقلال بإيجاد شيء، أو الاستقلال بفعلٍ ما كشفاعةٍ أو غيرها. فنفي قدرة موجودٍ ما على الخلق (نفيٌ لكل ما سبق بالتضمن ضرورةً)، فالمخلوق لا يملك إلا التصرف في موجودات محكومة بسنن وأسباب، والحركة في حدود ما تسمح به، فلا يملك أن يستقل فيها بخلق شيء، بل حركة المخلوق وتصرفه هو نفسه في ملك الله وتدبيره سبحانه ما دام لا يستقل بخلق.
4- إثبات أن التشفع بالأموات والاستغاثة بهم -بصورة معينة- عبادةٌ لغير الله وتلبسٌ بشرك، وأن هذا الفعل يسمى عبادةً ودعاءً لغير الله (وإن لم يعتقد الداعي في المدعو استقلالًا بشيء من خلق أو تدبير)، فاشتراط هذا الاعتقاد لتسمية الأفعال السابقة (عبادةً) خاطئ. مع إثبات الفرق بين الدعاء الغيبي العبادي والطلب التسببي العادي، وأن الأول لا يصرف لغير الله بخلاف الثاني.
فإذا ثبت عند الطبري الفرق بين توحيدي الربوبية والألوهية، أو مضمون قسمي التوحيد هذين بغض النظر عن تسميتهما (ربوبيةً) و(ألوهية)، وأن المشركين كانوا يؤمنون بالأول ويجحدون الثاني، وأن إيمانهم بالتوحيد الأول لم يمنع تسمية ما صرفوه لغير الله عبادةً، ولم يمنع عنهم وصف الشرك، ثبت بطلان عقد المخالفين الذين ينازعون فيما سبق ويسوغون بهذه المنازعة صنيع القبورية الجائرين للأموات، وأنهم بمنأى عن عقائد السلف وفهمهم المتمثل بأفضل مصداق تفسيري، تفسير الطبري.
1- اعتقاد بعض المشركين وحدانية الله في الخالقية والتدبير والملكوت والرزق والإجارة والإحياء والإماتة والتدبير، وعدم اشتراط اعتقاد شيء من ذلك في المقصود من دونه ليكون معبودًا أو إلهًا، وأنه اجتمع فيهم إيمان وكفر، توحيد وشرك، فلم يغنهم إيمانهم وتوحيدهم:
* قال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وبعد أن نقل الأقوال في تفسيرها وبأن مجاهد جعل المقصودين بالآية أهلَ الكتابين:
"وأحسب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها، وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته، غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جل ثناؤه: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)، وقال: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) فالذي هو أولى بتأويل قوله: "وأنتم تعلمون" - إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل ثناؤه عنى بقوله: "وأنتم تعلمون" أحد الحزبين، بل مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم، لأنه تحدى الناس كلهم بقوله: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم" أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله وأنه لا شريك له في خلقه، يشرك معه في عبادته غيره، كائنا من كان من الناس ..." اهـ
قلت: فانظر رحمك الله كيف نسب الطبري إلى مشركي قريش أنهم كانوا يقرون بـ (وحدانية) ربهم في الخلق والرزق والإبداع، كما يقر أهل الكتابين، ولاحظ أمرين:
الأول: تعبيره عن عقيدتهم بالوحدانية، تنصيص على تقسيم التوحيد خلافًا لمن ينازع في ذلك، رغم اتفاق المخالفين على تقسيم التوحيد (الأشعرية تقسم التوحيد إلى ما يكون في الذات والصفات والأفعال، بنفي الكموم الخمسة، الكم المتصل والمنفصل في الذات والصفات، والمنفصل في الأفعال، فهي خمسة أقسام).
الثاني: كيف استدل بالآيات التي يستدل بها مخالفو القبورية ودعاة الأموات من بعده لهذا المطلب، بجعل شركهم في العبادة لا في توحيد الخالقية.
وهنا يظهر ما سيزداد جلاؤه ويتأكد لاحقًا من أن الطبري لا يجعل الاعتقاد بخالقية ورازقية المقصود شرطًا في تسمية الفعل المصروف إلى هذا المقصود عبادةً، وأن المشرك قد يجمع بينهما فيكون موحدًا في الأولى -الخالقية- مشركًا في الثانية -العبادة-.
وبغض النظر عن تعريف العبادة أو تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية، فالأمر أيسر من هذا بكثير، ولا يحتاج سكب المداد في سبك تعريف العبادة ونقاش حدها، أو نقاش تفريقنا بين التوحيدين، وإنما يكفي أن نقول: ها هنا مشركون اعتقدوا عقيدةً لم تنفعهم، ولم تدفع عنهم وصف الوحي إياهم بأنهم "عابدين لغير الله" ومشركين، فمن زعم أن هذه العقيدة تنفع مرتكبي هذه الأفعال اليوم لزمه أن تنفع مشركي الأمس، فإن بطل اشتراط هذه العقيدة وبطل حجبها وصف الشرك وعبادة غير الله، وجب المصير إلى غيرها وإلا فلا فرق. وهذه لعمري موافقةٌ من الطبري للوحي كما عوَّدنا، وتأكيد على ما صرح به وأظهر.
* وفي تفسير {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال أبو جعفر:
"يقول تعالى ذكره: وما يقر أكثر هؤلاء الذين وصف عز وجل صفتهم بقوله: (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) بالله أنه خالقه ورازقه وخالق كل شيء (إلا وهم مشركون)، في عبادتهم الأوثان والأصنام، واتخاذهم من دونه أربابا، وزعمهم أن له ولدا، تعالى الله عما يقولون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل"
قلت: مرة أخرى يفصل الطبري بين (عقيدة التوحيد في الخلق والرزق) وبين (فعل عبادة غير الله)، فلا يشترط الأولى لتحقق مسمى الثانية، بل يجمع المشرك بينهما ولا تدفع عنه العقيدة الأولى صحة وصفه بفعل الثاني، فهو موحد لله في الخالقية ومشركٌ معه في العبادة، في آن واحدة.
ثم إن اعتقادهم بأن الله خالق كل شيء كما ذكر الطبري- يدفع تأويلات المنافحين عن الاستغاثة بالموتى من المعاصرين الذي زعموا أن من شرط العبادة أن تعتقد في المعبود استقلالًا بشيء من النفع والضر، فإن اعتقاد المشركين بأن الله خالق (كل شيء) يعني بالضرورة أن كل ما عداه مخلوق غير مستقل عنه بشيء، فكل شيء عندهم مخلوقٌ له، ومع هذا هم مشركون لم ينفعهم عقدهم، وعبادون لغير الله. فلم ينفعهم أنهم لا يثبتون للمخلوق الذي قصدوه خلقًا واستقلالا، ولم يمنع تسمية فعلهم الذي قصدوه به عبادةً.
ثم يذكر الطبري مناطات مختلفة للكفر، كعبادة الأوثان والأصنام، واتخاذهم من دون الله أربابًا، وزعمهم له الولد.
ونلاحظ أن الطبري لم يكن يفرق في الإطلاق بين وصفي (الإله) و(الرب) ، بل يعبر بالرب عن الإله والعكس، وهذا لأنهما متلازمان، إن افترقا اجتمعا وإن اجتمعا افترقا، كالإيمان والإسلام مثلًا. فالتقسيم إلى ربوبية وألوهية يهمنا فيه المعنى لا تسمية الأول (ربوبية) والثاني (ألوهية). ولا ينبغي التغبير على هذه العناوين بمعارضة التقسيم كلما وجد المخالف كلمة (رب) أو (أرباب) في الوحي أو كلام العلماء مُعَبَّرًا بها عن الإله، فإن كلًا منهما يعبر به عن الآخر بلا إشكالٍ على أصل التقسيم الثابت معناه قطعًا.
ولنقسم التوحيد إلى توحيد علمي وتوحيد عملي، أو توحيد خالقية وتوحيد عبودية، أو غير هذا مما يهمنا فيه إيصال المقصود، لا خصوص لفظتي (ربوبية) و(ألوهية).
* وقال أبو جعفر في تفسير قوله تعالى {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ () سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ () قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ () سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ () قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ () سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ}:
"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بالآخرة من قومك: لمن ملك الأرض ومن فيها من الخلق، إن كنتم تعلمون من مالكها؟ ثم أعلمه أنهم سيقرّون بأنها لله ملكا... أعلمه أنهم سيقرّون بأنها لله ملكا دون سائر الأشياء غيره (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يقول: فقل لهم إذا أجابوك بذلك كذلك أفلا تذكرون، فتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو قادر على إحيائهم بعد مماتهم وإعادتهم خلقا سويا بعد فنائهم... يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: من ربّ السماوات السبع، وربّ العرش المحيط بذلك؟ سيقولون: ذلك كله لله، وهو ربه، فقل لهم: أفلا تتقون عقابه على كفركم به وتكذيبكم خبره وخبر رسوله؟... يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: من بيده خزائن كلّ شيء؟... وقوله (وَهُوَ يُجِيرُ) من أراد ممن قصده بسوء، ( وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ) يقول: ولا أحد يمتنع ممن أراده هو بسوء، فيدفع عنه عذابه وعقابه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) من ذلك صفته. فإنهم يقولون: إن ملكوت كلّ شيء والقدرة على الأشياء كلها لله"
قلت: وفيه أبلغ مقال، بأنهم كانوا يثبتون ذلك (كله) لله، وأن (كل شيء) في ملكوته وقدرته، لا بعض الأمور دون بعض، أو يشركه في بعضها البعض. ولا شيء في الآية يدل على كذبهم أو نفاقهم، بل قصد الوحي هنا ابتداءً أن يحاجهم حين أنكروا البعث، أن: كيف تؤمنون بكل هذا ثم تنكرون البعث؟ ثم تكذبون رسوله؟ ثم لا تخافون عقابه على صنيعكم هذا؟ وفيه إثبات التلازم بين الأمرين، اعتقاد تفرد الله بالربوبية، ووجوب إفراده بالألوهية، وهنا: وجوب الاتساق مع هذا الاعتقاد بعدم إنكار البعث وتكذيب الرسول. واعلم أننا لا ننازع في دلالة هذا على عدم طهارة اعتقاد من يشرك بالله في العبادة، أو لا يلتزم لوازم اعتقاده بالربوبية، فلو كانوا مؤمنين على التمام بما صرحوا به لالتزموا لوازمه، فهم بين تناقض دافعه الهوى والتقليد وخللٍ في أصل الاعتقاد الذي صرحوا به، ولكن هذا ما نقرع به مشابهيهم اليوم، أن تصريحكم بهذا الاعتقاد وزعمكم إياه يقتضي أن تفردوا الله بالعبادة، فما معنى ترك الاستغاثة بالله، وترك التسببات العادية والشرعية التي أذن بها الله، لبشرٍ أمواتٍ لا تعلمون بيقين سماعهم إياكم، دع إجابتهم، دع إذن الله بذلك، حال تعسفكم في تسويغ ذلك وتأويل ما يخالفه، لا سيما وكل هذه النصوص التي تحذركم صورة هذه الأفعال على أقل تقدير، لا سيما وأنتم تتأولون ما هو أظهر دلالة من هذا في الصفات.
وذكر الإجارة هنا مهم إذ له علقة بالشفاعة الآتي نقاشها، فهي جنسٌ عامٌ تدخل في الشفاعة، أن يجير الولي سائله فيرفع عنه بلاء الله أو يجلب له نفعًا لم يعطه إياه الله، فمشركو قريش مصرحون بأن لا أحد يجير على الله، وأنه إن وقع من أوليائهم فبإذن الله إذ لا أحد يعدو حكمه ويجير منه، فلا مجير على الاستقلال سواه، ومن ثمَّ فكيف يُنسب لهم (جميعًا) اعتقاد استقلال معبوداتهم أو أنها تشفع بإلزام الله سبحانه.
* وكالآية السابقة تجد في قوله تعالى: {قُلۡ مَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن یَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَمَن یُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَیُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتَ مِنَ ٱلۡحَیِّ وَمَن یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَیَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. فيقول أبو جعفر رحمه الله:
"يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد ﷺ: ﴿قل﴾ ، يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الأوثانَ والأصنامَ = ﴿من يرزقكم من السماء﴾ ، الغيثَ والقطر، ويطلع لكم شمسها، ويُغْطِش ليلها، ويخرج ضحاها = ومن الأرض أقواتَكم وغذاءَكم الذي ينْبته لكم، وثمار أشجارها = ﴿أم من يملك السمع والأبصار﴾ يقول: أم من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم التي تسمعون بها: أن يزيدَ في قواها، أو يسلبكموها، فيجعلكم صمًّا، وأبصاركم التي تبصرون بها: أن يضيئها لكم وينيرها، أو يذهب بنورها، فيجعلكم عُمْيًا لا تبصرون ﴿ومن يخرج الحي من الميت﴾ ، يقول: ومن يخرج الشيء الحي من الميت ﴿ويخرج الميت من الحي﴾ ، يقول: ويخرج الشيء الميت من الحيّ... ﴿ومن يدبر الأمر﴾، وقل لهم: من يُدبر أمر السماء والأرض وما فيهن، وأمركم وأمرَ الخلق؟ ﴿فسيقولون الله﴾ ، يقول جل ثناؤه: فسوف يجيبونك بأن يقولوا: الذي يفعل ذلك كله الله ﴿فقل أفلا تتقون﴾، يقول: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربًّا غيرَ من هذه الصفة صفتُه، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئًا، ولا يملك لكم ضرًا ولا نفعا، ولا يفعل فعلا؟"
قلت: والكلام في هذه الآية كالكلام فيما سبقها، وفيها ذكر الرزق والتدبير وامتلاك أسماعهم وأبصارهم، وإخراج الحي والميت، فوق ما ذكر قبلها من الملكوت والإجارة. وليس في الآية ولا تفسيرها ما يفيد أنهم كانوا كاذبين في ذلك، أو أنهم اعتقدوا خلاف ما ذكره الوحي من جوابهم، ولذا أُلزِموا به، واحتُجَّ به عليهم.
وانظر كيف اعتقد بعضهم، ولو رجلٌ واحدٌ منهم، أن الله له التدبير المطلق "أمر السماء والأرض وما فيهن وأمركم وأمر الخلق"، فليس مخلوقٌ يستقل بتدبير دونه، وأنه رازقهم كل شيء من السماء "الغيث والقطر... شمسها... ليلها... ضحاها" ومن الأرض "أقواتكم وغذاءكم... ثمار أشجارها"، ولم يغنهم ذلك شيئًا، ولا رفع عنهم اسم الشرك وعبادة غير الله.
* وفي تفسير {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} قال أبو جعفر رحمه الله:
"وكان سبب اتخاذهم العجل، ما حدثني به عبد الكريم بن الهيثم ... عن ابن عباس قال: ... قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا ... وقال: كن عجلا جسدا له خوار. فصار عجلا جسدا له خوار، وكان تدخل الريح في دبره وتخرج من فيه، يسمع له صوت، فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا على العجل يعبدونه ..."
ثم قال أبو جعفر: "القول في تأويل قوله: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} يعني" وأنتم واضعو العبادة في غير موضعها، لأن العبادة لا تنبغي إلا لله عز وجل، وعبدتم أنتم العجل ظلما منكم، ووضعا للعبادة في غير موضعها. وقد دللنا -في غير هذا الموضع مما مضى من كتابنا- أن أصل كل ظلم، وضع الشيء في غير موضعه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع"
قلت: إذن هم عبدوا العجل وصرفوا له العبادة مع اعتقادهم وعلمهم علم اليقين ورؤيتهم رأي العين أنه من صنع السامري، وأنه ليس خالقًا مدبرًا أو مالكًا مع الله لشيء في الأرض أو السماء، ولكن لم يرفع عنهم هذا الاعتقاد وصف الشرك حين وضعوا العبادة في غير موضعها.
* وفي تفسير قوله تعالى: {ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ احِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ} قال أبو جعفر رحمه الله:
"يقول جل ثناؤه: اتخذ اليهود أحبارهم، وهم العلماء... والنصارى "رهبانهم"، وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم... ﴿أربابا من دون الله﴾، يعني: سادةً لهم من دون الله، يطيعونهم في معاصي الله، فيحلون ما أحلُّوه لهم مما قد حرَّمه الله عليهم، ويحرِّمون ما يحرِّمونه عليهم مما قد أحلَّه الله لهم، كما... حدثنا أبو كريب وابن وكيع... عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسولَ الله ﷺ وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب، فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في "سورة براءة"، فقرأ هذه الآية: ﴿اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله﴾ ، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم!... وأما قوله: ﴿والمسيح ابن مريم﴾ ، فإن معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا من دون الله... وأما قوله: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا﴾ ، فإنه يعني به: وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبارَ والرهبان والمسيحَ أربابًا، إلا أن يعبدوا معبودًا واحدًا، وأن يطيعوا إلا ربًّا واحدًا دون أرباب شتَّى، وهو الله الذي له عبادة كل شيء، وطاعةُ كل خلق، المستحقُّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية = "لا إله إلا هو"، يقول تعالى ذكره: لا تنبغي الألوهية إلا للواحد الذي أمر الخلقُ بعبادته، ولزمت جميع العباد طاعته = ﴿سبحانه عما يشركون﴾ ، يقول: تنزيهًا وتطهيرًا لله عما يُشرك في طاعته وربوبيته"
قلت: وهذه من أظهر الأدلة على عدم اشتراط اعتقاد شيء من الاستقلال في الخلق والرزق والتدبير لمسمى العبادة، إذ لم يعتقد الكتابيون ذلك في الأحبار والرهبان، بل والنبي يذكر وجه العبادة تعليما لعدي بن حاتم، وأن محض تسييدهم وطاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال عبادة.
وفيه فائدة: أن عدي بن حاتم رضي الله عنه تعجب من وصف الكتابيين بعبادة غير الله، إذ هم يصرحون بأنهم لا يعبدون إلا الله، كما لا ينسبون للأحبار والرهبان خلقا ورزقًا وتدبيرًا دع استقلالًا بشيء من ذلك، فلم يغنهم تصريحهم شيئًا، فكذلك من يصرح اليوم بتوحيد الله وعبادته وحده، ثم يرتكب ما جعله الوحي شركًا، إذ العبرة بحقيقة فعله لا بما يسميه هو أو بما يجهله من حقيقته.
* وقال الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا}:
"يعني بذلك جل ثناؤه: (وقل) يا محمد (للذين أوتوا الكتاب) من اليهود والنصارى (والأميين) الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب (أأسلمتم)، يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه (فإن أسلموا)، يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له (فقد اهتدوا)، يعني: فقد أصابوا سبيل الحق، وسلكوا مَحَجَّة الرشد."
قلت: فما هو شرك اليهود والنصارى ما داموا يثبتون ربًا خالقًا رازقًا نافعًا ضارًا؟
إن شمول هذه الآيات لأهل الكتاب مع علمنا بأنهم يؤمنون بربوبية الله لأدل شيءٍ على مطلوبنا، وهو أن عبادة غير الله ووصف الشرك ليس واحدٌ منهما مشروطًا باعتقاد ربوبية وخالقية المقصود. وليس المراد تصحيح إيمانهم بهذا على الحقيقة، بل يكفينا زعمهم هذا وإن كانوا فيه كاذبين، إذ يقال مثله فيمن يصرح اليوم بأنه لا يرى في الفاعلين إلا الله، بل ربما زعم أنه لا يرى في الوجود إلا الله! ثم هو يخضع لغيره ويذل له، مكذبا بفعله لسانه، وبسلوكه ما يوهمنا أنه في قلبه، إذ لا معنى لدعاء غير الله إن كنتَ لا تعتقد فاعلًا على الحقيقة سواه، والتسبب العادي دليله الحس والشرع فما دليل التسبب باستغاثة الموتى مع كل ما سبق في هذا البحث من أدلة مناقضة؟ والمخالفون لا ينازعون في أن الطلب من الله أعلى وأقوم، فما تسويغ دعاء غيره إذن؟ إلا أن يكونوا كاذبين عمدًا أو وهما.
2- بيان الشفاعة الشركية:
* ففي تفسير {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} قال أبو جعفر:
"يقول - تعالى ذكره -: والذين اتخذوا من دون الله أولياء يتولونهم، ويعبدونهم من دون الله، يقولون لهم: ما نعبدكم أيها الآلهة إلا لتقربونا إلى الله زلفى، قربة ومنزلة، وتشفعوا لنا عنده في حاجاتنا ...ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو ... عن مجاهد في قوله: ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) قال: قريش تقوله للأوثان، ومن قبلهم يقوله للملائكة ولعيسى ابن مريم ولعزير." اهـ
قلت: هاهنا فوائد:
الأولى: إثبات أن المشركين صرفوا العبادة لآلهتهم لا لتدبر لهم أو تنفعهم أو تضرهم في حوائجهم استقلالًا وخلقًا وإبداعًا كما يزعم مسوغو الأفعال الشركية اليوم، وإنما لتقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده في حاجاتهم، فحاجاتهم تحقيقها من الله سبحانه لا من هذه المعبودات.
الثانية: يثبت الطبري هنا مرةً أخرى أن تسميتهم (عابدين لغير الله) وتسمية معبوداتهم (آلهة) يكفي فيه أن يصرفوا أفعالًا معينة إليها وإن لم يعتقدوا فيها إلا الشفاعة الشركية! فليس شرطًا أن يعتقدوا فيها خلقًا أو رزقًا أو تدبيرًا أو أي تصرف استقلالي في حاجاتهم، بل يكفي أن يصرفوا لها أفعالًا معينةً لتكون شافعة إلى الله في تحقيق الحاجات ليكونوا (عابدين) لها ولتكون (آلهة)! ولا يشمل هذا من أذن الله لهم بالشفاعة ولم يقصدهم الناس من لدنهم واعتقدوا فيهم ما لم يثبت، فهؤلاء شفاعتهم علمت بإذن الله ورضاه وما أوحاه، وحتى هؤلاء لم نؤمر باستصراخهم وطلب الشفاعة منهم وهم أموات.
الثالثة: أن الشفاعة الشركية شملت في تفسير مجاهد تشفُّع اليهود والنصارى بأنبيائهم وبالملائكة، و-سنستثني هنا عيسى بن مريم عليه السلام لاعتقاد النصارى بنوته- مع أن اليهود والنصارى لا يزعم أحد منهم أن شفاعة هؤلاء تكون بغير إذنه سبحانه أو أنها شفاعة ملزمة لمن هو ناقصٌ في الملك أو التدبير. ومع هذا تناولتهم الآية وعدوا عابدين لهؤلاء رغم عدم اعتقادهم فيهم الخالقية أو الرازقية أو التدبير! وفي هذا ردٌ على بعض من يفرق بين مرتكبي هذه الأفعال اليوم ومرتكبيها أمس بأنهم اليوم يتشفعون بأولياء وأنبياء خلافًا لمشركي قريش المتشفعين بالجمادات، فهاكم أهل الكتاب وأولياءهم، دع ما ثبت في السنة من كون معبودات قوم نوحٍ وقريش رجالًا صالحين.
قد يقال: اعتقدوا فيهم الشفاعة الملزمة التي تجبر الإله على قبولها.
فنقول: هذا أعظم انتقاص لملك الإله وتفرده بالتدبير والخلق والإجارة، وقد ثبت في الوحي أن المشركين كانوا لا يشركون في هذه الأمور كما ذكر ذلك الطبري، أو بعضهم لم يكن يعتقد هذا على الأصل، فهذا النوع من الشفاعة الإجبارية التي تنقض خالقية الله وتدبيره وتصرفه وملكه لم يكن هو مناط شركهم قطعًا، لأنهم أو بعضهم ما اعتقدوها، وسموا مع ذلك مشركين. ثم من قال إنه لا يلزم قبورية اليوم بلسان الحال؟ وإلا فلم يدعون هؤلاء لا الله مباشرة لو كانوا يعتقدون حقًا أن الأمر كله بيد الله، وأن شفاعة هؤلاء بلا قيمة ما لم يأذن الله؟ ولا يُعتَرَض علينا بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وشفاعة غيره يوم القيامة، إذ عُلِمَ الإذن بها، ويقع الاستئذان لها حينئذ كذلك.
ثم إن مجرد عدم ذكره في الآية -أعني الشفاعة الملزِمة- وعدم وروده في التفسير يمنع جعله مناطًا وشرطًا لتحقق وصف الشرك، ويكفينا معه المنع المجرد، فعلى المخالف أن يثبته منصوصا لا مفروضا بالاحتمال، ودون ذلك خرط القتاد.
نعم ربما نتنزل ونقول: اعتقد بعض المشركين هذه الشفاعة الملزمةـ أو اعتقد بعضهم تصرف معبوداتهم، أو حتى استقلالها بشيء من ذلك، ولكن لم ينطق الوحي بجعل هذا مناط شركهم وشرطه، وبعض المشركين -ولو رجلًا واحدًا- أثبتوا الكمال والوحدانية المنافية لهذا النوع الخاص من الشرك، وعُدّوا رغم هذا مشركين، فلا يكون إذن شرطًا في تلبسهم بالشرك.
* وكذلك في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قال الطبري:
يقول تعالى ذكره: ولا تنفع شفاعة شافع كائنًا من كان الشافع لمن شفع له، إلا أن يشفع لمن أذن الله في الشفاعة، يقول تعالى: فإذا كانت الشفاعات لا تنفع عند الله أحدًا إلا لمن أذن الله في الشفاعة له، والله لا يأذن لأحد من أوليائه في الشفاعة لأحد من الكفرة به وأنتم أهل كفر به أيها المشركون، فكيف تعبدون من تعبدونه من دون الله زعمًا منكم أنكم تعبدونه ليقربكم إلى الله زلفى وليشفع لكم عند ربكم. فـ (مَن) إذ كان هذا معنى الكلام التي في قوله (إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ): المشفوع له."
قلت: فهذه حجة أخرى للموحدين على المشركين، مشركي قريش ومن تلبس بصورة أفعالهم اليوم، يبينها الطبري، وهي أن المشركين يقرون -أو بعضهم- بأن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن الله له في الشفاعة، وأن لا شيء يكون إلا بتدبير الله وخلقه وتصرفه، وأن له ملكوت كل شيء، فكيف تتشفعون بالأولياء إلى الله فتكونون عابدين لهم مستغيثين بهم مشركين بالله سبحانه وهو لا يأذن بالشفاعة إلا لمن ارتضى؟
وفيه زيادةً على كونهم مقرين بأن الشفعاء لا يشفعون إلا بإذن الله= أن المشركين كانو يتشفعون بالأولياء، كبعض أهل زماننا. فالتفريق بينهم ومن سلفهم بأنهم يطلبون الشفاعة من الأولياء في حين طلبها أولئك من الجمادات= تذرعٌ ساقط. فأولئك أيضًا كانوا يطلبونها من الأولياء، وقد سبق نقل محاجة الوحي للمشركين من أهل الكتاب وشموله إياهم بالتقريع وبأدلة التوحيد، وأهل الكتاب يدعون الأنبياء والقسيسين والأولياء الصالحين.
* وكذلك في قوله تعالى:{وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡ وَیَقُولُونَ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شُفَعَـٰۤؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ} يقول الطبري:
"يقول تعالى ذكره: ويعبُد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك، يا محمد صفتهم، من دون الله الذي لا يضرهم شيئًا ولا ينفعهم، في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها، ﴿ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله﴾، يعني: أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: ﴿قل﴾ لهم ﴿أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض﴾، يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض؟ وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السموات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السموات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما؟ وذلك باطلٌ لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد، ولا تنفع ولا تضر ﴿سبحان الله عما يشركون﴾، يقول: تنزيهًا لله وعلوًّا عما يفعله هؤلاء المشركون، من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، وافترائهم عليه الكذب."
قلت: وفيه التحذير من الشفاعة الشركية، وأن تحقيق مسماها لتجنبها من أولى الأولويات، وفيه الرد على من يجعلها أمورًا فرعية يسوغ فيها الخلاف، فأي خلف يقبل إذا ثبت بالدليل أن فعلًا ما يندرجُ في هذا؟
وانظر كيف تشفعهم بها شركٌ يتنزه الله عنه، مع أنهم يرجون بها الله، فهو المقصد الأعلى، إلا أن ذلك لم يغنهم شيئا، وكانوا مشركين بتشفعهم بمن لم يجعلهم الله شفعاء، وبلا برهان من الله يفيد إذنه سبحانه بشفاعتهم، ثم بطلب الشفاعة منهم.
وفيه كذلك ربط عدم شفاعتها بنفي نفعها وضرها، إذ الشفاعة نوع نفع، وكل من تشفع بشيء فقد اعتقد نفعه، وإن لم يعتقده استقلالًا، والطبري يؤكد في تفسيره قبح صنيعهم بأن عبدوا ما لا ينفع ولا يضر حتى بسبيل الشفاعة.
3- بيان الاستغاثة الشركية، وتوحيدهم لله بالدعاء عند الشدة ثم إشراكهم بدعاء غيره في الرخاء:
* يقول أبو جعفر في تفسير قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِیۤ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِی سَیَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ}:
"يقول تعالى ذكره: ويقول ربكم أيها الناس لكم ادعوني: يقول: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني من الأوثان والأصنام وغير ذلك ﴿أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ يقول: أُجِبْ دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل... عن ابن عباس، قوله: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ يقول: وحَّدوني أغفر لكم... عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله ﷺ:"الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ" وقرأ رسول الله ﷺ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾...عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله ﷺ:"إنَّ عِبَادَتي دُعائي" ثُم تلا هذه الآية: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ قال:"عَنْ دُعائي".... عن ثابت، قال: قلت لأنس: يا أبا حمزة أبلغك أن الدعاء نصف العبادة؟ قال: لا بل هو العبادة كلها... قيل لسفيان: ادع الله، قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء.
وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾
يقول: إن الذين يتعظمون عن إفرادي بالعبادة، وإفراد الألوهة لي ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ بمعنى: صاغرين... وقد قيل: إن معنى قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ : إن الذين يستكبرون عن دعائي... عن السديّ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ قال: عن دعائي..."
قلت: دلت الآية على أن الدعاء عبادة، وأن إفراده بالدعاء توحيد، وقد أكد هذا الطبري بتفسيره وبما نقله من آثار، ولا يراد بالدعاء مطلق النداء، أو كل ما سمي لغةً دعاءً، بل المراد دعاء معهود. وماهية هذا الدعاء المعهود هي محل النزاع مع مجوزي الاستغاثة بالموتى من المعاصرين، وقد اتفق الفريقان أن هناك دعاءً لا ينبغي صرفه لغير الله، وأن صرفه لغيره شرك. فتبين بهذا القدر المشترك أن القضية مهمة، وأنها ليست من جنس الفرعيات الاجتهادية، إذ الكلام في أمرٍ يكون مرتكبه مشركًا. فيزعم المجادلون عن الاستغاثة بالموتى أن الدعاء المقصود هو ما شابَهُ اعتقاد استقلال المدعو بشيء من دون الله، وقد بينا بما سبق أن هذا لم يكن اعتقاد المشركين، أو اعتقاد جمهرتهم، وأن الوحي لم ينط وصف الشرك والعبادة بهذا الاعتقاد في آية واحدة، بل نصَّ على اعتقادهم خالقية الله ورازقيته وغير ذلك مما سبق. إذن بطل هذا الذي قالوه. فما هو الميز بين هذا الدعاء الذي ينبغي إفراد الله به وغيره مما يصنعه البشر؟ قلت: يكفي في التفريق أن الأول دعاء غيب، في حين أن الثاني تسبب عادي معهودُ في الأحياء ثبت جوازه شرعًا وعقلًا وعادةً وإقرارا. ولا يعني هذا أن مشركي قريش لم يتلبسوا باعتقادات فاسدة ترتبط بهذا الدعاء، فلا شك أن الداعي يعتقد في المدعو أنه يسمعه من قريب وبعيد، ويعقل اختلاف اللغات واللهجات، وأنه يجيب، وأنه سبب لنفع أو ضر -وإن وُجِدَ في المشركين من لم يتمسك حتى بهذه الأمور وسوّغ شركه بالتقليد- ولكن أين في النصوص أنهم اعتقدوا في معبوداتهم أنها تستقل بشيء مما سبق؟ فكذلك من يستغيثون الموتى اليوم، يعتقدون كل هذا ولكن يحسبون جعله كله بخلق الله وتأثيره منجيا، مع أنه لم يغن عن قريشٍ شيئا.
* وفي تفسير {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} قال رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: فإذا ركب هؤلاء المشركون السفينة في البحر، فخافوا الغرق والهلاك فيه (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) يقول: أخلصوا لله عند الشدّة التي نـزلت بهم التوحيد، وأفردوا له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ولكن بالله الذي خلقهم ... حدثنا بشر ... عن قَتادة، قوله: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) فالخلق كلهم يقرّون لله أنه ربهم، ثم يشركون بعد ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل."
وفي تفسير قوله تعالى {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال أبو جعفر: "أخلصوا الدعاء لله هنالك، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها، كما حدثني يونس قال: ... قال ابن زيد: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضر لم يدعوا إلا الله، فإذا نجاهم إذا هم يشركون."
وقال رحمه الله في قوله تعالى {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: "وإذا غشى هؤلاء موج كالظلل، فخافوا الغرق، فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له الطاعة، لا يشركون به هنالك شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره."
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا}: "يقول تعالى ذكره: وإذا نالتكم الشدّة والجهد في البحر ضلّ من تدعون: يقول: فقدتّم من تدعون من دون الله من الأنداد والآلهة، وجار عن طريقكم فلم يغثكم، ولم تجدوا غير الله مغيثا يغيثكم دعوتموه، فلما دعوتموه وأغاثكم، وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه في البحر، أعرضتم عما دعاكم إليه ربكم من خلع الأنداد، والبراءة من الآلهة، وإفراده بالألوهة كفرا منكم بنعمته"
قلت: لاحظ أن الوحي أثبت هنا استغاثةً شركية منافيةً للتوحيد، ودعاءً شركيًا هو عبادة لغير الله، فوجود هذا النوع من الشرك قطعي، وهو إذن من مسائل الأصول لا الفروع والفقهيات الاجتهادية. فتهوين بعض المعاصرين من هذا النوع وجعله كالطلب من الحي والاستعانة به واستغاثته دون تسويغ قويِ الدليل بما يناسب خطورة المسألة= خيانةٌ لأمانة العلم، وتلبيسٌ باطلٌ منقوضٌ بهذه الآيات وبغيرها. فما هي حقيقة هذه الاستغاثة الشركية؟ ومتى تكون عبادةً لغير الله وشركًا؟ وهل يشترط في المستغيث أن يعتقد في المستغاث به أنه يخلق شيئًا؟
يجيب الطبري عن الأخير قائلًا: لا.
فإن هؤلاء الداعين غير الله يذعنون بالعبودية ويستغيثون بخالقهم عند الخطر كما قال، ومن ثمَّ فهم لا ينكرون كونه الخالق المتفرد بالخلق كما ذكرنا عنهم مرارًا وكما أثبت لهم الوحي، ويؤكد ذلك قتادة بقوله "فالخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم، ثم يشركون بعد ذلك" فاعتقاد ربوبية الله لا يدفع وصف الشرك عنهم، وتنبه لفائدة كلام قتادة في هذا الموضع وهذه الآيات تحديدا -المتعلقة بالاستغاثة الشركية-.
كما أن كلام قتادة مفيد من جهة أخرى، إذ هو يثبت تفرد الله بكونه (الرب) عند الخلق كلهم، وهذا تصريح منه بالتفريق بين اعتقاد ربوبية الله وتوحيده بالعبادة، وذلك بنسبته للخلق اعتقاده سبحانه ربًا لهم، مع كونهم يشركون، مع التذكير بأننا لا نتمسك بلفظ (الرب) بل باستعمال قتادة هنا لهذا إشارةً لقسم معين من التوحيد.
وفيه فائدة ثالثة، وهي أن كل ما ورد من اتخاذ الأرباب عند المشركين يراد به أيضًا (الإله) وإنما يعبر بالرب عن الإله والعكس لبيان التلازم بينهما وارتباط الوصفين وتناقض من فرق بينهما من المشركين فأثبت خالقًا واحدًا وآلهة عدة.
ونذكرُ ملاحظةً مهمة، لو كان المشركون يعتقدون في معبوداتهم أنها تشفع جبرًا وتلزم الله بالإجابة، لما تركوها في رخاءٍ ولا شدة. فتركهم إياها وقت الشدة ولجوؤهم إلى الله دليلُ كونه سبحانه هو الأعلى والأقوى والأعظم والأجدر بالإجابة عندهم، وأنه الأقدر على نفعهم وإنقاذهم حين تنقطع السبل، فالزعم بأنهم كانوا يعتقدون في معبوداتهم الشفاعة الإجبارية الملزمة لله، ينقضه تخليهم عنها حال كونهم أحوج ما يكونون إليها، ولهذا قرعهم الوحي، وبين تناقضهم، فهم يزعمون أنها وسائل أقرب إلى الله من دعائه مباشرةً، ثم هم ينبذونها وهم أحوج ما يكونون إلى أقرب إجابة وأسرع إغاثة.
وهو ما نلزم به مرتكبي هذا اليوم، أن: لِمَ تستغيثون بغيره وتسوغون ذلك بأنهم أولياء صالحون أقرب إلى الله وأجدر بالإجابة منكم؟ ثم إذا ألم بكم الخطر دعوتموه ولم تستغيثوا غيره؟ ووحدتموه فلم تشركوا بالاستغاثة معه سواه؟ وهذا خطابٌ لمن يخلصون له الدين في الشدة، أما الملحدون عنه إلى غيره في رخاءٍ وشدة فأمرهم أقبح.
* ويقول الطبري في قوله تعالى {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}:
"وقال هؤلاء الكافرون الذين قالوا: محمد ساحر كذاب: أجعل محمد المعبودات كلها واحدا، يسمع دعاءنا جميعنا، ويعلم عبادة كل عابد عبدَه منا (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ): أي إن هذا لشيء عجيب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) قال: عجب المشركون أن دُعوا إلى الله وحده، وقالوا: يسمع لحاجاتنا جميعا إله واحد! ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة. اهـ
قلت: انظر فهمهم لتوحيد الله الذي يدعوهم النبي إليه بأنه: إثباتٌ لمعبود واحد يسمع دعاءهم جميعًا ويعلم عبادة من يعبده منهم، فانظر ركنية الدعاء والعلم بالأحوال في توحيد الله سبحانه. فكان مفهوم توحيد الله وجعله سبحانه إلهًا واحدًا كما فهموا عن النبي = إفراده سبحانه بأن يُعبد وبأنه وحده يسمع الدعاء ويجيب الحاجات. وفيه خطورة دعاء غيره، إذ هو أول ما ذكره الطبري في تفسير الآية، وهو إنكارهم إفراده وحده بالدعاء. كما أن فيه مشابهة المستغيثين بالموتى اليوم لهؤلاء، إذ يثبتون لأوليائهم ما أثبته مشركو قريش لأوليائهم، وإنكارهم إفراد الله به، وهو سماع دعائهم وحاجاتهم جميعا، وربما أثبتوا علمهم بأحوالهم، وربما استدلوا بحديث ضعيف لخصوص النبي عليه الصلاة والسلام وأنه تعرض عليه الأعمال كلها فرادى، وكله فاسد. جاعلين لله أندادًا يسمعون الدعاء ويجيبونه، فيستغاثون كما يستغاث الله في عليائه. فمن يستنكر إفراد الله بمثل هذا ويجادل عن الوسائط، فهو يقول لنا بلسان الحال ما قاله المشركون بلسان المقال: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا! لكن عذره الجهل -البسيط أو المركب- بأن صنيعه في لغة الشارع عبادة وتأليه. فيقول: أتجعلون المستغاث به من الغائبين واحدا! وقد جرت عوائدنا وموروثاتنا على الاستغاثة بالأضرحة! {إن هذا لشيء عجاب}. ولا أغفل أن في الآية وتفسيرها إشارة إلى نقص في اعتقادهم كمال الإله سماعًا وعلما، وإن كان هذا قد ينازع فيه كذلك، وأن تعجبهم في حقيقته متعلقٌ بالاكتفاء بمدعو واحد مع كثرة ما يعتقدونه من السبل والشفعاء، لا بشمول سماعه سبحانه، لا سيما وقد اعترف بعضهم -كما في تفسير آيات سابقة- بأنه سبحانه خالق كل شيء ومالكه ومدبره ورازقه وأنه مالك سمعهم وأبصارهم، فكيف لا يسمعهم إذن؟ دع أنهم يدعونه سبحانه في أشد أحوالهم وأصعبها، فكيف ينفون سماعه دعاءهم؟ ولكن ثبت جهل بعضهم علمَ الله بما يكتمونه أو يسرون به، فلا يبعد جهل بعضهم فيما عنه الكلام أيضًا، إلا أنه ليس في شيء من الآيات أن هذا شرطٌ في جعلهم مشركين بالدعاء والاستغاثة والتشفع، وإنما هو من جملة اعتقاداتهم الفاسدة.
تنبيه:- قال أبو جعفر رحمه الله في تفسير قوله تعالى:{قُلۡ أَرَءَیۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ () لۡ إِیَّاهُ تَدۡعُونَ فَیَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَیۡهِ إِن شَاۤءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ}:
"وتأويل الكلام: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ: أخبروني، إن جاءكم، أيها القوم، عذاب الله، كالذي جاء من قبلكم من الأمم الذين هلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالصاعقة = أو جاءتكم الساعة التي تنشرون فيها من قبوركم، وتبعثون لموقف القيامة، أغير الله هناك تدعون لكشف ما نزل بكم من البلاء، أو إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء؟ ="إن كنتم صادقين"، يقول: إن كنتم محقّين في دعواكم وزعمكم أنّ آلهتكم التي تدعونها من دون الله تنفع أو تضر... يقول تعالى ذكره، مكذِّبًا لهؤلاء العادلين به الأوثان: ما أنتم، أيها المشركون بالله الآلهةَ والأندادَ، إن أتاكم عذابُ الله أو أتتكم الساعة، بمستجيرين بشيء غير الله في حال شدة الهول النازل بكم من آلهة ووثن وصنم، بل تدعون هناك ربّكم الذي خلقكم، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون، دون كل شيء غيره ="فيكشف ما تدعون إليه"، يقول: فيفرِّج عنكم عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه، عظيم البلاء النازل بكم إن شاء أن يفرج ذلك عنكم، لأنه القادر على كل شيء، ومالك كل شيء، دون ما تدعونه إلهًا من الأوثان والأصنام ="وتنسون ما تشركون"، يقول: وتنسون حين يأتيكم عذاب الله أو تأتيكم الساعة بأهوالها، ما تشركونه مع الله في عبادتكم إياه، فتجعلونه له ندًّا من وثن وَصنم، وغير ذلك مما تعبدونه من دونه وتدعونه إلهًا."
قلت: وهذا كالذي سبقه، أما قول الطبري: "زعمكم أن آلهتكم التي تدعونها من دون الله تنفع وتضر"، فقد بينه في تفسيره بقية الآيات، وأن دعواهم هذه لم تكن استقلال معبوداتهم بخلق شيء أو تدبيره من النفع والضر، وكل مستغيث بأحد فهو بالضرورة يعتقد أنه سبب نفعٍ أو ضر، سواء باستقلال أو بكونه سببًا. وكل فاعلٍ مختار منا يقصد بإرادته جلب نفع أو دفع ضر، فتمسك بعض المعاصرين بهذا لنسبة المشركين إلى اعتقاد استقلال معبوداتهم بنفع أو ضر تمحلٌ تعارضه آياتٌ صريحة فسرها الطبري بما سبق ذكره.
4- تعريف العبادة بين الطبري والمعلمي:
قال أبو جعفر مبينًا معنى رفع الجناح عن الطائفين في قوله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}:
"أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عُمرة القضيَّة، تخوَّف أقوامٌ كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيمًا منهم لهما، فقالوا: وكيف نَطوف بهما، وقد علمنا أنَّ تَعظيم الأصنام وجميع ما كان يُعبد من ذلك من دون الله، شركٌ؟ ففي طوَافنا بهذين الحجرين أحرَجُ ذلك، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام اليومَ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له! فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم: "إنّ الصفا والمروة من شعائر الله" ... معناه: من معالم الله ... "فمن حَج البيتَ أو اعتمر" فلا يتخوَّفنَّ الطواف بهما، من أجل ما كانَ أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرًا، وأنتم تَطوفون بهما إيمانًا، وتصديقًا لرسولي، وطاعةً لأمري، فلا جُناح عليكم في الطواف بهما."
قلت: لاحظ أن كلام الطبري عن سبب نزول الآية، وأنه كان "خوف الصحابة من الوقوع في الطواف الشركي رغم اعتقادهم عدم خالقية الأصنام أو تدبيرها أو استقلالها بشيء، ويفهم هذا في تفسيره من أمرين:
الأول: تصريحهم بأن مجرد تعظيم الأصنام بالطواف الذي هو عبادة= شرك، وهذه إشارةٌ إلى عدم اشتراط اعتقاد الخالقية أو التدبير في وصف الشرك، لأن الصحابة تخوفوا من الوقوع في الشرك إن طافوا بالصفا والمروة وقد كان عليهما صنمان، بلا شرط، رغم أنهم قطعًا لا يعتقدون للحجارة خالقية أو تدبيرًا! فلاحظ ورعهم وتخوفهم رغم علمهم أن طوافهم إنما هو بالصفا والمروة لا بما كان عليهما من الأصنام.
الثاني: أن الآية التي رفعت عنهم الحرج بينت أن الفرق بين الحالتين هو: كون طواف أهل الشرك كان كفرًا وصرفًا للعبادة إلى هذين الصنمين، بينما طواف المؤمنين= طاعة لله وشريعة له واتباع وإيمان برسوله، فهو صرف عبادةٍ لله وليس للصفا والمروة، لأنكم ما طفتم بهما إلا بأمر الله ولأجل شريعته، فهو مقصودكم بفعل الطواف.
وليُلاحظ أنه بحسب تفسير الطبري فإن الوحي لم يفرق بين الحالتين تفريقَ مخالفينا من المعاصرين، فلم يقل: إنكم في الأولى آمنتم بخالقية الصنمين أو استقلالهما بشيء من دون الله، بينما في الثانية تطوفون وأنتم لا تعتقدون هذا فيما تطوفون به.
ولم يقل لهم: أنتم لا تعتقدون فيهما التدبير وملك شيء من الكون، فلا جناح عليكم أن تطوفوا بهما!
كان يكفيه قول هذا لو كان فرقًا، أو حتى الإلماح إليه، ولكنه بيَّن لهم مناط رفع الحرج، ومن العجيب أنك لا تجد هذه الشروط والمناطات التي يزعمها مسوغو هذه الأفعال اليومَ في آية واحدةٍ من كتابٍ الله، وإنما يتعسفون تأويل أعظم نصوص الوحي، نصوص التوحيد، الأجدر بأن تكون مبيَّنة، وأن تذكر فيها هذه الشروط المفرقة بين المشرك وغير المشرك بما لا يدع فسحةً للنقاش في كونها فروقًا معتبرة، كيف وظاهر هذه النصوص كلها ينقض مزاعم المسوغين، لذا يتأولونها ويقيدونها بشروطٍ من لدنهم لا دليل عليها من منطوق الوحي ولا مفهومه الصحيح.
فمناط وصف العبادة الشركية المأخوذ هنا إذن: تعظيمٌ تعبديٌ لغير الله ليس في حقيقته طاعة لله في أمره، فإن كان سببه طاعة الله -الطواف بالصفا والمروة-، كان التعظيم التعبدي في حقيقته لله الآمرِ به، لا لغيره، ولم تعد عبادة شركية لغير الله.
ومن اللطائف أن تفسير الطبري وافق بمعناه مفهومَ (عبادة غير الله) و(الشرك) الذي ذكره المعلمي رحمه الله، فقد قال في تعريف العبادة: "هي: خضوع اختياري يُطلب به نفع غيبي."
فشرح ذلك وبيَّن محترزات التعريف، ثم قال: "وهذا تعريف للعبادة من حيث هي، فإن أُرِيد تعريف عبادة الله عزَّ وجلَّ زِيد: (بسلطانٍ)، أو تعريفُ عبادة غيره، زِيد: (بغير سلطانٍ)"
فــ (الخضوع طلبًا لنفع غيبي) عند المعلمي قام مقام (تعظيم شيء... بمعنى العبادة له) عند الطبري.
أما قيد (بغير سلطان) عند المعلمي فللتفريق بين خضوع المسلمين التعبدي وخضوع المشركين الذي فرق بينهما الطبري قائلًا: "كانوا يطوفون ... كفرًا، وأنتم تطوفون ... إيمانًا، وتصديقًا... وطاعة"، أي: بسلطان من الله، بحسب تعبير المعلمي.
ويستفاد من الآية وتفسير الطبري لها أيضًا: جواز وقوع الشرك ممن يعتقد خالقية الله وتدبيره المستقلين، ووجوب الحذر من هذا الشرك، إذ يكون بالعمل كالطواف التعبدي بما لم يشرع لنا الطواف به ولا يكون فقط بالاعتقاد، ولا يمنع هذا التلازم بينهما وإن لم يعترف به المشرك.
تنبيه:- لا حاجة لنحت تعريفٍ جامعٍ مانع للعبادة، وما يصنعه المعاصرون اليوم من الشنشنة حول هذه المسألة تعقيد غير مسوغ، ومزيد إغماض، أو تدرعٌ ببحثها لإخراج أفعال معينة عن أن تكون عبادةً ومن ثمَّ صرفها لغير الله شركا، إذ عرفها المسلمون لقرون واكتفوا بمعرفة جزئياتها دون حاجة لحدٍ ورسم، ويكفي ثبوت اسم العبادة لأفعال مشركي قريش الذين لم يعتقدوا في معبوداتهم الربوبية، وأن اعتقادها أو شيء منها ليس شرطًا لتصحيح اسم العبادة= لإقامة الحجة على المخالف، وأن ما يشترطه لهذا الاسم باطلٌ بنص القرآن، أو لا دليل عليه في أقل تقدير.
5- حجج الله المتكررة على المشركين بأنهم يقرون بوحدانيته في الربوبية وبأن أوثانهم دونه- فلِمَ يشركونها في الألوهية؟:
وقد ذكرنا كثيرًا من هذا فيما سبق، ولكن نزيد هنا ما لم نذكره سابقا:
* قال أبو جعفر في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ () أَمۡوَ اتٌ غَیۡرُ أَحۡیَاۤءࣲۖ وَمَا یَشۡعُرُونَ أَیَّانَ یُبۡعَثُونَ}: "يقول تعالى ذكره: وأوثانكم الذين تدعون من دون الله أيها الناس آلهة لا تخلق شيئا وهي تخلق، فكيف يكون إلها ما كان مصنوعا مدبرا، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرّا... يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش : والذين تدعون من دون الله أيها الناس ( أموات غير أحياء ) وجعلها جل ثناؤه أمواتا غير أحياء ، إذ كانت لا أرواح فيها .كما حدثنا بشر... عن قتادة، قوله (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) وهي هذه الأوثان التي تعبد من دون الله أموات لا أرواح فيها، ولا تملك لأهلها ضرا ولا نفعا... وقوله: (وما يشعرون) يقول: وما تدري أصنامكم التي تدعون من دون الله متى تبعث، وقيل: إنما عنى بذلك الكفار، أنهم لا يدرون متى يبعثون."
قلت: فكيف تستقيم حجة الله على المشركين في الآية بحسب تفسير الطبري؛ لو كانوا فعلًا يعتقدون جميعًا أنها تخلق شيئًا أو تستقل بشيء؟ لا بد وأن بعضهم على الأقل تتناوله هذه الحجة ويقر بأن معبوداته لا تخلق شيئًا.
وإلا لأجابوا: من قال إننا نعتقد أنها لا تخلق شيئًا وأنها لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا لتحاجنا بهذا على بطلان عبادتها؟ ولقالوا: بل هي تخلُق وتستقلُ بأفعالها من دون الله سواء كان فعلها نفعًا أو ضرًا أو شفاعة.
وفيه فائدة أخرى: وهي أثر الموت في تقبيح فعلهم، إذ احتج عليهم الوحي بكون معبوداتهم ميتة، ولو كان الموت كالحياة في دعوى الضر والنفع لما كان لذكر مواتها فائدة. وهذا يستفاد من وصف احتج به الوحي على المشركين، إذ قرعهم بكون معبوداتهم (أموات) و(عباد أمثالكم) و(لا يسمعون دعاءكم)، وغيره مما يقرع به كل من شاكل صورتهم في الاستغاثة بالموتى.
وفيه فائدة ثالثة: وهي في تسمية الطبري معبوداتهم (آلهة)، مع كونهم لا يعتقدون أنها تخلق شيئًا، بل هي مخلوقة.
وفيه: الرد على الزاعمين بأن مشركي قريش لم يعتقدوا تفرد معبوداتهم بالخالقية وإنما اعتقدوا أن لها شيئًا من الخلق، فيرد الطبري كلامهم ببيان الاحتجاج على المشركين بعدم اعتقادهم في مخلوقاتهم أنها تخلق شيئًا، كما رد عليهم رحمه الله فيما سبق حين نسب لمشركي قريش اعتقاد (وحدانية) الله بربوبتيه وخالقيته.
* وفي تفسير {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} قال أبو جعفر: "قد بينا فيما مضى معنى "الألوهية "، وأنها اعتباد الخلق. فمعنى قوله: "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم": والذي يستحق عليكم أيها الناس الطاعة له، ويستوجب منكم العبادة، معبود واحد ورب واحد، فلا تعبدوا غيره، ولا تشركوا معه سواه، فإن من تشركونه معه في عبادتكم إياه، هو خلق من خلق إلهكم مثلكم، وإلهكم إله واحد، لا مثل له ولا نظير."
ثم قال: "ثم عرفهم تعالى ... موضع استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم، فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من أن إلهكم إله واحد، دون ما تدعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حججي وفكروا فيها، فإن من حججي خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها، وما بثثت فيها من كل دابة، والسحاب الذي سخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظير شيء من خلقي الذي سميت لكم، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذر، وإلا فلا عذر لكم في اتخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولما تعبدون غيري. فليتدبر أولو الألباب إيجاز الله احتجاجه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوجز كلام، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على معرفة فضل حكمة الله وبيانه." اهـ
قلت: وهذه والله حجة الله البالغة التي ارتفع بها العذر عن كفار قريش، فحاجّهم بأنهم مقرون أن ربهم هو الخلاق المدبر المتصرف في الكون فكيف يعبدون غيره؟ ولو لم يكونوا مقرين بهذا= للزم إفحام المتكلم بحجة الوحي هذه كما بينها الطبري، بأن يقولوا: "بل نحن نثبت لآلهتنا أنها تشارك وتستقل وتخلق، فلا يلزمنا تركها وإفراد من هو مثلها"
ويقال أيضًا للمستغيثين بالأموات اليوم: ألستم تقرون أن الله خالق كل شيء ومدبره ورازقه والمستقل به سبحانه؟ فلِمَ تستغيثون بالأموات وتلجأون إليهم في الملمات وتدعونهم من دون الله الذي تسلمون تفرده بالخلق والرزق والتدبير؟ وأنه الأرحم الأعلم الآذن بكل كائن في السماوات والأرض؟
إن قلتم: ليشفعوا.
قلنا: لا شفاعة عنده إلا لمن ارتضى وبإذنه، وليس يرضى بالشفاعة لمن يشرك بالتشفع، ثم إن الأمر إليه أولًا وآخرًا فلِمَ تنصرفون لمن هو دونه ليشفع شفاعةً لا تكون بغير إذنه ابتداءً؟
فإن قلتم: كالأحياء.
قلنا: الأحياء ثبت حسًا وشرعًا أن الله أذن لهم بأن يدعوا لكم ويشفعوا بهذا المعنى، فبالحس علمنا الإذن الكوني، وإلا لشلت ألسنتهم قبل أن تدعو، وأيديهم قبل أن ترفع، وبالنص علمنا الإذن الشرعي، فمن أثبت هذا للأموات؟ وهل أحسستموه منهم ضرورةً؟ فأنتم كمن يقيس الطواف باللات والعزى على الطواف بالكعبة لأن الكلَّ حجارة؟ فمن أذن في الأولى كما أذن في الثانية؟ ولا بد من التنبيه إلى الفرق بين طلب الدعاء وبين الاستغاثة المباشرة، وبين طلب الدعاء من قادرٍ عادةً وبين طلبه من غير قادرٍ عادةً إلا بخارقٍ أو اعتقادٍ بسرٍ وغيب، وليس هذا تفصيل كل شيء، إذ القصد الأساس استنطاق تفسير الطبري.
* وقال أبو جعفر رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: "اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية ... فقال بعضهم: أنزلها عليه احتجاجا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" فتلا ذلك على أصحابه، وسمع به المشركون من عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أن ذلك كذلك؟ ونحن ننكر ذلك، ونحن نزعم أن لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله عند ذلك: "إن في خلق السماوات والأرض"، احتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا ما ذكرنا عنهم ..."
قلت: وهذه والله حجة بالغة، إذ احتج عليهم بما يقرون به ولا ينكرونه ليتوصل به إلى إثبات ما ينكرونه ولا يقرون به، ولو كانوا غير مقرين بالأول لبطلت الحجة رأسًا، وقد ذكر الطبري قولًا آخر في تفسير الآية عن عطاء ولكنه رجح التفسير الأول.
* وفي تفسير {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال أبو جعفر رحمه الله:
"فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه، أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم، ونعمي التي أنعمتها عليكم - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة، وأخلصُوا ليَ العبادة، ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي، فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي"
قلت: فلو كانوا يخالفون في أنه هو المالك الخالق الرازق وحده، وأنه لا شريك له في ذلك -بحسب تعبير الطبري- لبطلت حجة الوحي التي ذكرها الطبري، والتي خلاصتها: كما توحدون الله في الربوبية= وحدوه سبحانه في الألوهية، إذ الثانية لا يستحقها إلا من ثبتت له الأولى.
* وفي قوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} قال أبو جعفر رحمه الله:
"وقوله (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لقومه: أتعبدون أيها القوم ما تنحتون بأيديكم من الأصنام... وقوله (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لقومه: والله خلقكم أيها القوم وما تعملون. وفي قوله (وَمَا تَعْمَلُونَ) وجهان: أحدهما: أن يكون قوله "ما" بمعنى المصدر، فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم وعملكم. والآخر أن يكون بمعنى "الذي"، فيكون معنى الكلام عند ذلك: والله خلقكم والذي تعملونه: أي والذي تعملون منه الأصنام، وهو الخشب والنحاس والأشياء التي كانوا ينحتون منها أصنامهم"
قلت: وهذه حجة أخرى من حجج الوحي على المشركين، تؤكد أن اعتقاد النفع والضر والاستقلال بخالقية شيء ليس شرطًا لانطباق اسم "عبادة غير الله" ووصف "الشرك" على من يصرف أعمالًا معينة للأوثان، فهنا تستوي الحجة على أمرٍ مسلمٍ عندهم، وهو أنهم يعبدون ما هو مخلوقٌ لله، بل ما هو مصنوعٌ لهم هم المخلوقون أيضًا لله، فكيف يقال بعد هذا إنهم أشركوا بعبادة ما ينحتون لأجل أنهم اعتقدوا فيها استقلالًا ما؟ في حين يعتقدونها مخلوقةً لله؟ فالوحي يبني على هذا الذي يسلمونه ويجعله مقدمة لحجته وليقول: فكيف تعبدون ما هو مخلوق لله -وأنتم تقرون بذلك- ولا تفردون بالعبادة خالقها المتصرف فيها الذي إليه ترجع الأمور؟
* وقال في تفسير قوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}:
"وإنما قلت هذا القول أولى بتأويل ذلك، لأن ذلك في سياق الخبر عن الآلهة والذباب، فأن يكون ذلك خبرا عما هو به متصل أشبه من أن يكون خبرا، عما هو عنه منقطع، وإنما أخبر جلّ ثناؤه عن الآلهة بما أخبر به عنها في هذه الآية من ضعفها ومهانتها، تقريعا منه بذلك عَبَدتها من مشركي قريش، يقول تعالى ذكره: كيف يجعل مثل في العبادة ويشرك فيها معي ما لا قدرة له على خلق ذباب، وإن أخذ له الذباب فسلبه شيئا عليه لم يقدر أن يمتنع منه ولا ينتصر، وأنا الخالق ما في السماوات والأرض ومالكٌ جميع ذلك والمحيي من أردت، والمميت ما أردت ومن أردت، إن فاعل ذلك لا شك أنه في غاية الجهل."
قلت: فلو كانوا لا يقرون بهذا لما تحقق معنى محاجتهم بمثله، فسيقولون: "لمعبوداتنا قدرة على الخلق، ولها أن تمتنع من الذباب والاستنقاذ منه لو شاءت". فكان هذا دليلًا على أنهم كانوا يعتقدون بأن معبوداتهم وسائل إلى الله لا تملك لنفسها استقلالًا بشيء.
* وقال في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: "وهذا أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه ﷺ على النصارى القائلين في المسيح ما وصف من قِيلهم فيه قبلُ. يقول تعالى ذكره لمحمد ﷺ:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الكفرة من النصارى، الزاعمين أن المسيح ربهم، والقائلين إن الله ثالث ثلاثة= أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، وهو الذي خلقكم ورزقكم، وهو يحييكم ويميتكم= شيئًا لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم من زعم من النصارى أنه إله، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابنٌ، لا يملك لهم ضرًّا يدفعه عنهم إن أحلَّه الله بهم، ولا نفعًا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم. يقول تعالى ذكره: فكيف يكون ربًّا وإلهًا من كانت هذه صفته؟ بل الربُّ المعبودُ: الذي بيده كل شيء، والقادر على كل شيء. فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة، دون غيره من العجزة الذين لا ينفعونكم ولا يضرون."
قلت: هذا احتجاجٌ على النصارى، ولو كانوا يعتقدون في المسيح أنه يدفع عنهم ضرًا أراده الله بهم أو يجلب لهم نفعًا لم يقضه الله لهم استقلالًا= لبطل الاحتجاج عليهم، ولقالوا: "بل نعتقده يفعل استقلالًا، فلا وجه لتقريعنا بهذا الكلام". لكنهم يجعلونه أقنومًا من ثلاثة، فليس مستقلًا حتى على هذا الوجه من كفرهم، فإن كان لا يستقل عن أبيه، وبيد أبيه ملكوت كل شيء، فلم يُعبد الابن معه؟
* وفي تفسير قوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ () أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ () قَالُوا۟ بَلۡ وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا كَذَ ٰلِكَ یَفۡعَلُونَ} قال أبو جعفر:
"وقوله: (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) يقول: أو تنفعكم هذه الأصنام، فيرزقونكم شيئا على عبادتكموها، أو يضرّونكم فيعاقبونكم على ترككم عبادتها بأن يسلبوكم أموالكم، أو يهلكوكم إذا هلكتم وأولادكم (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) . وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ذكر عما ترك، وذلك جوابهم إبراهيم عن مسألته إياهم: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) فكان جوابهم إياه: لا ما يسمعوننا إذا دعوناهم، ولا ينفعوننا ولا يضرّون، يدل على أنهم بذلك أجابوه. قولهم: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) وذلك رجوع عن مجحود، كقول القائل: ما كان كذا، بل كذا وكذا، ومعنى قولهم: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) وجدنا من قبلنا ولا يضرّون، يدّل على أنهم بذلك أجابوه، قولهم من آبائنا يعبدونها ويعكفون عليها لخدمتها وعبادتها، فنحن نفعل ذلك اقتداء بهم، واتباعا لمنهاجهم."
قلت: وهذا تفسيرٌ ينسب فيه الطبري إلى هؤلاء المشركين -أو بعضهم على الأقل- الاعتراف بأن معبوداتهم ليست فقط لا تضر ولا تنفع، بل ولا تسمع الدعاء حتى! وأن عبادتهم لها محض تقليد مع عدم اعتقادهم فيها النفع والضر والسماع، ومع هذا كانوا مشركين، وكانوا عابدين لغير الله، فكذلك من يتذرعون بالتقليد اليوم لتسويغ أفعالهم، أو يشترطون اعتقاد النفع والضر الاستقلالي، وغير ذلك من العقائد التي يشترطونها لتسمية فعلهم عبادةً لغيرِ الله وشركا، فكل هذا غير معتبر عند الطبري، وفي الوحي من قبله.
وأنبه هنا أننا نتكلمُ متنزلين إلى كونهم اليوم لا يعتقدون النفع والضر في معبوداتهم، وإلا فبعضهم أسوأ حالًا من هؤلاء الذين ذُكِروا في الآية بحسب تفسير الطبري، وزعمهم عدم اعتقاد النفع والضر والسماع يكذبه لسان حالهم، وإلا ما دعوهم في قبورهم وجأروا إليهم من أقاصي البلاد، طالبين من جهتهم جلب النفع أو دفع الضر، ولو زوقوا كلامهم لتسويغ هذا، فإنهم متلبسون بأعظم من محض التقليد الذي كان كافيًا لتصحيح وصف مقلدة قريش بالشرك.
* وفي تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ () إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} قال الطبري:
"يقول تعالى ذكره: إن تدعوا أيها الناس هؤلاء الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنها جماد لا تفهم عنكم ما تقولون ( وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) يقول: ولو سمعوا دعاءكم إياهم، وفهموا عنكم أنها قولكم، بأن جعل لهم سمع يسمعون به، ما استجابوا لكم؛ لأنها ليست ناطقة، وليس كل سامع قولا متيسرًا له الجواب عنه، يقول تعالى ذكره للمشركين به الآلهة والأوثان: فكيف تعبدون من دون الله من هذه صفته، وهو لا نفع لكم عنده، ولا قدرة له على ضركم، وتدعون عبادة الذي بيده نفعكم وضركم، وهو الذي خلقكم وأنعم عليكم."
قلت: ووجه الاحتجاج ظاهرٌ في الجماد، ولكن الصفات المذكورة في الآية وتفسير الطبري تشمل الأموات، وهي عدم السمع، وعدم الإجابة، فهو الأصل الظاهر، وأنهم يكفرون بشرك عابديهم. والاحتجاج هنا بناءً على الظاهر الأصل، ولا برهان على خلافه وإلا لقال المشركون: "بل هي تسمع وتجيب وتنفع وتضر." فكذلك ظاهر الأموات.
* ويشبه السابق ما في قوله تعالى: {فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِیدَۢا بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَـٰفِلِینَ} فيقول الطبري:
"ويقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شركاء المشركين من الآلهة والأوثان لهم يوم القيامة، إذ قال المشركون بالله لها: إياكم كنا نعبد = (كفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم)، أي إنها تقول: حسبُنا الله شاهدًا بيننا وبينكم، أيها المشركون، فإنه قد علم أنّا ما علمنا ما تقولون = ﴿إنا كنا عن عبادتكم لغافلين﴾، يقول: ما كنا عن عبادتكم إيانا دون الله إلا غافلين، لا نشعر به ولا نعلم، كما حدثني المثنى... عن مجاهد: ﴿إن كنا عن عبادتكم لغافلين﴾، قال: كُلُّ شيء يعبد من دون الله."
قلت: فكل شيء يعبد من دون الله، مما ظاهره والأصل فيه الغياب، أو ليس يعقل عبادتهم في الدنيا= يقول هذا يوم القيامة.
* وقال أبو جعفر في تفسير قوله تعالى {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}:
"فربي هذا الذي بيده نفعي وضرّي، وله القدرة والسلطان، وله الدنيا والآخرة، لا الذي لا يسمع إذا دعي، ولا ينفع ولا يضرّ. وإنما كان هذا الكلام من إبراهيم احتجاجا على قومه، في أنه لا تصلح الألوهة، ولا ينبغي أن تكون العبودة إلا لمن يفعل هذه الأفعال، لا لمن لا يطيق نفعا ولا ضرّا."
قلت: الملاحظ هنا أن (العبودة والألوهة) منفكة عند الطبري عن (اعتقاد خلق وتدبير النفع والضر في الكون)، وأن العبودة قد تصرف إلى من لا تُعتَقَدُ فيه هذه الأفعال، ويكون صرفها لهذا الذي لا تعتقد فيه هذه الأفعال شركًا. فليس اعتقاد هذه الأمور شرطًا لتسمية صرف تلك الأفعال إلى غير الله عبادةً، ومن ثمَّ شركًا.
لهذا حاجّهم نبي الله إبراهيم قائلًا: كيف تصرفون العبادة -فتكونون مشركين ويقع عليكم اسم الشرك- لمن لا تعتقدون وتنسبون له هذه الأفعال؟
ولو كانوا يعتقدون أن لمعبوداتهم هذه الأفعال لما استقامت حجته عليه السلام، ولما ظهر عليهم بالبرهان، ولقالوا: "بل نحن نعتقد أنها تخلق وتدبر نفعًا وضرًا ومن ثمَّ -بناءً على حجتك- يجوز لنا أن نعبدها لأننا نثبت لها هذه الأفعال، وأنت إنما عبت علينا عبادة من ليست له هذه الأفعال، فلا ينالنا عيبك، لأننا صرفنا العبادة لمستحقها".
وهذا باطلٌ بطلانًا ظاهرًا لأدنى متأمل في طرق محاجة الوحي للمشركين، فإن نبي الله إبراهيم لن يحاجهم بدليل لا يعترفون بمقدماته.
* وقال أبو جعفر في تفسير قوله تعالى: {قُلِ ٱدۡعُوا۟ ٱلَّذِینَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا یَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِیلًا () أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ یَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِیلَةَ أَیُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَیَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَیَخَافُونَ عَذَابَهُۥۤۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورࣰا}:
"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ: قل يا محمد لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه، ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه عند ضرّ ينزل بكم، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم، أو تحويله عنكم إلى غيركم، فتدعوهم آلهة، فإنهم لا يقدرون على ذلك، ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. وقيل: إن الذين أمر النبيّ ﷺ أن يقول لهم هذا القول، كانوا يعبدون الملائكة وعزيرا والمسيح، وبعضهم كانوا يعبدون نفرا من الجنّ... عن ابن عباس... قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة وعُزَيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعُزيرا...
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابا ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ يقول: يبتغي المدعوّون أربابا إلى ربهم القُربة والزُّلفة، لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ أيهم بصالح عمله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة ﴿وَيَرْجُونَ﴾ بأفعالهم تلك ﴿رَحْمَتَه﴾ ُ ويَخافُونَ أمره ﴿عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ﴾ يا محمد ﴿كانَ مَحْذورًا﴾ متقى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في المدعوّين، فقال بعضهم: هم نفر من الجنّ... وقال آخرون: بل هم الملائكة... وقال آخرون: بل عزير وعيسى، وأمه... وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية قول عبد الله بن مسعود الذي رويناه. عن أبي معمر عنه، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن الذين يدعوهم المشركون آلهة أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة في عهد النبيّ ﷺ؛ ومعلوم أن عُزيرا لم يكن موجودا على عهد نبينا عليه الصلاة والسلام، فيبتغي إلى ربه الوسيلة وأن عيسى قد كان رُفع، وإنما يبتغي إلى ربه الوسيلة من كان موجودا حيا يعمل بطاعة الله، ويتقرّب إليه بالصالح من الأعمال. فأما من كان لا سبيل له إلى العمل، فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة. فإذ كان لا معنى لهذا القول، فلا قول في ذلك إلا قول من قال ما اخترنا فيه من التأويل، أو قول من قال: هم الملائكة، وهما قولان يحتملهما ظاهر التنزيل، وأما الوسيلة، فقد بينا أنها القربة والزلفة."
قلت: فجعل في حجته عليهم أن هؤلاء الذي تدعونهم لا يملكون كشف الضر إن أرادكم الله به، وإنما يقدر على ذلك خالقكم وخالقهم، ولو أنهم اعتقدوا فيها استقلالًا لبطل حجته عليهم، ولقالوا: "بل يملكون كشف الضر من دون الله، وليس الله خالقهم أو خالق أفعالهم بل نعتقدهم يخلقون استقلالًا".
كما جعل حجته عليهم أن معبوداتهم أنفسهم يبتغون القربى والزلفى إلى الله، فكيف يدعو المحتاج محتاجًا، وكيف يطلب الوسيلة ممن يبتغيها؟ وانظر كيف رجح الطبري أن الآية قصدت من يدعون أحياءً من شأنهم العمل، ورجحه على من جعل تفسيرها في أموات، لأن الأحياء من شأنهم العمل وطلب الوسيلة خلافًا لمن انقطع عمله، فكيف إذا علم أن هناك من يدعون أمواتًا هم دون من ذكرهم من الأحياء في ابتغاء الوسيلة والعمل؟
وانظر ما نقله عن ابن عباس، من أنهم كانوا يعبدون الشركاء ليدعو الشركاءُ الله لهم، فمنطق الفعل واحدٌ في القديم والحديث، إلا أن أولئك علموا أن عملهم عبادة، في حين جهل المعاصرون تلبسهم بعبادة غير الله.
* وقال أبو جعفر في تفسير قوله تعالى: {قُلِ ٱدۡعُوا۟ ٱلَّذِینَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ لَا یَمۡلِكُونَ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ اتِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا لَهُمۡ فِیهِمَا مِن شِرۡكࣲ وَمَا لَهُۥ مِنۡهُم مِّن ظَهِیرࣲ}:
"يقول تعالى ذكره: فهذا فعلُنا بولينا ومن أطاعنا، داود وسليمان الذي فعلنا بهما من إنعامنا عليهما النعم التي لا كفاء لها إذ شكرانا، وذاك فعلنا بسبأ الذين فعلنا بهم، إذ بطروا نعمتنا وكذبوا رسلنا وكفروا أيادينا، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك الجاحدين نعمنا عندهم: ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم لله شريك من دونه، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا بالذين وصفنا أمرهم من إنعام أو إياس، فإن لم يقدروا على ذلك فاعلموا أنكم مبطلون؛ لأن الشركة في الربوبية لا تصلح ولا تجوز، ثم وصف الذين يدعون من دون الله فقال: إنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض من خير ولا شر ولا ضر ولا نفع، فكيف يكون إلهًا من كان كذلك. وقوله ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾ يقول تعالى ذكره: ولا هم إذ لم يكونوا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض منفردين بملكه من دون الله يملكونه على وجه الشركة، لأن الأملاك في المملوكات لا تكون لمالكها إلا على أحد وجهين: إما مقسومًا، وإما مشاعًا، يقول: وآلهتهم التي يدعون من دون الله لا يملكون وزن ذرة في السماوات ولا في الأرض، لا مشاعًا ولا مقسومًا، فكيف يكون من كان هكذا شريكًا لمن له ملك جميع ذلك. وقوله ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ يقول: وما لله من الآلهة التي يدعون من دونه معين على خلق شيء من ذلك، ولا على حفظه، إذ لم يكن لها ملك شيء منه مشاعًا ولا مقسومًا، فيقال: هو لك شريك من أجل أنه أعان وإن لم يكن له ملك شيء منه."
قلت: فحاجهم بأن آلهتهم لا يملكون صنع شيءٍ مما صنعه الله عز وجل، وإلا فليفعلوا بعض ذلك، والمشركون يعلمون عجزهم عن هذا، وأنهم لا يملكون استقلالًا شيئًا من دون الله، فبيده ملكوت كل شيء، وهو يدبر الأمر، كما قرر في تفسير آيات سابقة، فمن هذه حاله كيف يكون إلهًا معبودا؟ ولو أنهم اعتقدوا فيها القدرة على ذلك أو الاستقلال بشيء لقالوا: "وما قال إن هذه حال آلهتنا لتمنعنا من عبداتها؟ فليست عاجزة عن ذلك من دون الله، ولا هي غير مستقلة بشيء عن الله"
وانظر بلاغة التفسير في نفي أنواع الشرك، فليس ملك الله مشاعًا ليحوزوا منه مثقال ذرة، ولا هو مقسومٌ بينهم، بل هو سبحانه المتفرد به، بل وتفرده به مطلق، فليسوا يعينونه على شيء منه وإن لم يشركوه في ملكه. فمن هذه حاله كيف يعبد؟ ولو أنهم اعتقدوا شيئًا مما سبق لنازعوا فيه، ولقالوا: "بل العالم قسمة بينهم، فلله شركاء يستقلون بشيء الأمر" ولكنا وجدناهم مصرحين باعتقاد أن له ملكوت كل شيء، وأنه يدبر الأمر، وأنه يجير ولا يجار عليه، وأنه رازقهم وخالقهم، وغير ذلك مما سبق بيانه.
* وقال أبو جعفر في تفسير قوله تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ () وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ () وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ ۚ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ () إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ () أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۗ قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ}:
" يقول تعالى ذكره: أيشركون في عبادة الله، فيعبدون معه = "ما لا يخلق شيئًا "، والله يخلقها وينشئها؟ وإنما العبادة الخالصة للخالق لا للمخلوق... يقول تعالى ذكره: أيشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله ما لا يخلق شيئًا من خلق الله، ولا يستطيع أن ينصرهم إن أراد الله بهم سوءًا، أو أحلّ بهم عقوبة، ولا هو قادر إن أراد به سوءًا نصر نفسه ولا دفع ضر عنها؟ وإنما العابد يعبد ما يعبده لاجتلاب نفع منه أو لدفع ضر منه عن نفسه، وآلهتهم التي يعبدونها ويشركونها في عبادة الله لا تنفعهم ولا تضرهم، بل لا تجتلب إلى نفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضرًّا، فهي من نفع غير أنفسها أو دفع الضر عنها أبعدُ؟ يعجِّب تبارك وتعالى خلقه من عظيم خطأ هؤلاء الذين يشركون في عبادتهم اللهَ غيرَه... يقول تعالى ذكره في وصفه وعيبه ما يشرك هؤلاء المشركون في عبادتهم ربَّهم إياه: ومن صفته أنكم، أيها الناس، إن تدعوهم إلى الطريق المستقيم، والأمر الصحيح السديد لا يتبعوكم، لأنها ليست تعقل شيئًا، فتترك من الطرق ما كان عن القصد منعدلا جائرًا، وتركب ما كان مستقيمًا سديدًا. وإنما أراد الله جل ثناؤه بوصف آلهتهم بذلك من صفتها، تنبيهَهم على عظيم خطئهم، وقبح اختيارهم. يقول جل ثناؤه: فكيف يهديكم إلى الرشاد مَنْ إن دُعي إلى الرشاد وعُرِّفه لم يعرفه، ولم يفهم رشادًا من ضلال، وكان سواءً دعاءُ داعيه إلى الرشاد وسكوته، لأنه لا يفهم دعاءه، ولا يسمع صوته، ولا يعقل ما يقال له. يقول: فكيف يُعبد من كانت هذه صفته، أم كيف يُشْكِل عظيمُ جهل من اتخذ ما هذه صفته إلهًا؟ وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده، الضارّ من يعصيه، الناصرُ وليَّه، الخاذل عدوه، الهادي إلى الرشاد من أطاعه، السامع دعاء من دعاه... يقول جل ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان، موبِّخهم على عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الأصنام: (إن الذين تدعون) أيها المشركون، آلهةً =(من دون الله)، وتعبدونها، شركًا منكم وكفرًا بالله =(عباد أمثالكم)، يقول: هم أملاك لربكم، كما أنتم له مماليك. فإن كنتم صادقين أنها تضر وتنفع، وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إياكم، فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم، فإن لم يستجيبوا لكم، لأنها لا تسمع دعاءكم، فأيقنوا بأنها لا تنفع ولا تضر؛ لأن الضر والنفع إنما يكونان ممن إذا سُئل سمع مسألة سائله وأعطى وأفضل، ومن إذا شكي إليه من شيء سمع، فضرّ من استحق العقوبة، ونفع من لا يستوجب الضرّ... قول تعالى ذكره لهؤلاء الذين عبدوا الأصنام من دونه، معرِّفَهم جهل ما هم عليه مقيمون: ألأصنامكم هذه ، أيها القوم =(أرجل يمشون بها)، فيسعون معكم ولكم في حوائجكم، ويتصرفون بها في منافعكم =(أم لهم أيد يبطشون بها)، فيدفعون عنكم وينصرونكم بها عند قصد من يقصدكم بشرّ ومكروهٍ =(أم لهم أعين يبصرون بها)، فيعرفونكم ما عاينوا وأبصروا مما تغيبون عنه فلا ترونه =(أم لهم آذان يسمعون بها)، فيخبروكم بما سمعوا دونكم مما لم تسمعوه؟
يقول جل ثناؤه: فإن كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات التي ذكرتُها، والمعظَّم من الأشياء إنما يعظَّم لما يرجى منه من المنافع التي توصل إليه بعض هذه المعاني عندكم، فما وجه عبادتكم أصنامكم التي تعبدونها، وهي خالية من كل هذه الأشياء التي بها يوصل إلى اجتلاب النفع ودفع الضر؟"
قلت: فانظر مناطات احتجاج القرآن عند ابن جرير الطبري في هذا النص المطول، إذ جعلها في: عجز آلهتهم عن الخلق، وعن نصر عابديها أو أنفسها، وعن عقل الدعاء والاستجابة، وكونها مملوكة لله عابدة مثلهم، بل وكونها أنقص من عابديها وخِلوًا من آلات النفع كالأعين والآذان والأيدي والأرجل.
فلولا أن أولي النهى منهم يدركون هذا من معبوداتهم في ظاهرها لكونها مواتًا، لما صح هذا الاحتجاج والتعجيب من صنيعهم. ولكنهم ادعوا خلاف ظاهرها المعطَّل، فنبههم لكونها مثلهم، عباد لله، ومع كونها مثلهم في هذا إلا أنها أنقص منهم في سماع الدعاء وآلات النفع. ثم تحداهم أن يدعوها فتستجيب لهم، لا سيما في كسر الدعوة المحمدية التي هي أخطر شيء عليهم، في حين يدعو النبي ويُستجاب له.
فكذلك يقال في مستصرخي الأموات، إذ كل هذا الذي احتج به على المشركين وعجّب من صنيعهم واقعٌ فيمن يدعونهم، أموات لا يخلقون شيئًا، ولا يملكون نصرًا لأضرحتهم دع مستغيثيهم، ولا يسمون الاستغاثة وإن تمحَّل لذلك المستدلون، ولا يجيبونها لو فرضناهم سمعوها، مملوكين لله وأنقص من المستغيثين، بل يرجون أن يَدعوَ الأحياء لهم بالمغفرة والرحمة. فإن كانوا يسمعون فليستجيبوا؟
ولا يقال: مثل هذا قد يقال في دعاء الله سبحانه، إذ تُهدَمُ مساجد فلا ينصرها، ويدعو كثر فلا يُستجاب لهم. فنقول: المساجد ليست معبودة مدعوة يُعتقَدُ فيها ما يعتقد في أموات الأولياء والأضرحة، ألا ترى هؤلاء يصلون فيها ثم ينصرفون بحاجاتهم إلى الضريح وصاحبه. ثم إن هذا احتجاجٌ على من يؤمن بالله خالقا رازقًا مدبرًا سامعًا للدعاء يجيبه بمقتضى حكمته، وليس احتجاجًا على كافرٍ بربوبية الله. وهذا الأخير وجه آخر في دلالة هذه الآيات وتفسيرها على إيمانهم بربوبيته سبحانه، وإلا ما اتجهت الحجة، ولقالوا: "كذلك ندعو الله فلا يستجيب لنا مرات كثيرة، فيلزمكم أنه غير موجود أو غير سامع أو غير قادر."
وقد نبهنا سابقًا إلى أنهم بلا شك اعتقدوا نفعها وضرها وإلا ما عبدوها، ولكن النزاع في اعتقادهم استقلالها بذلك، إذ حتى من يستصرخون الأموات اليوم يعتقدون أنها سبب نفع وضر عادي، بخلق الله وإمداده، فلا مكلف عاقلَ يفعل شيئًا إلا لجلب نفع أو دفع ضر. وقد كررت هذا التنبيه لأن بعض المخالفين يدعون كل ما ذكرناه في التدليل على أن بعض مشركي قريش على الأقل اعتقد في الله التفرد بالخالقية والتدبير والرزق والملك، وإن كان اعتقاده مشوبًا ناقصًا، ويتمسكون بمثل هذه الإطلاقات، وبأنهم اعتقدوا فيها نفعًا وضرا، إذ قريبٌ من البداهة أن يعتقدوا هذا، ولكن النزاع فيما سبق ذكره، وهو الاستقلال، فالمستغيثون اليوم يعتقدون النفع والضر كذلك وإلا كانوا مجانين مرفوعي القلم إن استغاثوا بما ليس سببا لنفع أو ضرٍ بحال.
* وكالذي سبق تجد في قوله تعالى: {وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقࣰا مِّنَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَسۡتَطِیعُونَ () فَلَا تَضۡرِبُوا۟ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} فيقول الطبري: "يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه أوثانًا لا تملك لهم رزقا من السموات، لأنها لا تقدر على إنـزال قطر منها لإحياء موتان الأرضين ، والأرض: يقول: ولا تملك لهم أيضًا رزقًا من الأرض لأنها لا تقدر على إخراج شيء من نباتها وثمارها لهم ، ولا شيئًا مما عدّد تعالى في هذه الآية أنه أنعم بها عليهم ( وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) يقول: ولا تملك أوثانهم شيئًا من السموات والأرض، بل هي وجميع ما في السموات والأرض لله ملك، ولا يستطيعون يقول: ولا تقدر على شيء."
* وكذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيقول الطبري: "يقول جلّ ثناؤه: إن أوثانكم التي تعبدونها، لا تقدر أن ترزقكم شيئا ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ يقول: فالتمسوا عند الله الرزق لا من عند أوثانكم، تدركوا ما تبتغون من ذلك ﴿وَاعْبُدُوهُ﴾ يقول: وذلوا له ﴿وَاشْكُرُوا لهُ﴾ على رزقه إياكم، ونعمه التي أنعمها عليكم، يقال: شكرته وشكرتُ له، أفصح من شكرته."
* ونختم هذا المبحث فنقول:
بهذه الحجج نفسها وبتفسير الطبري لها= نحج أهل زماننا، واستواؤهم ومشركي قريش في جريان أدلة التوحيد عليهم دليلُ اشتراكٍ في الفعل المنكَر الذي تنقضه هذه الأدلة، فإنه لا فرق مؤثر بينهم يمنع من وصف فعلهم بالشرك في نفس الأمر، وكل الردود التي يتفصى بها المعاصرون عن أدلة التوحيد، كان يمكن أن يتفصى بها مشركو قريش لو صحت، إلا أمورًا معينةً تصحح عذر المتأخرين، كإقرارهم بكلمة الشهادة وجهلهم أنهم ينقضونها بفعلهم، للعجمة والتأويل وتقليد زلات الأكابر والالتصاق بالموروث المشوب، فصار النزاع مع المعاصرين في تسمية فعلهم عبادةً وتأليهًا لغير الله في لغة الشرع، في حين لم يكن ينازع في ذلك مشركو قريش.
وربما استدل المخالف بأدلة تجعل الاستغاثة بالموتى من قبيل التسبب الذي أذن به الشرع، وليس غرضنا الاستقصاء هنا، إلا أننا نشير إلى أنها ما بين ضعيفٍ يقتضي تصحيحه تصحيح مئات الأحاديث التي تكدر أصول دين المخالف في الذات الإلهية والصفات، أو غير صريح لا يقوى على ظواهر ما يستدل به المحرمون. وقد أحسن من استبرأ لدينه وصان توحيده.
هذا آخر بحث عقيدة الطبري رحمه الله كما ظهرت في تفسيره، والحمد لله رب العالمين.