هذا مقال جمعت فيه منشورين كتبتهما في نقد مثالين من أمثلة الفيلسوف المسيحي وليام لين كريغ لإبطال التسلسل:
المنشور الأول:
قد كنتُ ذكرتُ إجمالًا الخطأ في استعمال مثال (فندق هيلبرت) لإبطال قدم أحداث الزمان أو قدم العالم... وهو المثال المستفاد من الرياضي ديفيد هيلبرت والذي روجه وليام لين كريغ ومن تأثر به بين المشتغلين من الشباب في السجال الإيماني الإلحادي..
وقد آن أوان التفصيل... فنقول:
اللاتناهي أو التسلسل يكون إما في:
1- المعلولات (الآثار)
2- العلل (المؤثرين)
3- تمام العلل (تمام المؤثرية)
4- الذي بمعنى الدور القبلي
والأخيران قلما يُتنَبَّهُ لهما... ولكن سنهتم الآن بتسلسل المعلولات والعلل... الآثار والمؤثرين...
التسلسل اللامتناهي اختُلِفَ في امتناعه... هل شرط الامتناع اجتماع الآحاد وترتبها... أم أحدهما... أم لا شيء منهما؟
ثم هل شرط جريان دليل المنع أن تكون الآحاد وجودية... أم تجري في الاعتباريات كذلك؟
.
لماذا أقول هذا... لأبين سذاجة الطرح المتداول الذي يجعل القضية ثنائية... إما جواز اللاتناهي أو امتناعه... بينما فيها تفاصيل كثيرة تنبه لها المسلمون من قديم...
تنبيه: لا يعني عدم تنبه الملحد/التجريبي/الرياضي/الفيزيائي/الفيلسوف-الغربي لهذه التفاصيل أنها غير مهمة... فلا يُبنى على الجهلِ حُكم... وهؤلاء يجهلون كل هذا بل ما هو فوقه بالضرورة... والدليل أنهم يتخبطون عند الكلام في اللاتناهي أيما تخبط... بأمثلة مختلفة ليس هذا مقام طرحها...
نرجع...
ما هو مثال فندق هيلبرت؟
يضرب هيلبرت مثالًا بفندقٍ فيه:
1- (عدد لامتناهٍ) من الغرف.
2- وهي ممتلئة كلها.
ومع هذا لو أتى زيد ليكتري غرفةً فإن الفندقَ هذا سيسعه! مع كونه ممتلئًا!...
لأن موظف الاستقبال سيقوم بحركةٍ ذكية لإخلاءِ غرفةٍ له... فسيطلب من كل شخصٍ يقطن غرفة في هذا الفندق أن ينتقل للغرفة التي تليه... فسينتقل الأول من غرفة رقم (1) إلى غرفة رقم (2) فيخلي غرفته رقم (1) لزيد... طبعًا الانتقال سيستمر إلى ما لا نهاية له.. فالذي في غرفة (2) سينتقل لـ (3) وهكذا إلى الأبد... ولكن سنتجاوز هذه الثغرة...
لا يتوقف الأمر هنا... بل الفندقُ -رغم امتلائه- سيتسع لعددٍ لامتناهٍ من الزبائن!...
فإنه لو أتى (عددٌ لامتناهٍ) من الزبائن... سيقوم موظف الاستقبال بحركة ذكية لإخلاءِ عددٍ لامتناهٍ من الغرف... فسيطلب من كل زبونٍ أن ينتقل إلى الغرفة التي رقمها (ضعف رقم غرفته)... فالذي في غرفة (1) سينتقل للغرفة رقم (1*2) أي إلى الغرفة (2)... والذي في غرفة (2) سينتقل للغرفة (4).. والذي في غرفة (3) إلى غرفة (6)...
لاحظ أنهم سينتقلون للغرف ذات العدد الزوجي.. وسيُخلون الغرف ذات العدد الفردي... وبما أن الغرف لامتناهية فإن غرفها ذات العدد الزوجي وغرفها ذات العدد الفردي غير متناهية...
فسيأتي العدد اللامتناهي من الزبائن وسيقطنون الغرف الفردية -اللامتناهية- التي أخليت...
ويترتب على هذا المثال محالٌ واضح...
وهو اجتماع النقيضين...
1- امتلاء الغرف اللامتناهية فلا تستوعب الزيادة
2- إمكان زيادة عددٍ لامتناهٍ من الزبائن...
فاجتمع الامتلاء والخلو...
أو... 1- الغرف الممتلئة قبل زيادة زبون كما هي بعد استضافته...
2- الغرف تغيرت وزيد فيها غرفة خالية... فاجتمع التساوي والزيادة...
هذا هو المثال باختصار وقد أكون أخللت في تبسيطه أو صياغته... وإن كتبتم في اليوتيوب (Hilbert Hotel) فستجدون ما يفيد من مقاطع وستجدون وليام لين كريغ وهو يوظفه التوظيف الخاطئ الذي استفاده منه البعض والذي سنبين بعض ملامح خطئه الآن...
فلندرسه إذن قليلًا...
س1: ما هو نوع اللاتناهي أو التسلسل الذي يتضمنه المثال؟
الجواب: التسلسل الذي آثاره مجتمعة في الوجود... فكل الغرف موجودة دفعة واحدة... مجتمعة... وكذلك الضيوف في حال استقبال عددٍ لامتناهٍ منهم... أيضًا هم مجتمعون دفعة واحدة...
إذن: لو صح هذا المثال في إبطال اللاتناهي... فهو يبطل نوعًا معينًا واضحًا... وهو اللاتناهي أو التسلسل الذي (آثاره مجتمعة في الوجود)
ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالأنواع الأخرى...
طيب...
س2: هل المثال يميز بين حيثية (العلة والمعلولية)؟ أي: هل المثال يجري في تسلسل العلل أو في العدد اللامتناهي من العلل؟ أم هو عامٌ فيهما جميعًا؟
الجواب: هو عامٌ يجري فيهما جميعًا...
إذن: لو صح هذا المثال... فإنه سيشمل تسلسل المعلولات والآثار كما شمل تسلسل العلل والمؤثرين...
.
وهنا يتبين لنا أنواع من الغلط في استخدام المثال...
١- جعله مبطلًا لأي نوع من التناهي أو التسلسل المتعاقب في الماضي... سواء كان في العلل أو المعلولات... بل هو جارٍ فقط في المجتمعات في الوجود...
فكيف يستفاد منه فيما يتعلق بحوادث الماضي؟
٢- جعله مبطلًا لتسلسل العلل أو المؤثرين حصرًا دون تسلسل المعلولات والآثار... فهذا تحكمٌ محض إذ المثال جارٍ في مطلق اللاتناهي.. دون تمييز بين كون آثاره مترتبة ترتب العلل والمعلولات أو غير مترتبة...
فكيف يُجعلُ تحكمًا في نوع معين من حوادث الماضي وهي الحوادث المترتبة ترتب العلة والمعلولية (تسلسل المؤثرين)؟ وكيف يقول المستدل بالدليل: أنا أجيز فقط تسلسل الآثار والمعلولات... وإنما فقط أستخدم الدليل في منع تسلسل المؤثرين والعلل؟ هذا تحكم...
.
٣- أن الدليل مبني على فرض الذهن لسيناريو محال ثم استلزام أمور مشكلة ومحالات زائدة منه تتجاوز موضوعه... وهذا لا يفيد شيئا في الواقع...
٤- أن تفاضل اللامتناهيات ممكن وليس ممتنعا... فيمكن أن تكون مجموعة الغرف الممتلئة لامتناهية ثم تخلو غرفة وتكون بعدها المجموعة اللاحقة من الغرف الممتلئة أقل من السابقة... مع لا تناهي الغرف في الحالتين...
والزبائن زادوا بمقدم الزبون الجديد... وإن كانوا في الحالتين غير متناهيين...
وعدد الغرف اللامتناهية ككل أكبر من عدد الغرف الزوجية اللامتناهية التي ستخلو في مقابلها الغرف الفردية اللامتناهية أيضا...
فتفاضل المجموعات غير المتناهية ممكن... ومعلوم بحث كانتور... فإن قيل: بحثه رياضي ذهني... قلنا: وهذا المثال ذهني وفي الخارج لا تجتمع الآثار اللامتناهية دفعة واحدة...
٥- وكذلك لم يجتمع الامتلاء والخلو بل زال الامتلاء بانتقال نزيل من غرفته لغرفة أخرى... فلم تشترك القضيتان في الزمان... فلا تناقض حقيقي...
ويمكن أن يقال أكثر... فهو مثال متهافت ثغراته كثيرة...
تنبيه: كل هذا بفرض صحة المثال فيما يتعلق بـ (لاتناهي الآثار المجتمعة في الوجود)... والصحيح أنه ضعيف متهافت حتى في هذا...
تنبيه ثان: المثال شكلٌ من أشكال دليل التطبيق... فليس دليل التطبيق كما يظن البعض مقيدًا بشكلٍ معين وهو (الحوادث من الطوفان إلى ما لا نهاية ومن البعثة إلى ما لانهاية والتطبيق بينها- أو أي تطبيق بين حادثتين زمنيتين) بل له أشكال كثيرة مادتها الأصلية المقارنة بين اللامتناهيات... ولزوم اجتماع التساوي والتمايز وهما نقيضان...
وبالتالي: من التناقض أيضًا إبطالُ التطبيق وتصحيح هذا المثال الضعيف...
----
المنشور الثاني:
ومن الأمثلة العجيبة التي يذكرها وليام لين كريغ أيضا: مثال "عدَّاد اللانهاية"
.
أي أننا لو فرضنا عدادا من الأزل يعد بشكل تنازلي... فإنه ولا بد سيصل إلى الرقم صفر... ويستحيل أن لا يصل إليه... ولكن متى وصل إليه؟
لو كان يعد من الأزل فإنه ولا بد وصل إليه منذ زمن...
ولو قلنا بأنه وصل إليه قبل ألف سنة... فيصح أن نقول بأنه وصل إليه قبل ذلك...
إذ كل نقطة في الماضي قبلها كمية لا متناهية تكفي للوصول إليه... وهذا يقتضي استحالة تحديد النقطة التي انتهى فيها إلى الصفر... إذ كل نقطة يجوز أن يكون انتهى للصفر في النقطة التي قبلها... فكل نقطة قبلها مدة لا متناهية تكفي للوصول إلى الصفر... فيكون قد وصل لنقطة الصفر ولم تتعين نقطة وصوله في نفس الوقت... وهو محال...
.
وهذا مثال ضعيف جدا...
١- إذ هو من جنس فندق هيلبرت...
فرضٌ لسيناريو محال ثم استنتاج محالات ولوازم غريبة منه... وهذا لا يفيد شيئا وليس باحتجاج عقلي مستقيم...
٢- ثم إن فيه مصادرة فجة على المطلوب...
فبداية المثال تفرض أن هناك عدادًا (بَدَأَ) بالعد...
وأنت تناقش من لا يسلم لك وجود بداية أصلا لتنصب له عدادا يبدأ بالعد!
٣- ثم إن التعداد من حيث هو: فعلٌ لا بد له من بداية... طبيعته تتطلب البداية... لا بد وأن تبدأ برقم... وإن توقفت فلا بد وأن تتوقف عند رقم... بينما الكلام في تعاقب أفرادٍ وأزمنة بلا بداية... فلا رقم هنالك ليتوقف عنده... أنت تتكلم عن اللاتناهي هنا... كما لو سأل سائل: كم مدة وجود الخالق! لا رقم هنا لتجيب به... فليس الكلام في فعلٍ أو حدثٍ معين يتصاعد أو يتنازل إحصائيا ولا بد له من بداية ويقبل التعداد!
وهذا يذكرنا بدليل الشفع والوتر الذي استعمله الغزالي... فبينهما شبه في هذه الحيثية... ووصفه الرازي بالدليل الخسيس لشدة ضعفه وتهافته...
٤- ثم إن الترقيم هنا لا يفيد شيئا سوى الإحصاء... لا يفيد كمية معينة... فحين تقول (٢) لا تقصد أن هناك حدثين... بل أن هذا الحدث الواحد حاز المرتبة (٢)... فما المانع من الاستمرار إذن في الإحصاء؟ ما المانع من دخول الأرقام السالبة؟ إذ هي مجرد مراتب للعد ولا تفيد سلب شيء حقيقةً أو سلب كميته... مجرد أعلامٍ لمراتب تواضعنا على ترتيبها بهذا الشكل...
٥- ثم ماذا لو طبقنا هذا على معلومات الله... ومعلوماته سبحانه ثابتة لامتناهية في نفس الأمر... ففرضنا عدادا يعد معلوماته بشكل تنازلي من الأزل... يلزم الخواجة وليام أن يصل العداد في نقطة ما للرقم صفر بالضرورة... وكل نقطة يجوز أن يصل قبلها للصفر... فيكون قد وصل للصفر ولم تتعين نقطة وصوله للصفر في نفس الوقت... وهو محال... وبما أن هذا محال فيلزم أن تكون معلومات الله متناهية والعياذ بالله!
.
ختاما: يمكن أن يُعترض بأكثر من هذا... ولكن دونك ما قلناه عفو الخاطر... وما سبق من الكلام في فندق هيلبرت... لتعلم مستوى حجة الرجل فلسفيا... فلا تسارع في التأثر به وبأمثاله أو التسليم لما يقولونه... ولتعلم أن الفلسفة والكلام الإسلاميين تجاوزا بالنقد والتفصيل -بسنوات ضوئية- ما يعده الغربيون تجديدا وفتحا وإبداعا... وأنه يعيبنا أن نهتم بكلام من يستفيد من الغزالي فنفرح لهذا به ونمطئن لكلامه... بينما تجاوز الفلاسفة والمتكلمون المسلمون الغزالي بكثير... وفرعوا وفصلوا في أمور لم ينطق بها حجة الإسلام الغزالي رحمه الله...
السلام عليكم، احتاج وسيلة للتواصل للسؤال حوول المدرسة الكلامية، وشكرا
ردحذف