الأربعاء، 19 نوفمبر 2025

دفاع القرءان عن النبي- نقدٌ وموازنة لشكوك الأوائل والأواخر

 

[دفاع القرءان عن النبي- نقدٌ وموازنة لشكوك الأوائل والأواخر]

.

هذا بحثٌ حشدتُ فيه دفاعات القرءان عن صدق النبي، وكل ما دل على ذلك منه، مكتفيًا به، وغير زاعمٍ أنَي استوعبت، ولكن حسب القلادة ما أحاط بالعنق.

واعلم أنَني قصدت إلى جمع ما يفيد الدفاع، فلم أورد ما يدل على النبوة مما له بحثٌ آخر، وأنَ غرضي من البحث أمران، أولهما أنَ القرءان لم يدع أصلَ شبهةٍ في القديم والحديث إلا وأتى عليها، وثانيهما أنْ أوازن بين طعون مشركي قريش وشكوك المعاصرين، زاعمًا أنَ العرب كانوا بالطعن أولى، وبالظهور أجدر، وأنَهم كانوا في جاهليتهم أعقل من جاحدي المعاصرين.

.

1. التشكيك في سيرته

.

فمن تشكيكاتهم في سيرة النبي ﷺ، القول بأنّه لم يكن أمّيًا، بل كان قارئًا، مطّلعًا على الكتب، باحثًا في نصوص الأولين، يغشى مظانّ العلم، ويقلب دفاتر الأمم، وذا افتراضٌ ترفّع عنه عقلُ المشركين الأوائل، فما جسر أحد منهم على ادّعائه، ولا زعم زاعمٌ منهم أنه كان كاتبًا ولا قارئًا، وإنما كانت شبهتهم أنه يستكتب (=يطلب أن يُكتَبَ له) ثم تُملَى عليه، كما قالوا:

﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُـمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ (الفرقان: 5).

في حين جرأ المعاصرون فجعلوه رأسًا في القراءة والبحث والنظر، لا رجلًا قارئًا عاديا! وعارفًا بنصوص أهل الكتاب بل وغير أهل الكتاب، ظاهرها وخفيّها، وبنسخها المختلفة، ومظانّ أخبارها، والنادر منها، على اختلاف لغاتها وأماكنها. فالمعاصرون أضعف عقلًا من المشركين، إذ نسبوا إليه ما لو صحّ لسبق إليه من كان أحرص منهم على القدح، وأعرف بسيرته، وأقرب إلى الوقائع. ومتى عجز الأولون عن ذلك، كان عجز المتأخرين عنه ألزم.

وقد ردّ القرءان هذه الدعوى قاطعًا حجّاتهم من أصلها بقوله:

﴿قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (يونس: 16).

وقوله: ﴿أَفَلَمۡ یَدَّبَّرُوا۟ ٱلۡقَوۡلَ أَمۡ جَاۤءَهُم مَّا لَمۡ یَأۡتِ ءَابَاۤءَهُمُ ٱلۡأَوَّلِینَ ۝٦٨ أَمۡ لَمۡ یَعۡرِفُوا۟ رَسُولَهُمۡ فَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ ۝٦٩ أَمۡ یَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَاۤءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَـٰرِهُونَ ۝٧٠﴾ (المؤمنون: ٦٨-٧٠)

فالقوم شاهدوا حياته من أوّلها إلى حين بعثته، وعرفوا سيرته معرفةً لا مدخل فيها للظنّ، فما رأوه قطّ طالع كتابًا، ولا لازم أستاذًا، ولا مارس جدلًا، ولا جرّب خطًّا، ثم جاءهم بعد أربعين سنة بكتابٍ بأصول العقائد، ودقائق الأحكام، ولطائف الأخلاق، وأسرار القصص، ثم لم يكتف بهذا دليلًا بل زادهم بأن تحداهم بلغته، وأعجزهم بنظمه، ثم بعشر سورٍ منه، بل وبعشر سورٍ مفتريات، بل وبسورة! ثم زاد ذلك بأن بقي يكرر ما به التحدي، فإن عجزوا عن سورة، فهاكم سورة أخرى، وهكذا تترا السور، مئة وأربع عشرة مرة!

واعلم أن هذه الحجة من الجنس الذي يقوى مع الوقت، إذ مذ نطق بها النبي، فقد انتصب مرمى للسهام، فبمجرد تلاوتها صار أي شخصٍ رآه يقرأ كتابًا أو يدبّج شعرًا، أو تلمذ لأستاذ مرةً في حياته= قادرًا على تكذيبه وهدم الدعوة! فمحض بقاء الدعوة وظهورها دالٌ على عدم ذلك.

لذا فكلما امتدَّ الزمان قويت الدعوى بعدم نقيضها، وبزوال الأقدر على معارضتها، وبذا كان المعاصرون أجهل، وكلَّما ظهرت دلائل علم النبي ودقائق القرءان= زادت جهالة من يدَّعي له معلمًا من المعاصرين، وقد عجز عما دون هذا الأوائل.

في حين متى وُجد هذا القرءان من رجلٍ لم يتعلّم ولم يطالع، علم العقلاء أنّه وحيٌ لا صناعة، وإلهامٌ لا تلقٍّ. ولهذا ختم الحجة بقوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، أي: أفلا تستعملون عقولكم في موضعٍ لو عُطّلت فيه العقول لم يبق لعلمٍ ولا نظرٍ سلطان؟

فالعقل الضروري حاكمٌ بأنه: لا بد للعالم من مُعلِّم، وللمعلومة من مصدر، وذا من مصاديق السببية، فإن لم يعلموا بالقطع له معلمًا مشاهدًا، وجبَ أن يكون وحيًا من غيب.

واعلم أن كل خبرٍ في القرءان= تحدٍ مضمّن أن يكذّبوه، وهذا التحدي -على اختصاره- تحدٍّ عامّ ينسف أصول الشبهات جميعًا، إذ يطالب الخصوم أن يأتوا بمصدر علمه، أو يثبتوا أنه قرأ، أو كتب، أو تلمذ لأحد، أو وجدوا له خطًّا، أو دلّوه على مجلسٍ كان يُقرَأ فيه كتابٌ في حضرته. وهو تحدٍّ رفيع الخطر، فإن أدنى دليلٍ على واحدةٍ من هذه الدعاوى كافٍ لإسقاط النبوة جملةً، ومع ذلك لم يجدوا شيئًا، بدلالة بقاء الدين وظهوره، مع سهولة ذلك، وهم أهل عصره، المخالطون له، المحيطون بأحواله، الأعرف بطرائق الحياة في مكة، فكيف يتطلع إلى هذا من جاء بعدهم بألف عام أو أكثر؟ وكيف يخرج المتأخر ما عجز عن إخراجه من عاشره ليلًا ونهارًا؟

وزد عليه غير ذلك من الإخبار عن سيرته،  كإن وجدوه أتى بقادحٍ أخلاقي يُكَذِّب كونه على خلق عظيم، أو تعاطيه شيئًا من صنعة السحر وتعلمه، أو غير ذلك مما يسهل إخراجه ممن لبث معهم في ذلك العصر. وذا يبين ضعف عقول المعاصرين الذين يريدون إخراج ما عجز عن إخراجه مجايلو النبي  ومعاشروه طيلة عمره.

ثم قال تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ (يونس: 17).

فإن كان القرءان مختلقًا، فالنبي أول الظالمين على نفسه، إذ افترى على الله، وإن قامت البينة على أنه من الله، فليس أظلم ممّن كذّب به بعد ظهور الدليل.

وفيه القاعدة العامة: أن مدعي النبوة إما أن يكون أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، وكل من ميّز بين صادق وكاذب فقادر على التمييز بين أعظم الناس صدقًا وأعظمهم كذبًا من باب أولى، إذ لا أسهل من تكذيب من يدعي نبوة تزعزع كل شيء، حال استضعافه ومخالطته، وحال كونه غير محتجب عن خصومه وأتباعه، وعن أسئلة صحبه وتحديات قومه. وذكري لهذه الحال مهمة، لتقارنها بحال مدعي النبوة عديمي التأثير المحتجبين بالقوة والسلطان، كيف وهؤلاء أيضًا يُفضحون ويُغتالَ ذكرهم.

ويزيد السابق إحكامًا بقوله تعالى:

﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (العنكبوت: 48).

إذ بعد نزولها لم يعد مقبولًا أن يثبت أحدٌ أنه خط شيئًا بيمينه، وإلا لكذَّب القرءان ونقض الدعوة، ولم يكن القوم ليتركوا ذلك إن وجدوه، ولا ليسكت عنه خصومه، وهم أحرص الناس على تكذيبه، وأقدرهم على استخراج العثرات في بيئةٍ مكشوفةٍ لا يستتر فيها سرّ.

.

2. شبهة الجنون والاضطراب النفسي

.

ومما دندن حوله الأوائل والأواخر: اتهام النبي ﷺ بالاضطراب النفسي، وأن ما جاء به أثرُ شيزوفرينيا وهلاوسَ أو توهماتٍ عصابية وصرع، وزاد المشركون على ذلك قديمًا دعوى مسّ الجن. غير أنّ المشركين -على جهلهم- كانوا أعقل من من المعاصرين في هذا الباب، إذ لم يكن لهم علمٌ بحدود الجنون، ولا تمييزٌ بين طبقاته، ولا إدراكٌ لأحوال الممسوس والموسوس والمختل. أما المعاصر فهو يدري أن اضطرابات النفس -بشتى مراتبها- لا تُنتج ظاهرةً محمديةً تمتد ثلاثةً وعشرين عامًا بلا تلعثمٍ ولا اضطراب، ولا تصنع لغةً هي أرفع لغات العرب، ولا تقيم دولة، ولا تربي رجالًا، ولا تشيّد حضارة. فالمجنون -في أحواله كلها- أنقص من العاميّ في البيان، وأضعف في القيادة، وأوهى في السياسة، فكيف يرتقي فوق العباقرة والفصحاء، ويصارع أممًا ودولًا ومللًا؟ ثم إن المشركين لم يعلموا بعد ثمارَ دعوة النبي، أما المعاصر فرأى النتائج، وأنها لا تكون من مجنون مضطرب الدماغ، بل لو كان كل هذا من مجنونٍ لكان خارقًا للعادة في نفسه!

وقد سجّل القرءان ما شغبوا به فقال سبحانه:

﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ (الحجر: 6).

ورد القرءان عليهم فقال: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ۝ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ۝ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ (الطور: 29-31).

فنبههم لكون الوحيِ نعمةً من رب العالمين، وهذا جامع لكل ما في دعوته من دلائل أنعم الله بها عليه وعلى أتباعه، حيث إن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه، كالفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون، بل الاتهام به هو الجنون! وذا يحكم به أي عاقلٍ رأى رجلًا جامعًا لهذا كله ثم اتُّهِمَ ببلاءٍ لا بنعمة! وأنى تكون هذه النعم -وأعلاها القرءان الدال عليها- لكاهنٍ أو مجنون؟ ثم إنهم كانوا أعقل فعلموا أن مدعي النبوةِ كاذبًا -لا سيما في عصرهم- لا يظهر أمره، وقصاراه حوادث الدهر والموت. إذن تربصوا! وليأت الدهر بما شاء، فلن يموت صاحب هذه الدعوة حتى يبلغ رسالات ربه ويظهر أمره ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة: 67) وذا تصريحٌ بأنّ النتيجة محسومة قبل وقوعها.

وقد قال تعالى أيضًا: ﴿ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ۝ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ۝ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ۝ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ۝ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ ۝ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القلم: 1-7).

فأشار لدلالة خُلُقِه، واضعاً وصفاً سيقيد النبي مع بدء الدعوة، بأنه على خلق عظيم، فلم يعد جائزًا أن يأتوا من ماضيه بشيء يعيبه، أو في مستقبله بما يقدح في خلقه. وكونه ذا خلقٍ عظيم يتعارض مع الجنون القديم والمعاصر، وهم يشهدون هذا، ويشهده المعاصرون بشهادة القرءان التي كانت لِتُكذَّب لو لم تكن. ثم لكونه في أوائل الدعوة إشارة لما سيجلي الحقيقة لاحقًا، وأنهم سيبصرون من المفتون، وهو ما كان بعد ذلك في السيرة -وتواتر إلينا- من قيادته وانتصاراته وظهوره ودينه. وخُتِمَت الآيات بأن الله أعلم بمن ضل عن سبيله وأعلم بالمهتدين، منبهاً لكون ما أتى به هداية، فكيف تكون من مجنون؟

وقال جلَّ شأنه: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ۝ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الصافات: 35-37). ومثله قوله: : ﴿أَفَلَمۡ یَدَّبَّرُوا۟ ٱلۡقَوۡلَ أَمۡ جَاۤءَهُم مَّا لَمۡ یَأۡتِ ءَابَاۤءَهُمُ ٱلۡأَوَّلِینَ ۝٦٨ أَمۡ لَمۡ یَعۡرِفُوا۟ رَسُولَهُمۡ فَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ ۝٦٩ أَمۡ یَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَاۤءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَـٰرِهُونَ ۝٧٠﴾ (المؤمنون: ٦٨-٧٠)

 وفيه الإشارة إلى أن ما جاء به الحق، ولا يجيء بالحق مجنون، وكونه حقًا أي بدلائله ومضمونه الذي يبصر الأعمى أنه ليس في طوق مجنون أو شاعر. وأنه صدَّق المرسلين، وجاءهم بما أتى أباءهم الأولين، فليس بدعًا من القول، وفيه إشارة لدليل آخر على صدقه، فكيف يتأتّى لمختلٍّ أن يجيء بعقيدةٍ توافق عقائد الأنبياء، وتصدق رسالاتهم، وتلتقي معها في أصولها الدقيقة؟ دع كونه مصداقًا لنبوءاتهم، دع موافقته إياهم في نصوص وتصحيحه ما حُرِّفَ عليهم. وذا لازمٌ حتى لمن لم يؤمن بالأنبياء، فإنّ اجتماع هذه المعاني من مستحيلات الصدفة، فكيف تُنسب لاضطراب عقلٍ أو خلل ذهنٍ؟!

وعندما جمعوا بين تهمتي التعلم والجنون، قال تعالى: ﴿أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ۝ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ﴾ (الدخان: 13-14)، وفي سورة الدخان، أتاهم بخارقة حسية تفيد عدم جنونه، فكشف عنهم عذاب الدخان قليلًا، ليعودوا إلى غيهم، فقال تعالى: ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ (الدخان: 15)، وفيه ردٌ على شبهةٍ تأتي لاحقًا، وهي طلبهم معجزات وخوارق خاصة ليؤمنوا.

ونختم الشبهة بقوله تعالى: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ۝ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ (القلم: 51-52). فكيف يكون ذكرًا للعالمين، يحاجهم به جميعاً، بمضمونه وبآيات صدقه، ويكون من مجنون؟ فالعالمون كلهم مُتَحَدون لإثبات أنه ليس من إله، ويعجزون.

.

3. شبهة الكذب والبحث عن المصالح الدنيوية

.

ومما رماه به المشركون، ورماه به كثير من الجاحدين في هذا العصر: اتهامُه بالكذب طلبًا للسيادة أو الملك أو المال، كما قال تعالى حاكيًا قول ملئهم: ﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ (ص: 6).

أي: هذا الذي يدعو إليه محمد ﷺ -من قول لا إله إلا الله- أمرٌ يريده لنفسه، وسلطانٌ يبغي به الاستعلاء علينا، ليكون له الاتباع وعليه المشيخة، ونحن له الطائعون. فهي عينُ السردية التي يحاول المعاصرون اليوم أن يكسوها ثوبًا جديدًا: أنه كان ذكيًّا يطلب الدنيا، أو حاذقًا يبني مجدًا لقومه، أو صاحبَ طموحٍ سياسيٍّ يتلمّس طريق الملك.

إذ إنهم اتهموه قبل أن يعلموا ما سيكون من أمر الدعوة، وظنّوا أنه عمَّا قريبٍ يطلب مراده الدنيوي، أو أن مآلها قد يفضي إلى طَلَبِ دنيا أو مُلك أو ثراء. أما المعاصر فقد رأى نتائج الدعوة، ورأى أنها كانت قولًا ثقيلاً، وأنّ صاحبها تواتر عنه أنه لا يسأل أجرًا، وأنها دعوة ترفع صاحبها إلى المشقة لا إلى الراحة، وتكلّفه ما لا يتكلفه صاحب هوى، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ (ص: 86). وقال سبحانه: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ (الطور: 40). وقال عزّ وجلّ: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ﴾ (الشورى: 23).

بل زاد الأمر فوق ذلك أن خيّر زوجاته بين الدنيا والآخرة، ولو كان طالبَ دنيا لرضين منه ما يرضينه من كل من يُؤثر الحياة الدنيا، ولما كان للتخيير معنى. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ (الأحزاب: 28).

فدلّ هذا على أن بيته لم يكن بيت دنيا، وأن أمره كله مبنيٌّ على المجاهدة والزهد والصبر.

ثم ضُمّ إلى ذلك ما كُلّف به من أعمال بدنية وروحية ليست من شأن طالب ملك كذّاب، بل من شأن من حُمّل رسالةً من السماء، كما قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ۝ نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ۝ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ۝ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ (المزمل: 1–5). وقد تواترت عنه السنن لا الواجبات فقط، مما كان غير واجبٍ على أتباعه إلا أن يريدوا أجرًا زائدًا باتباعه فيه.

وهذه تكاليف لا يدخل تحتها من يطلب اليسر، ولا من يريد التجارة السياسية، بل لا ينهض بها إلا نبيٌّ صادق.

أما الغنائم، فلم تأتِ إلا مؤخراً جدًا، وكانت توزع فلا يبقى منها شيءٌ مع النبي يزيد على ما من جنسه واقع لغيره من المسلمين، بل فيهم أثرياء أغنى مالًا منه ﷺ، وهم أتباعٌ للنبي يملك أن يسلبهم بالدين ما معهم أو بعضه لو شاء.

دع علمهم أنه لم يجعلها ملكًا في نسله، وأنه لو أراد السيادة لأدهن، كما قال تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم: 9). وكل هذا لم يكن في علمِ المشركين إبَان الدعوة في البداية ثم استبانت لهم، وزادت بيانًا للمعاصر الذي علم متواتر سيرته وقرءانه، ورأى عواقب دعوته وثمارها.

وتأمل بأن كل ما قيل هنا في نفي شبهة طلب الدنيا= فهو ردٌ على شبهة السحر، والشعر، والتعلم من الغير، إذ لِمَ يصنع كل هذا من لا يطلب شيئًا من المصالح السابقة، بل يكلف نفسه فوق ما يلزمها إن كان كاذبا؟

ومن حكمة الله أن لم تتبعه قريشٌ عقدًا من الزمان، ثم قاتلته عقدًا وبضع سنين، وإلا قيل: نالَ سيادةً مذ ادعى.

.

4. شبهة السحر والكهانة

.

ومما رُمي به النبيّ ﷺ قديمًا: الاتهام بالكهانة والسحر، لا سيما عند ظهور خوارقه الحسية، أو ما صحّ من دلائل اتصالِه بالغيب، أو ما اشتمل عليه القرءان من أنباءٍ لم يسمعوا بها، فيعلّقون الأمر بباب الجن، وصنعة السحر، في حين يجعله المعاصر أثرًا لفنٍّ خفيّ لم يبلغوه، أو صنعةٍ لم يتقنوها، أو تميزٍ يقع للواحد من البشر كل فترة، أو يفرّ من هذا كلّه إلى "مجهول طبيعي" لا يفقه حقيقته، مستبدلًا سحرًا بآخر.

وقد كان الأمر في العرب أشدّ، لأنهم يؤمنون بالسحر والكهانة، فيرون ما لا يدرونه، ويجهلون ما لا يحيطون به، فيرمونه بما ألفوه من عادات السحرة والكهنة، أما المعاصر فأضعف عقلًا في هذا.

وقد ردّ القرءان على هذه الدعوى من وجوهٍ كثيرة، إذ إقدامهم على وصف القرءان بكونه سحرًا، يُحتمل أن يكون ذمًا، بكونه من ساحرٍ تعلَّم السحر ويتوسل به إلى خديعته، ويُحتمل أن يكون مدحًا لتميزه وحسنه وكمال بلاغته، حال عجزهم عن تفسير أسبابه والإتيان بمثله، فهو سحرٌ أو كالسحر. وكلا الوجهين باطل، إذ كيف يكون سحرًا من رجلٍ نشأ فيهم، لم يغِبْ عن أعينهم، ولم يخالط سوى قومه، ولم تكن مكة دارَ علومٍ ولا جامعةً تُدرّس السحر أو الفلسفة أو الآداب الخفية؟ وكيف خرج من مثل هذه البيئة المتواتر شأنها والتي يشهدون عليها= كتابٌ يعجزهم؟ فما قيل في التهم السابقة يُقالُ هنا، من أنهم كانوا الأقدر على تكذيبه، بأيسر سبيل وأظهر حجة، وعجزوا.

وقد رد عليهم القرءان بأن واقع السحرة معروف، كقوله تعالى في قصة موسى: ﴿قَالَ مُوسَىٰ أَتَقُولُونَ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَاۤءَكُمۡۖ أَسِحۡرٌ هَـٰذَا وَلَا یُفۡلِحُ ٱلسَّـٰحِرُونَ﴾ (يونس: 77). وهذا حكمٌ مطّرد: لا يُفلح ساحر، لا دينًا، ولا دعوةً، ولا أثرًا، ولا سيادةً، ولا تغييرًا في الأرض. فأين وجدت سحرًا يبني دولة؟ وأين رأيت ساحرًا يرحل ويتتبع العلوم، ثم يُمسك بزمام العرب، ثم يفتح بلاد الفرس والروم، ثم يقيم حضارةً تمتدّ قرونًا وتنبَّأت بها الكُتُبُ السابقة؟ بل أين السحر الذي يُخرِج أمّةً من ركام الجاهلية ليكون أهلها سادة الدنيا؟ هذه خاتمةٌ لا يقدر عليها إلا الحق الإلهي، أما السحر فغايته خِفّة العقل، واحتيال القوم، وارتزاقٌ من الظلمة، ولا يبلغ به صاحبه حال عالمٍ مبرز، دع شيخًا في قبيلة، دع ملكًا من ملوك العرب والعجم، دع قيام خلافة تَحطِمُ ما دونها.

وكذلك من واقعهم ما بيَّنه القرءان: ﴿هَلۡ أُنَبِّئُكُمۡ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّیَـٰطِینُ ۝٢٢١ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِیمࣲ ۝٢٢٢ یُلۡقُونَ ٱلسَّمۡعَ وَأَكۡثَرُهُمۡ كَـٰذِبُونَ ۝٢٢٣﴾ (الشعراء: 221-223). فنبه إلى صفات في الساحر والكاهن، وهي أنه أفاكٌ كثير الكذب في نفسه، أثيمٌ كثير الإتيان بالمعاصي، فأين هذا من واقع النبي الذي شهد له الوحي وألزمه بهذه الشهادة أن يكون ﴿عَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4)، والذي لبث فيهم عمرًا ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (يونس: 16)، دع أنهم كثيرو الكذب فيما يخبرون من الغيب ﴿یُلۡقُونَ ٱلسَّمۡعَ وَأَكۡثَرُهُمۡ كَـٰذِبُونَ ۝٢٢٣﴾ (الشعراء: 221-223)، فأين هذا من أخبار النبي التي يتحداكم إلى تكذيب الواحد منها؟ ويدليها إليكم لتنقضوا عليه دعوته بتكذيبها؟

ثم زد في واقعهم سنةَ الله فيهم، قال تعالى: ﴿فَلَمَّاۤ أَلۡقَوۡا۟ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئۡتُم بِهِ ٱلسِّحۡرُۖ إِنَّ ٱللَّهَ سَیُبۡطِلُهُۥۤ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُصۡلِحُ عَمَلَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ ۝٨١ وَیُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ۝٨٢﴾ (يونس: 81-82)

ففيه أن سنة الله جاريةٌ بأن يبطل السحر ويفضح صاحبه، ويُحقّ الحقَ بكلماته، وقد أحقّه بكلماته الكونية لموسى بقلب العصا حيةً وتلقفها ما يأفكون، وأحقّه بآيات القرءان التي تبطل السحر، وتعصم من الشياطين، وهذه الآية كالتحدي بأن يأتوا بسحر ليروا مآله قِبالَ كلمات الله، دع أن كل آيات التحدي بالقرءان تتضمن قبول أن يستعينوا بمن شاؤوا ويأتوا بشهدائهم ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (يونس: 38) ففيه تحدي السحرة، وتحدي المشركين أن يستعينوا بهم في عموم من أُذِنَ لهم أن يستنجدوهم، ليروا أهو سحر أم لا، لا سيما وهم يعلمون علاج السحر ويعلمون أهله، فليأتوا بمثل القرءان أو يبطلوا دعوة النبي به.

وقد رد الوحي على المشركين أيضًا حين قالوا: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ۝ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ (الإسراء: 47-48). وقد أرادوا بالمسحور: أي أنه ذو سحر وساحر، وربما أرادوا أنه أصابه سحر، فيشير القرءان إلى تهافتهم، فكل أحد شَبّهك أيها النبي بشيء آخر، فمرةً يقولون: ساحر بعلمٍ وقوة خفية، ومرةً: مسحور مبتلى تلعب به الشياطين، ومرةً: كاهن يستعين بهم ليعرف الغيب، ومرةً: شاعر يقدرون على مثل شعره، ومرةً: معلّم يستقي من غيره. ومرةً: مجنون ملتاث العقل. وذا من أدلة تنزهه عن كل هذا ﷺ، إذ جمهور هذه التهم يقتضي علمه وتلمذته لصنعة، ويناقض هذا الجنون والاختلال. وكونهُ معلَّمٌ أو شاعرٌ -كمثل غيره من المعلمين والشعراء- يناقض كونه كاهنًا أو ساحرًا يختص بالشياطين ويمتاز عليهم بها وفيهم المُعلَّمون والشعراء. ومثل هذا كونه مسحورًا مبتلى، مما يناقض تميزه بالعلم والشعر. فيستحيل الجمع بين هذه الأمور، وكل ما لأجله وصفوه بشيء من ذلك يناقض ما لأجله وصفوه بالآخر، فلا يجدون سبيلا لوصفٍ جامعٍ لكل ما ظَهَرَ به عليهم. فلم يبق جامعًا لما امتاز به عنهم إلا أن يكون وحيًا. هذا وقد تركنا ما سجله الوحي بالتواتر ويناقض بعض هذا أو كله، مما سبق ذكر بعضه، ككونه على خلقٍ عظيمٍ فليس بمجنون ولا مسحور، وكلبثه فيهم عمرًا يدركون به خلوه من التعليم وحوز الكتب ودربة الشعر، وكتقريعهم بصدق وحيه وبيانه قِبال كذب الكهان وغمغماتهم. فتركنا كل هذا واكتفينا بتناقض ما ضربوه من أمثال. وهذا يُذْكِرُك صنيع المعاصرين، إذ كلما أعيتهم معضلةُ لجأوا لسردية تعارض أختها التي وجَّهوا بها معضلةً أخرى.

لذا رد عليهم الوحي بالوعيد، حين كان من المُدبِر عن الحق ما ذكره الله: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ۝ فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ (المدثر: 23-24). و"يؤثر" تحتمل أنه أثارة ورواية عن سحر الأولين، أو أنه سحرٌ يُفضَّل ويُختار.

إذ هذه من أوائل الآيات التي أنزلت، وما سجّلته اعتراف من المُدبِر بعجبها حتى شبهها بالسحر، إذ لم يأت النبي بعد بأي خارق حسي، ولم يأتهم سوى بسورةِ العلق قبلها.

وحين أتاهم الخارق الحسي كان منهم قوله تعالى: ﴿وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ (القمر: 2).

فلم يستطيعوا أن يقولوا: نأتي بمثله، وركنوا إلى الإعراض. و"مستمر" لها وجوه، أظهرها أنه دائمٌ متتابع، لأن النبي ﷺ يأتي بالآيات واحدةً بعد أخرى، بخلاف السحرة، فإن سحرهم ينقطع، وقدرتهم تتناهى، ولا يقدرون على كل شيء، في حين يأتي النبي بالآيات في كل موقف، من اللسان إلى الفعل، ومن الأرض إلى السماء. وقد سجل أيضًا إعراضهم بقولهم: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا﴾، فالقاعدة العقلية أن الإعراض لا يكون إلا من مشغولٍ بأهَم أو عاجز عن المهم، فإعراضهم بقولهم: "هذا ليس بخارقٍ إلهي، بل محض سحر"، أو: "لو نشاء لأتينا بمثله"= يمكن أن يُقال في أي شيء، ولأي معاندٍ أن يقول مثله. فإن ثبت عدم انشغالهم عن الأمر بل اشتغالهم به -مما ثبت بتواتر حربهم وتكدر حياتهم بالدعوة- ثم اكتفاؤهم بهذا الإعراض= كان ذلك دليلًا على عجزهم.

.

5. المنازعة في دلائل النبوة والخوارق

.

كذلك المنازعة في دلائل النبوة، فكانوا يخصون خوارق بعينها يطلبونها، جاحدين دلالة ما أعجزهم به، كما حكى القرءان: ﴿وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا ۝ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ۝ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ۝ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا﴾ (الإسراء: 90-93). فكذلك ما عليه الجاحدون اليوم، من دفع دلائل إعجاز القرءان، واشتراط أمورٍ بعينها تحكماً. والمشركون كانوا أعقل، إذ طلبوا شيئًا يرونه بأنفسهم يلجئهم للإيمان، في حين معاندة المعاصر لا تعدو أن تكون طلبًا لما سيُنقَل ولن يراه، وقد أنكر ما هو فوق هذا من المنقولات عن النبي، فما يفيده أن يكون أتى بمعجزات أخرى معينة؟

وقد كان الرد في نفس الآيات، إذ طلبوه أن يفعل تلكم الخوارق من لدنه، وأنه هو الذي يُفْجِر ويُسْقِط ويُنزِل، في حين كل خوارقه إنما كانت من الله ابتداءً، فتقع له دون فعلٍ منه، أو يوحى إليه فيفعل أمرًا ويقع الخارق، فابتداء الأمر من الله سبحانه، لكن أرادوه أن يكون بقوة وشأن يدبر فيه أمر الخوارق بحسب ما يطلبون، ودليل هذا تتمة الآيات، بأنهم استكبروا أن يكون بشراً بقوة بشرية رسولا إليهم، فكان الانصراف عنهم للاستهانة بهم، فمن هم ليشترطوا لإيمانهم؟ وأي دالة لهم كي يجابوا لعين ما طلبوا؟ كيف إن علمت أنه لم يؤمن كثير ممن وجدوا مثل هذه الخوارق، كقوم موسى: ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف: 132)، وقوم عيسى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (المائدة: 110). وقد علم الله منهم ذلك مع محمد ﷺ: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (الأنعام: 7)، و ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ۝ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ (الحجر: 14-15)، و ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ۝ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾ (الزخرف: 29-30)، و ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ۝ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ (القمر: 1-2). فهم أنفسهم أظهروا العنت، كقولهم في بعض الروايات أنه لو فعل ذلك فلن يصدقوه أيضًا، إذ لا اختلاف بين ما أتاهم به وما يطلبونه من إمكان مجابهته بالعناد ودعوى السحر. وقد علم الله أنهم يكفرون ويعاقبون لو أجابهم مبكراً، في حين أراد الله لقريش أن تؤمن وللدعوة أن تنطلق منها لتعم الأرض، كما قال: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾ (الإسراء: 59)، فوقع ما أراده الله بحكمته، فآمنوا بعد حين، ولو كانوا أجيبوا وكفروا للحقوا بمن سبقهم من الهالكين.

.

6. شبهة الشعر وادعاء القدرة على المعارضة

.

فوصفهم إياه بالشاعر محاولة أخرى للتهوين من مباينة القرءان لما يكون عادةً من البشر، وأنه نتاج طبيعي كنتاج الشعر وصنوف القريض. وكان مشركو العرب -على جهالتهم- أعقل، إذ لهم نوع سلطة لغوية لمثل هذا الاتهام، في حين يهوّن اليوم من بلاغة القرءان ويجعله جنسًا عاديًا في النظم والبلاغة من هو أعجمي أو في حكم الأعاجم! وذا يجعل مشركي العرب -من جهةٍ- أكثر جحودًا، إذ سلطتهم اللغوية دلتهم من باب أولى على أن القرءان ليس شعرًا ولا من جنس ما يقدرون عليه. وقد رد القرءان عليهم بقوله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ (يس: 69)، وقوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ (الحاقة: 40-42). فنفى الشاعرية بـ ﴿قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ﴾ والكاهنية بـ ﴿قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ كأنه تعالى يقول: لو قصدتم الإيمان لَعلمتم أنّ هذا القرءان ليس شعرًا، فبنيته، وفواصله، ونَسَقه، ومادته، ومقاصده، وموقعه من النفس، أبعدُ الأشياء عن ضروب الشعر. ولو تذكّرتم طبيعة الكهانة، وما فيها من إلهام الشياطين ووساوسهم وطقوسهم، لعلمتم أنّ القرءان ليس من باب الكهانة، إذ هو عامرٌ بالحطّ على الشياطين ولعنهم والاستعاذة منهم، فكيف يكون من إلحادهم؟

ويدخل في هذا دعوى اللاكتراث بمعارضته مع القدرة عليها، في قولهم الذي نقلناه قبلا: ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۖ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ (الأنفال: 31)، ويشبههم من وجه المعاصرون اللاكتراثيون. لكن كان المشركون أعقل، ولذا كانوا أجحد، إذ كانوا أهل المعارضة لو أمكنهم، ولم يفعلوا بدلالة ﴿وَلَن تَفْعَلُوا﴾ ودلالة ﴿لَوْ نَشَاءُ﴾ مما يعني أنهم لم يأتوا بشيء، إذ "لو" حرف امتناع لامتناع، فلما لم يفعلوا كان كلامهم هراءً محضاً ودعوى لو أمكنهم القيام بها لهدموا الدعوة في مهدها، فبقاؤها حجة العدم، مع قيام الدواعي وانتفاء الموانع، أما المعاصر فهو أقل عقلًا حين يقول هذا وهو عاجز عن الإتيان بمثل شعر امرئ القيس والمتنبي.

لذا لم يجبهم القرءان وتجاوز إلى ما بعده لعبثية الدعوى ولأن فيها الاعتراف بعجزهم، فقد شاؤوا حربه، وشاؤوا حصاره، وشاؤوا ما هو أصعب من أن يقولوا مثل سورةٍ من القرءان، فأي فائدة في إجابة هؤلاء وقولهم هذا اعترافٌ بأنهم ما أتوا بمثله لأنهم بزعمهم لا يشاؤون؟ وكذلك المعاصرون، يجهدون في كل شيء يتعلق بالدين، ويرتزقون بالطعن والتشكيك، تاركين ما هو أهون عليهم لو أطاقوه: تكذيبُ خبرٍ واحدٍ أو إجابة تحد.

واعلم أن قولهم ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا﴾ دالٌ على علوِ القرءان، إذ لا يقال هذا في الداني الذي يطيقه كل أحد، إذ ظهور القدرة عليه ووجود ما هو فوقه كافٍ في معارضته، دون حاجة لإنشاءٍ جديد.

ثم جاء القرءان يستعرض حال الشعراء ليبيّن الفارق الجوهري بين الشعر والقرءان، فقال:

﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ۝ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ۝ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾ (الشعراء: 224–226).

فالشعراء -في غالبهم- أتباعهم الغاوون، ممن يميل مع الهوى، ويطلب اللذة، ويستحسن الفُحش والزينة والعبث. وهم -كما أخبر الله- يهيمون في كل وادٍ، يمدحون ما ذمّوه، ويعظّمون ما احتقروه، ويقولون ما لا يلتزمون، فلا ثبات على حق، ولا قصد للصدق، وإنما هو صناعة لفظية تحرك العاطفة وتستميل الهوى.

فإذا كان هذا حال الشعراء، فمن باب أولى أن يكون الشاعر الذي يدّعي النبوة أشدّ اضطرابًا، وأكثر تقلبًا، وأقرب إلى اتباع الهوى، إذ يتوسل بشعره إلى أعظم الدعوى وأكبرها. فمِن شأنه أن تتبعه طائفةٌ من الغاوين، الذين تلائمهم تلك العواطف الهوجاء، وذلك الخطاب المستميل. وذا ليس خاصا بالشعر، بل بكل من يلقي إلى الناس بكلام يحرّك شعورهم. إذ ليخاطب الإنسان شعور الناس ويؤثر فيهم= ينبغي أن يكون متقلبا كتقلبهم، وأن يكون أتباعه كذلك. فأين هذا من حال النبي ﷺ؟ إذ أتباعه ليسوا مستلبين بالغواية، أو طلابَ لذة، وإنما رجالٌ خرجوا من ديارهم، وهجروا دنياهم، وعرّضوا أنفسهم للهلاك، طلبًا للحقّ وحده، وكله متواترٌ بتواتر الحالة المكية، فمن اتَّبعوه لم يتَّبعوه لبلاغة تروق للهوى، بل لبلاغةٍ معجزة، ولا لأسلوبٍ يخاطب الشهوة، بل لما وجدوه حقًّا ثابتًا، لا يتلوّن كما يتلوّن الشعراء.

لذا استثنت الآيات الشعراء الأتقياء، ممن ليس غرضهم إرضاء الهوى والناس، بل التوسل بشعرهم إلى نشر الحق، وهم الأقل في شعراء العرب.

ثم إن الشعر غالبًا لا ينفكّ عن الكذب، من مبالغةٍ أو اصطناعٍ أو تصويرٍ لغير الواقع، لينفق على الناس ويعمل فيهم أثره، والقرءان منزّه عن هذا كله، فلا كذب فيه، ولا تلوّن، ولا مجاراة لهوى السامعين، بل كلّه صدقٌ وجدٌّ وهداية.

فكيف يبزّ النبي أهل الشعر بكلامٍ ليس شعرًا ولا كذب فيه أو جذبًا لأهواءهم، بل يعرضهم للخطر بمحض تلاوته والإيمان به؟ فللشعر أدوات جذبٍ ليست في القرءان إذن، ومع هذا فاقه القرءان تأثيرا وعملا، وجذب أتباعًا ليسوا هم أتباع الشعراء، إذ يتبع الشاعر الغاوون، لكونه يخلب هواهم، لا لموافقته نظر عقلهم وتقواهم، فهل أتباع النبي كذلك؟ هل اتبعوه لأنه أغواهم؟ أم عرّضهم للأخطار ولمفارقة الأهل والأحبة؟

وإذا كان الشعراء لا يثبتون على قولٍ، فكيف ثبت القرءان ثلاثًا وعشرين سنة على نسقٍ واحد، وغايةٍ واحدة، وأسلوبٍ واحد، ومقصدٍ واحد؟

وإذا كان الشعر يطلب رضا الناس، فكيف طلبَ القرءان سخط قريش كلها؟ بل وسخط كل من حوله ولو أهل كتابٍ سابق؟

فدلّ واقع الشعراء، وحال القرءان، وصنيع العرب، على أن اتهام النبي بالشعر قولٌ ساقطٌ لا يستوي على ساق.

.

7- التشكيك في واسطة الوحي وأصله، شيطان أو غيره:

.

فقد شكَّكَ المشركون فيمن يأتيه، فجعلوه شيطانًا أو رئيًا من الجن، ومثلهم طَعَنَ اليهود فيمن يأتيه، وهو جبريل، وذا من جنسه طعن المعاصرين في دلالة المعجزة، وأنها قد تكون من شيطانٍ أو كيانٍ آخر أيًا يكن ذلك الكيان، فلا يوثق به. وقد كان المشركون بها أعقل من المعاصرين، إذ كانوا يؤمنون بهذه الكيانات ابتداءً، في حين يطرحها المعاصر لمحض التشكيك، وكأن ثبوتها عن كيانات أخرى لا يضعه في معضلة أكبر، وهي لزوم إثبات هذه الكيانات، وعلمها وتدبيرها، وسُبُلَ تأثيرها وقصدها، ولا يفيده محض تجويز وجودها، إذ يبقى إشكال وجود الخارق وما يلزم عنه من إثبات غيبيات لها تدبيرٌ وقصدٌ في أرضنا، وتحذير ووعيد، مما لا يدفعه تشكيكهم في مصدر الخارق.

والرد عليهم بكل ما قيل في نفي كونه سحرًا، إذ به يتوصل إلى الجن والشياطين عند من يثبتها، فكل ما قيل هناك يقال هنا.

كما تجد ردًا عليهم في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ۝ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ۝ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ (الشعراء: 210–212).

فذكر أنه لا ينبغي لهم، إذ ليس مضمونه مما يناسبهم أو تصح نسبته إليهم، فذا نفي لنسبته من جهة مضمونه، إذ به الدعوة للخير، والحطُّ على الشيطان وحزبه، وتعليمنا ما يعيذنا منهم، والإعلان بعداوتهم: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ﴾ إلى ﴿مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ﴾ (الناس: ٤)، و﴿وَإِمَّا یَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ نَزۡغࣱ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ سَمِیعٌ عَلِیمٌ﴾ (الأعراف: ٢٠٠)، و﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ ٱلرَّجِیمِ﴾ (النحل: ٩٨)، و﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: ١٦٩)، و﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ﴾ (البقرة: ٢٦٨)، و﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (البقرة: ١٦٨).

ثم ذكر أنهم لا يستطيعونه، إذ فيه الغيوب التي لا تكون إلا من الله، وقد حجبهم عن سماعها، وذلك في القرءان: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ۝ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا﴾ (الجن: ٨–٩)، و﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ۝ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ (الجن: ٢٦–٢٧)، و﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ۝ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ۝ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ (الشعراء: ٢٢١–٢٢٣).

فمن أثبت الشياطين، بطبيعتهم التي لأجلها سموا كذلك، علم بالضرورة أن ما في القرءان لا يكون منهم، فقد جاء بالنهي عن عبادة الأوثان والمخلوقات، والربا، والزنا، وقطيعة الأرحام، والإفساد في الأرض، والعري، والسُّكر، والبغاء، والوأد، وأكل مال اليتيم، والحيف على النساء، وظلم العاملين والعبيد، والفحش، والقذف، والسحر، وشهادة الزور، والكذب بعمومه، والأيمان الكاذبة بخصوصها، وعقوق الوالدين، والنميمة، والتسمّع، والتجسس، واللعن، والمنّ، والسرقة، والرشوة، والغش، وقتل النفس، وقتل الغير إلا بالحق، والكبر، والعجب، والرياء، والقمار، والغل، وقطع الطريق، والدياثة، والقضاء الظالم، والبغي، والشتم، وإيذاء الغير، وإيذاء الجار، دع ما لم نذكره، ودع ما أمر النبي به مما يقابل هذا كله، ودليل ذلك آياته المتواترة، إضافةً لإرشادها إلى الاقتداء بالنبي في سنته، فأيّ شيطان هذا الذي يريد صرف الناس عن هذه الموبقات؟ إذ الشيطان إما أن يدعو إلى شرٍ أو إلى ما يصدُّ عن الخير، ولو إلى خيرٍ دونه، والعبرة بمجموع المنتقَل منه والمنتَقَل إليه، فلا يصح أن يقال: صدَّ عن كل هذه الموبقات لشرٍ جزئيٍ دونها، أو حتى يساويها. فأي شرٍ فوقَ هذه المنكرات أراد الشيطان صرفنا إليه بتأييد النبي الناهي عنها؟ إذ محض النظر في الوحي يوجب الحكم بأن الخير فيه يعلو الشر، وإن نازع الجاحد في بعض ما يزعمه شرورا، كيف إذا كان مجموع ما جاء به النبي ﷺ خيرًا محضًا يشهده القريب والبعيد؟ فلو كان المشركون متلبسين بالموبقات السابقة، لكانوا أولى أن تؤيدهم الشياطين هم! لا أن تؤيّد النبي، فما مرجّح اختصاص النبي بهم حينئذ والمشركون الآثمون أجدر؟

وذا رد على من يؤمن بشيطان مُفسِد كما قلنا، أما محيل النبوة إلى كيان مجهول سواه، فأنعم به من كيان أراد لنا الفضيلة والمكارم، وصدنا عن الموبقات، فلِمَ يَكذِبُ وهذا شأنه في الخيرية بنسبةِ الوَحيِ لرب العالمين؟ وهل يكذب إلا جاهلٌ او مفتقر؟ في حين ثبت لهذا الكيان -بما جعله في القرءان وبتسيير التاريخ لتصديق النبي- من الكمال ما يجعله بعيدًا عن كَذِبٍ يتنزه عنه ضَعَفة البشر، ومَخُوفًا لقدرته فلا يسع العاقل عدم اتِّبَاعه.

وأما عجزهم عن الغيوب فنفصّله بتحرير مدلول آية أخرى في الباب، وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة: 97-98).

فإنه نزَّلَه على قلب النبي تثبيتًا له، وأنه أورثه يقينًا بأنه مَلَكٌ من الله، وإن جاز ذلك بإذن الله الذي ثبت عقلًا وجوده وتدبيره وعلمه، حال كونه كذبًا وافتراءً= جاز الشك في كل اليقينيات التي يطمئن لها القلب وتجري تحت تدبير الله لعقولنا ومحسوساتنا. فثقتنا بأي يقينيٍ يوجب ثقتنا بأن الله لا يأذن بهذا الجنس من الضلال الذي يوجب الاستفساد العام، وقفل باب النجاة، واستحلال الدماء والأعراض والأموال باسمه، إذ تجويزُ هذا العبثِ يفتح باب تجويز مثله في كل ما تحت ملكوته سبحانه، مما هو دونه في الأولوية.

فإن قيل: هذا يقين النبي فقط، والغرض الرد على الشاكِ في وثاقة الواسطة. قلنا: بل هو يلزم كل عاقلٍ يتيقن شيئا ولا يقبل دفعه بمحض تجويز إضلال الإله. وكونه نزل عليه ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ -الثابت عقلًا تدبيره وإذنه- يستدعي أن الله عالمٌ به، وينزه الله عن العبث والإذن بهذا الذي يفسد الدنيا والدين، بتكلم ملَكٍ ثم رجلٍ باسم رب العالمين.

وقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ آية أخرى في أنه ليس من شيطان أو كيان آخر سوى الله، إذ تصديقه لما قبله كائن بأمور كثيرةٍ مركبة لا يقدر عليها إلا الله، منها: إنزال الكتب السابقة، وتدبير سِيَرُ أنبيائها، ثم تسيير الكون وحوادثه لتنتهي إلى تصديق أولئك الأنبياء، بمولد النبي واسمه وسيرته وما أتى به ثم بظهوره. فهو إذن تحكمٌ بالتاريخ كله، والقادر عليه مطلق العلم والقدرة والتدبير، وذا هو الله. فإن قيل: هذا عند اليهود والنصارى وليس عند الملحد. قلنا: دليل هذا عقلي، وأدنى ما يقال: إنّ القادر على هذا موجودٌ عظيمٌ واجبُ الطاعة، صادقٌ في قوله: إنه الله، أو مَخُوفٌ لا عذر في تكذيبه وتحمُّلِ المجازفة بذلك.

ثم قال: ﴿وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، إذ لو كان النازل عليه عدوا لله شيطانًا لم يكن من شأنه أن يأتيَ النبيَّ بالهدى والطاعة لله، حال كونه بشرى للمؤمنين، أي من يقصدون إلى الإيمان حقًا! أما من يجحدون دلائل الوحي ودلائل العقل، فليسوا قاصدين للإيمان، ومن ثمَّ ليس بشرى لهم، وفيه إلزام كل من هو مؤمن بوجود الحق والبحث عنه= ألّا يشك في أن الله لا يأذن بمثل هذا الفرض -أن يكون المنزَّل من شيطان أو بغير إذن الله- حال كونه يؤمن بأن الله عالم حكيم مدبر لا يقع شيء إلا بإذنه.

وفي بقية القرءان ردود أخرى مضمّنة على هذا، كالذي ذكرناه سابقًا من اختصاصه سبحانه بالغيوب، وتؤكده القاعدة المقررة بأنه لا يعلم الغيب إلا الله أو من يطلعه الله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ۝ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ (الجن: 26-27). فذا ثابتٌ عقلًا، إذ لا يُعلَمُ الشيءُ إلا بالاطّلاع عليه أو على أسبابه، والغيب المستقبل خصيصى غيرُ موجودٍ ليٌطَّلَعَ عليه، فبقي الاطَّلاع على سببه، والممسك الأحد بمفاتيح الغيب ومعاقد الأسباب هو الله، بدلالة العقل على وحدانية المؤثر المستقل الذي تنتهي إليه سلاسل الأسباب: ﴿مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدࣲ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنۡ إِلَـٰهٍۚ إِذࣰا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهِۭ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یَصِفُونَ﴾

فهو وحده سبحانه العالم بماجريات المستقبل، ومن ثمَّ فكل ما في القرءان من غيبيات وإخبار عن مستقبلات دليلٌ على أنه نزل على النبي من الله، أو بواسطة مَلَكٍ أبلغه الله.

زد الآيات التي تنفي العبث والخلق سدى عن الله ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون: 115) فتنبه لما أثبته العقلاء ورسخ في الفطرة من ذلك، إذ العقل يمنع ترجيح فعلٍ على آخر بلا مرجح، ولا تجد أحدًا يثبت الله إلا ويجد فطرةً أنه كامل، وأنه لا يفعل إلا لحكمةٍ وغاية، إلا من نكست فطرته كلاميات ظنية تنازع أهلها، وحتى هؤلاء تجدهم يلهجون بما يقتضي الحكمة والغائية حال غفلتهم عن النظريات، فلا بد من اتصال وخطاب منه سبحانه إلينا يطلعنا على غاية خلقنا. وأي حكمة وغاية للخلق تبقى إن تَرَكَ الشيطانَ أو أي كيان آخر يتكلم باسمه دون مفرّق بين ما هو منه وما هو من غيره؟ فيقفل باب العلم بما يريده سبحانه من خلقه، ويقيم عذر الخلق في تهارجهم واتباعهم كل ما يتبعونه من الأديان والمذاهب.

ولا يحتجن أحدٌ بأهل الفترة، إذ من يبلغه دينُ نبيٍ سابقٍ وَجَب أن يتّبعه، ومن قام عذره منهم فحشوُ الأرض، قد خُلِقوا لغايات أخرى، وحسابهم واختبارهم على الله، فليسوا ما لأجله خلق الله السماوات والأرض، بل خلقها لأجل من كلفوا بالإيمان وقامت عليهم الحجة.

ولا يقال: كان بالإمكان تحقيق مراده منهم بخلق علومٍ ضرورية فيهم، لا يخامرها شكٌ أو غفلة، فذا حقيقته الجبر على الإيمان! ويكفي لدفع هذا ألَّا يكون مرادًا لله، إذ ليس مراده سبحانه محضُ إعلامهم أن ها هنا أنبياء، بل الاختبار، أي اختبارهم بتصديق رسالاته واختيار ذلك مع قدرتهم على ضده، فهل تُكلَّفُ باختيار محسوسك؟ وهل تُكلَّف باختيار العلم بأن النقيضين لا يجتمعان؟ فإن أردوا علمًا ضروريًا مُجبِرًا فذا يقفل باب التكليف باختيار التصديق والأخذ بأسبابه، وينتفي به ما لأجله خلق الأرض وسخرها، وما لأجله جعلهم فيها مفطورين على العلم به وطلب الحق من جهته. فإن أريد: خلقُ علومٍ ضرورية لا تمنع الغفلة واتباع الهوى واختيار عدم الإذعان والكفر، بقي الأمر كما هو، بل الناظر في أدلة النبوة يصلُ إلى هذا اليقين، بشرط الإخلاص وطلب النجاة. ثم إن لله مرادات أخرى بوجود الأنبياء ووجود من يكذبهم، وغايات عليا شأن حصولها هذا المسلك.

ونختم بحث الشبهة بالآيات التي تهون من كيد الشيطان: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ (النساء: 76)، و﴿مَا كَانَ لِي عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ (إبراهيم: 22)، و﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ (الحجر: 42). فأنت أيها الإنسان الضعيف تخنسه، ولا يستطيع إلجاءك إلى خلاف الطاعة إلا بوسوسة، وهذا مدرك بالوجدان، فأنى لمن هذا قصاراه أن يقدر على كتابٍ يهدم الجاهلية، ويقيم أمة، ويخبر بالغيب، ويغيّر مجرى التاريخ، ويقهر العرب والعجم، ويأتي بنظامٍ لكل شيء؟

ويقال هذا في أي كيانٍ علوي، إذ أين أثره فينا ما دام قادرًا على مثل القرءان وخوارقه وغيبياته؟ فكل ما قيل في الشيطان يقال في غيره، بل الشبهة في الشيطان أعلى إذ من شأنه الإضلال والكذب والصرف عن الحق عند مثبتيه، فالتوجس من تدخله مسوَّغ، فما شأن الكيان الوهمي عند من لا يثبت شيئًا، وما غرضه في كل هذه السردية؟

.

8. شبهة الاقتباس والتعلم من البشر

.

كذلك محاولتهم نسبة ما أتى به لأعجميٍ أو لأساطير الأولين، فمثله محاولات المعاصرين من مرددي دعوى "المنابع البشرية" للقرءان، كأنّما جاء ترجمانًا لكتب سابقة، أو كأنه منقولٌ عن الأحبار والكتابيين. وهذه الشبهة -وإن تشابه لفظُها- فالمشركون فيها أعقل، لأن القرءان كان يتنزّل بين أيديهم شيئًا فشيئًا، وما كانوا يُحيطون بجميعه، ولا كانوا محيطين بما عند الكتابيين، فسهُل عليهم الرمي في عماية، أما المعاصر فإن القرءان بين يديه كاملًا، ويستطيع اليوم سريعًا عقدَ المقارنات، ومراجعةَ مئات المخطوطات، والتمييز بين التوراة والسامرية، والسريانية والعبرية، وبين موجودها وما اندثر منها. ثم إن المشركين كانوا في خضمّ المنازعة، جاهلين بالعواقب، في حين علم المعاصر نتيجة النزاع، وبلغته ثمرةُ عجز المشركين عن الإتيان بمثل القرءان، وذلك بظهور الدعوة وعدم المعارضة، مع كون خبرها -ولندع لفظها- أيسر نقلًا من القرءان، وأعظم أثرًا في هدم الدعوة مما ينصرها، دع ظهور بيان الوحي ولغته لقرون بعد ذلك، مع ما أثمره من علوم لغة وبيان. بل حتى التقاطعات النصية والمعنوية مع الكتب السابقة، يستطيع المعاصر في ثوان أن يعرفها، ويدرك كونها تقاطعات مع رسائل ومخطوطات متعددة، متنوعة، نادرة، فلا يمكن أن تكون من أعجمي واحدٍ، أو اثنين، أو عشرة! لا سيّما في جزيرة العرب وفي ذلك الوقت، بل ولا من حبرٍ عليمٍ من بطون فارس والروم والإسكندرية إن تنزّلنا.

وكل ما قيل في الرد على شبهة التشكيك في سيرته يُقال هنا، من أنه لبث فيهم عمرًا، وشهدوا سيرته، ولو استطاعوا أن ينموا القرءان إلى غيره لفعلوا، وكانوا بذا أولى.

وقد رد القرءان عليهم كذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ (النحل: 103).

فالقرءان إنما كان معجزًا لما فيه من الدلائل العائدة إلى اللفظ، فبتقدير أن يكونوا صادقين في أن النبي ﷺ يتعلم تلك المعاني ممن أحالوا إليه، فإن ذلك لا يقدح في المقصود، فيكون أعجزهم بصياغته العربية لما تعلمه أعجميا.

وقد كان كذبهم قبل هذا في دعوى التعلم، إذ تعلم ما به يؤلف القرءان لا يتم خفيةٍ أو بغتةً من الزمان، بل يحتاج أزمنة متطاولة ويشتهر، بل لو وُجِدَ معلمٌ قادرٌ على مثل مضامين القرءان الموسوعية لاشتهر، دع إثبات اتصال النبي به. والنبي لبث فيهم عمرًا، وما شهدوه خط بيمينه، أو مارس شيئًا من هذه العلوم، دع تعلمها من غيره والجلوس إليه زمانًا يفسر كل ما أتى به.

وقال تعالى أيضًا حاكيًا شبهتهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ۝ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ۝ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (الفرقان: 4-6). فأجابهم بقوله: ﴿فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾، وهذا القدر على قصره كافٍ جوابًا،  إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وما اتصف به القرءان لا يحتمل جعله منسوبًا لغير إله، كيف ولو كان من آخرين لأمكنهم أن يعارضون بآخرين مثلهم. أما الزور فالشهادة الكذب، وقد شهدوا مكانة القرءان وشهدوا عجزهم، وسُجِلَ عليهم بمتواتر الأدلة وبمحض ظهور الدين القائم على دعاوى هي أسهل ما تكون  دحضًا إن كذبت، ولا أريد الدحض بالمعارضة، بل يكفي تكذيب أي جملةٍ خبريةٍ في القرءان. فهي شهادة زورٍ إذن، وليأتوا بشاهد واحدٍ لئلا تكون زورًا إن استطاعوا.

ثم زاد الوحي بقوله: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ...﴾، لأن القادر على مثل القرءان لا بد وأن يكون عالمًا بالأسرار باقرًا لبطون الكتب، مطلعًا على خفايا الغيب، فهو مشتملٌ على غيوبٍ ماضية وحاضرة ومستقبلية لا يعلمها إلا إله، ونُظمٍ لا يبلغه بشر وإلا لنظم مثله أولى الناس بذلك، وتشريعٍ يقيم أمة تمتد إلى قيام الساعة، وعلومٍ تتوزّع على حقول كثيرة، وتقاطعات مع كتب لليهود والنصارى وغيرهم لا يحوزها ويطلع عليها كلها اليوم أحد، دع سابقًا، دع في الحجاز، فكيف يكون كل هذا من بشري، فضلاً عن أعجمي.

ويتأكد دفع الشبهة بكل آية تتحدى العرب أن يأتوا بمثل القرءان، بل بعضها يتحداهم أن يأتوا بآيات "مفتريات"، كما قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(هود: 13).

أي لا داعي لمراعاة مضمونها الخبري، بل يكفي أن تقارع بلاغة القرءان ونظمه. فلتكن مفتريات كما افتري، وليكن مضمونها من مبتدعات عقولكم، لئلا تتذرعوا بأن مضمونه ليس إليكم إذ لم تحوزوا ما حازه النبي بزعمكم من معلمين أعاجم أو كتابيين. فافتروا مثله، وعارضوه مستعينين بمن شئتم. ولا يُقال: مَن الحَكَم الشاهد بأنهم عارضوه حينئذ وأتوا بمثله إن فعلوا؟ إذ نقول: النبي تحداهم حال الاستضعاف، فهم الخصم والحكم، وأشهدهم على أنفسهم ﴿وَإِن كُنتُمۡ فِی رَیۡبࣲ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُوا۟ بِسُورَةࣲ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُوا۟ شُهَدَاۤءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾(البقرة: 23)، دع أن المشتكل ملكيٌ أكثر من الملك، فإنهم ما نازعوه في المعيار وحد المثلية بل قالوا: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا﴾ (الأنفال: 31)، ولو وسعتهم الحيلة أن يأتوا بأي شيء مقارب ويدّعوه مِثلًا لأمكنهم، لكن عجزوا وكانوا أعزَّ عن هذه الفضيحة، وأدرك لوجوه مباينة ما أتى به لما هو في طوقهم.

وأخيرًا، فإن القرءان نزل مُنَجَّمًا، ومن غايات نزوله مفرقًا على بضع وعشرين سنة= تثبيت فؤاد النبي، ومن ثَمّ أفئدة أصحابه، فقال سبحانه: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَیۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةࣰ وَٰحِدَةࣰۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَـٰهُ تَرۡتِیلࣰا ۝٣٢ وَلَا یَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَـٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِیرًا ۝٣٣﴾ (الفرقان: ٣٢-33) وكذلك: ﴿وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَـٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا مُبَشِّرࣰا وَنَذِیرࣰا ۝١٠٥ وَقُرۡءَانࣰا فَرَقۡنَـٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثࣲ وَنَزَّلۡنَـٰهُ تَنزِیلࣰا ۝١٠٦﴾ (الإسراء: ١٠٥-١٠٦)، وحسبك بهذا دليلا، إذ نزوله منجَّمًا يدفع احتمال قبسه ممن سبقه، فالآيات نزلت تشهد للأحداث، فمن ذا الذي كتب قبله وأعلمه بوقائع غزواته وحوادث مكة والمدينة؟ إذن السابق نبي، وجُرَّت النبوة إلى رجلٍ قبله لا أكثر! حال بقاء دلائل النبوة كما هي. ثم إن النبي كان يأتيه الوحي وهو بين أظهرهم، كلما نزلت نازلة أو عنَّ سبب، فأين أخفى النبيُّ ذلك المعلِّمَ الملازِم في الحل والترحال، الذي يفزع إليه كل حينٍ ليقبس منه آيات القرءان؟ دع حاجته للجلوس بين يديه ليحفظ الآيات الطوال ويكررها كي لا يخطئ فيها حين يستعلن بها، في حين أُلزِمَ النبي بالوحي ألا يحرك به لسانه ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦۤ ۝١٦ إِنَّ عَلَیۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ۝١٧ فَإِذَا قَرَأۡنَـٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ۝١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَیۡنَا بَیَانَهُۥ ۝١٩﴾ (القيامة: ١٦-١٩)، فصار ممتنعًا أن يُشهَدَ وهو يتكلف حفظ القرءان، وإلا كذب الوعد الإلهي.

.

9. شبهة تقليد الآباء

.

إذ سأل المشركون عن مصير من سبقهم، من الآباء والأجداد، ففيهم المتألهون المُعَظَّمون الذين كانوا أهل إخلاص في الحق وبحثٍ عن الحقيقة، وقضوا نحبهم على ما يجعله الإسلام باطلا، وبشبيه قولهم يقول المعاصرين، فيقلدون من بيدهم زمام السلطة الغالبة، ومن حاز الشهادات والوثائق الأكاديمية، ويستكثرون بمن علا ببعض شؤون الدنيا. وقد كان المشركون أقل جهلًا منهم، إذ كانوا مقلدين لأجل العاطفة أولًا، ثم كان وجه حجتهم الطعن في حكمة الله ورحمته بمن رأوهم جديرين بالهداية وإصابة الحق والنجاة، فسألوا عن مصير آبائهم، وعن إيمانهم الموروث وتخطئته، ولم يقلدوا لمحض الانبهار والإمعية لغالب آخر ليس منهم ولا هم منه.

وقد رد القرءان هذا الضرب من التقليد في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170)، وقوله: ﴿وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ۝ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾ (الزخرف: 23-24).

وفيه أن العبرة بالهدى، فإن جاءهم النبي بما هو أهدى فقد وجب المصير إليه، وأن صنيعهم كصنيع من هلك ممن قبلهم، ممن يعرفونهم ويقرون بأنهم كانوا مخطئين في اتباعهم آباءهم وتقليدهم كبراءهم. وذا رد على المعاصر أيضًا،  إذ يعلم بأمثلة لا تحصى سقوط "السلطة الغالبة" في أخطاء فاحشة، علمية وغير علمية، وانقياد الجموع لها بأسباب سوى حيازة الحق وانتهاض الدليل.

.

10. شبهات حول كيفية الوحي والنبوة

.

فكان ممّا اعترض به المشركون على النبوّة قولهم:

﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف: 31)،

يعنون أن الرسالة ينبغي أن تُجعل في يد عظيمٍ من عظمائهم، ممن زخرف الدنيا بين يديه، معتدين بالجاه دون الهدى. وقالوا: ﴿مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ (الفرقان: 7)، اهتداءً بالصورة التي رسمتها أوهامهم لجنس النبي، وكأن البشرية تنافي الرسالة، وكأن الإله لا يصطفى إلا من قعد عن حاجات الجسد.

ثم طعنوا ثالثة في كيفية التنزيل، فقالوا:

﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ (الفرقان: 32)،

ورابعةً في ذات القرءان، قائلين:

﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾ (يونس: 15).

وهذا كله من جنس اعتراضات المعاصرين على كيفية الوحي، واشتراطاتهم لكيفيات وحيٍ أفضل بزعمهم. وقد كان المشركون أعقل كما سبق، إذ اعتراضاتهم تتعلق باشتراط ما يصب في مصالحهم وما يعظمونه، حال كونهم لا يعلمون بعدُ أيَظهَرُ النبي أم يُغلَب، فيطلبون ما يظنونه يؤتي ثمارًا أفضل ويلجئهم للإيمان حال جهلهم بمآل الأمر وحكمة الله. في حين يعترض المعاصرون بما يتسق مع حكمةٍ أو واقع، كطلب أن يأتي بتفاصيل علمية لا تفيد عصر من تنزل عليهم، أو اشتراطهم ألَّا يكون النقل شفهيًا وكتابياً، أو أن يودع الله في نفوسهم علومًا جبرية بصدق الوحي. وهي اشتراطات لا معنى لها، إذ الكيفيات المزعومة التي يطالب بها المعاصر لا تزيد في الهداية ولا تصلح زمناً، فإن الوحي نزل على قدر، وتدرّج، ورافق الأحداث، وصحّح النفوس، وربّى أهل الإيمان، ثم إنَّ الكيفية التي كانت آتت ثمارها وانتهى، وثبتت حكمتها حين قُضيَ الأمر، فدلَّت الثمرةُ على صواب الكيفية وصِدق التدبير المسبق. فقد انتصر النبي وظهرت الدعوة، كما قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ (النصر: 1)، وأظهر الله دينه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33)، كما عصم نبيه من الناس حتى تمت الدعوة: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة: 67)، وأكمل الدين: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة: 3). كما رد القرءان بأن الله هو يقسم رحمته لا هم: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ (الزخرف: 32)، وأن النبوة اصطفاء من الله بحكمة: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: 124)، وأن ما جاءهم كافٍ في البيان والهداية: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ﴾ (العنكبوت: 51). ورد على طلب إنزال ملك بأن كل جنس يرسل إليه من يناسبه: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ (الأنعام: 9). فمن يشترط على الله كيفيات أخرى للوحي، بعد أن ظهرت الثمرة، وتمّت النعمة، وكمل الدين، فهو كمن يشترط على الشمس أن تشرق من الغرب، ويحسب أنه يزيدها نورًا لو فعلت!

.

11. شبهة إنكار البعث

.

كان من اعتراضات المشركين طعنهم في البعث، ومثله اعتراض المعاصرين بالنظريات العلمية المعاصرة، لا سيما النظريات المتعلقة بنشأة الكون والحياة، في حين كان المشركون أعقل، فاعترضوا على المآل، إذ رأوا العظام رميمًا، فقاسوا ما سيكون بما شاهدوه، كما في قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ (يس: 78). في حين يعترض المعاصرون بما لا يرونه ولم يشهدوه، وبما يناقض مبادئ عقلية كالسببية والتعقيد الغائي وغير ذلك. وكان الرد على المشركين بتذكيرهم بأن القادر على السماوات والأرض وعلى نشأتهم لا يعجز عن البعث: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (يس: 79)، وقوله: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ (يس: 81). وأما المعاصر، فالرد عليه فبأدلة وجود الله، كالآية الرابطة بين الإيقان وكونه سبحانه رب السماوات والأرض: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ (الشعراء: 24). فإن كانوا يوقنون بشيءٍ... أي شيء، فأدلة الربوبية فوقها أو تبنى عليها، وهي دالة على أنه رب العالمين من باب أولى، بما في السماوات والأرض من آيات الخلق والإحكام. وكذلك الآيات التي تتكلم عن تسخير الخلق وتقديره وإتقانه وما فيه من غايات وحِكَم، وهي كثيرة يطول حصرها، والتي لم تنزل لمجادلتهم في وجود الله، إذ كانوا أعقل من جحد وجوده، ولكن في تنبيههم إلى أن من سخر لهم كل هذا وأتقنه عالمٌ حكيمٌ مدبرٌ لا يدعهم هملاً، ولا يسبب وجودهم عبثاً دون أن يرسل إليهم بغاية خلقهم، أو يتركهم لنبيٍ بدلائل صدقٍ وهو كاذبٌ في نفس الأمر. ومن تلك الآيات الجامعة قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ۝ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾ (الطور: 35-36)، والتي أريد بها التنبيه إلى أنهم لم يخلقوا لغير غاية ستبلغهم، وتتضمن الإشارة لدليل الحدوث، وأن هذا العالم لم يأت من عدم، وغير ذلك.

.
خاتمة

.

هذه حججٌ قائمةٌ على من سمعها من العرب، وتقوم على من بلغته من المعاصرين، ولا سبيل لدفعها إلا بإبطال تواتر معاني الآيات الواردة هنا إلى زمن النبي ﷺ، فلو أمكن المنازع التشكيك في آياتٍ أخرى أو في ألفاظها، فلا يلزمنا الاشتغال بشكه، إذ العبرة بتواتر معاني الآيات المحتج بها إلى طبقة النبي ﷺ، كيف وقد تواترت ألفاظها وإن رَغِمَت أنوف؟

هناك تعليق واحد: